أهمية القصد في التواصل اللغوي
إذا كانت اللغة كما قال عنها ابن جني ( أصوات يعبر ها كل قوم عن أغراضهم) فإنه يتضح جليا أن الهدف الأساس من اختراع (اللغة) هو إيصال مقصود المتكلم للمتلقي، وقد انتبه أسلافنا ( علماء العربية) لهذا الأمر فأصّلوا له وبرهنوا على أهميته، يقول ابن سنان الخفاجي (ت 466ه) " والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن الكلام غير مقصود في نفسه، وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم ويفهموا المعاني التي في نفوسهم، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني، ولا موضحة لها، فقد رفض الغرض في أصل الكلام، وكان بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع، ويجعل حدّه كليلاً، ويعمل وعاء لما يريد أن يحرزه، فيقصد إلى أن يجعل فيه خروقاً تُذهب ما يُوعى فيه، فإن هذا مما لا يعتقده عاقل، ثم لا يخلو أن يكون المُعبّر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه، فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه، وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة فهو أبلغ في غرضه" [ سر الفصاحة:212].
فالمتكلم محتاج أن يلتزم قوانين المحادثة ليصل مقصوده من إنشاء الخطاب للمتلقي المقصود بذلك الخطاب، والسامع محتاج لالتزامها ليفهم مقصود المتكلم، وقد نجد حاجة المتكلم لإيصال مقصوده أكبر، لذلك نجده يجتهد ليكون خطابه مفهوما معبرا بصدق عن ذلك القصد، فهو يضع نصب عينيه افتراضات عن السامع وقدراته اللغوية، بل العقلية أيضاً، التي تسمح له بفهم الخطاب وترجمته إلى قصد، فتجد المتكلم ضمن حدود هذه القدرات لا يتخطاها، لحرصه على إفهام المتلقي فحوى كلامه، وليس شكل الكلام، فنجد التركيب يتلون بحسب تلك القدرات التي يمتلكها المتلقي، ونجد المتكلم يقدّم ويؤخر، يحذف ويزيد، ويضع من أدوات التوكيد ما يناسب حالة المتلقي التي يعرفها أو خمنها، فإذا كان المتلقي المقصود بجانب أناس لا يريد المتكلم أن يفهموا كلامه، فإنه يستعمل محسنات بلاغية يعلمها المتلقي المقصود، كالتورية والكناية وغيرها. ويعمد للاستعارة والتضمين، ويستخدم الأمثال والرموز، ومن هنا نشأت مستويات اللغة بحسب مستويات المتلقين لها.
إذن حدود قدرات المتلقي هي التي تسيّج حدود الخطاب وإمكانات المتكلم تلونه وتعطيه أصباغاً محتمة التأويل عند المتلقي، وحتى في حالات الاستعارة والتضمين والحذف، إن لم يكن لها دلالات واضحة واحتمالية تأويل عند المتلقي المقصود، فإنها تعدّ مغالطات غير صالحة للتداول.
يفصّل ابن الأثير في احتياجات صاحب صناعة الكلام ويجملها في ثلاثة أشياء : 1) اختيار اللفظ. 2) والنظم . 3) والقصد. فيجعلها أصلا معتمداً عليه في أية عملية إنشاء للخطاب [المثل السائر:1/245، 246]. ويؤكد ابن خلدون على أن أسباب وجود ملكة اللغة في طباع البشر إنما هو للتعبير عن المعاني، والملكة تتضح بجلاء في التراكيب أكثر من الألفاظ المفردة فإذا روعي في التركيب مقتضى حال السامعين فقد " بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة" [ المقدمة: 764].