قضايا الأصول التراثية في اللسانيات المعاصرة:
عرض وتحليل
د. عاصم شحادة علي
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
كلية معارف علوم الوحي والعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية وآدابها
ملخص البحث
عند النظر في قضايا اللسانيات المعاصرة في العالم العربي نجد أنها واجهت إشكاليةً في التجديد، وقد نجد من يحاول أن يجعل التراث خالياً من الملاحظات والمنهجية، وجعل اللسانيات بوصفها لغة موصوفة، فتكون إما مفاهيم وصفية أو أصولاً وتأملات. وثمّة من يرى أن الآلة الواصفة للغة العربية في اللسانيات تحتاج بالضرورة إلى مفاهيم القدامى العرب، وهو شيء في رأي هذا الفريق يعد خاطئاً. لذلك نرى أن القدامى أولوا اللغة العربية اهتماماً واسعاً، وقدموا ملاحظات ذات قيمة حول قضاياها وكانت رؤاهم تعد بالنسبة إلى زمانهم متطورة، وأنه يمكننا تتبع المفاهيم التي أتوا بها ومقارنتها ببعض المفاهيم في اللسانيات المعاصرة. لذلك سيقوم البحث بتتبع القضايا المعاصرة في اللسانيات خصوصاً، ومحاولة إسقاط هذه المفاهيم على جهود القدامى العرب للوصول إلى حقيقة مفادها أن التراث العربي القديم في مجال اللسانيات مليء بكثير من المفاهيم التي سبقوا فيها الغربيين بشكل واضح ومنهجي.
مقدمة: عند النظر في تاريخ اللسانيات في العالم العربي نجد أنها واجهت إشكالية التجديد، وقد تجد اليوم من يحاول أن يتهم اللغوي العربي بخلوه من الملاحظات والمنهجية، وقد رأى بعضهم أن التراث في مجال اللسانيات إما معطيات موصوفة أو مفاهيم وصفية أو أصول وتأملات، ورأوا أن الخطأ الأول في تصور التراث هو اعتقاد أن لا بدّ من توظيفه في بناء نحو يصف اللغة العربية، وأن اعتقاد أن الآلة الواصفة للغة العربية المعاصرة أو القديمة تحتــاج – ضرورةً- إلى مفاهيم القدامى العرب وأصولهم، اعتقاد خاطئ من وجهة نظرهم.))
وفي المقابل ثمة من رأى أن العرب القدامى قد أولوا اللغة العربية اهتماماً واسعاً، وقدموا ملاحظات ذات قيمة حول قضاياها، وتعد رؤاهم هذه بالنسبة إلى زمانهم متطورة، وقد قاموا بجهد هائل في دراسة اللغة، واجتهدوا في جمع أصول اللغة ولمِّ شتاتها واستنباط أحكامها العامة، بل رأوا أنه بالإمكان تتبع المفاهيم التي أتوا بها ومقارنتها ببعض المفاهيم الألسنية المعاصرة.)(
فقضية العودة إلى التراث القديم ليست شيئاً جديداً على المعاصرين العرب، فقد جاء في كتاب تشومسكي "اللسانيات الديكارتية")( مدى اهتمام اللغويين المعاصرين بضرورة العودة إلى التراث القديم من أجل التقارب بين بعض جوانبه المهملة وبين المفاهيم اللغوية الحديثة؛ وأبرز تشومسكي أوجه الاتفاق والالتقاء بين معطيات نظريته التوليدية التحويلية وبين القواعد التي أرساها (ديكارت) التي أطلق عليها قواعد (بورت رويال). ومن العلماء الذين ربطوا الفكر اللغوي القديم والبحث اللساني الحديث ليوردي ولِبتشي ومونان وكريستيفا وروبنز وغيرهم.)(
لذلك فإن اتهام التراث العربي اللغوي بالنقصان والزيف أحيانا يجب أن يكون في حدود التخصيص لا التعميم، لأن الملاحظات والتحليلات التي أثارها القدامى يمكن أن تعبر عن مناهج المعاصرين في اللسانيات المعاصرة، وهذا جعل كثيراً من علماء الغرب في مجال اللسانيات يتجاهلون جهود القدامى العرب في مجال الدراسات اللغوية لأسباب سياسية أو فكرية أو للجهل المطبق أو لظروف أخرى لا نعلمها.)(
ومن ناحية أخرى هناك اعترافات للغربيين المعاصرين بالجهود اللغوية العربية القديمة وإسهامها في مجالات عدة، ومنها: الدراسات الصوتية والدراسات المعجمية، حتى إن بعض الغربيين المنصفين قد ألفوا كتباً تتحدث عن جهود القدامى العرب.)( وثمة قضايا تناولها المعاصرون العرب توصلوا عبرها إلى نتائج مهمة أثبتت أن الفكر اللغوي العربي له بدايات في ذكر كثير من القضايا المتعلقة بالمباحث اللغوية المعاصرة، سواء من ناحية المناهج الوصفية البنيوية أم التوليدية التحويلية أم تعاريف اللغة أم في موضوع الجهود النحوية التي قام بها العلماء قديماً. أما القضايا التي أسهم فيها القدامى العرب في مجال اللسانيات فهي كما يأتي:
تعريف اللغة: اهتم العرب القدامى بتعريف اللغة، وذكروا تعريفات عدة للغة تتفق أحياناً مع ما طرحه المعاصرون الغربيون، فمثلاً أشار الكياهرّاسي إلى أن الكلام حرف وصوت.. إلى قوله: "وكان الأصل أن بإزاء كل معنى عبارة تدل عليه، غير أنه لا يمكن ذلك؛ لأن هذه الكلمات متناهية، وكيف لا تكون متناهية ومواردها ومصادرها متناهية".)( ونجد عبارة (موارد اللغة ومصادرها متناهية)، تشابه ما ذكره همبولت الذي ركز على الجانب الخلاق في اللغة وتختلف اللغة في الجزء الثاني المتناهي في الكلمات المتناهية، وربطها بالعقل عبر منهج توليدي، وأن اللغة عمل العقل؛ ولذا ثمة عوامل تكمن تحتها وهو شكل اللغة الخارجي(الآلي) وشكل اللغة الداخلي (العضوي)، والشكل الداخلي العضوي هو الأهم عنده لأنه يتطور من الداخل فهو البنية العميقة لما يحدث على السطح. وأما تشومسكي فقد تحدث عن القدرة اللغوية لدى الإنسان والأداء الكلامي، وقد عرّف الكفاية اللغوية بأنها القدرة على إنتاج عدد هائل من الجمل من عدد محدود من الفونيمات الصوتية والقدرة على ربط الأصوات المنتجة وتجمعها في مورفيمات تنتظم في جمل.)(
ويمكننا تلمس ما ذكره الكياهرّاسي عن الأصوات التي تخرج من أقصى الرئة إلى منتهى الفم، وأنه لا يحدث في إفرادها المقصود، فركبوا منها الكلام ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً، وقوله: هذا هو الأصل في التركيب. أما دراسة القدامى للغة فتماثل ما ذكره المعاصرون في الغرب في مسائل عدة، ومنها:
نظرية النظم وتشومسكي
رفض تشومسكي المنهج الوصفي في النحو، ورأى أنه لا يدرك الجوانب الإنسانية في اللغة وذكر الواقع اللغوي عبر التعامل مع الآخرين، وربط اللغة بالجانب العقلي، وهذا التصور لتشومسكي أشار إليه عبد القاهر الجرجاني حينما تحدث عن نظرية النظم، وتشابه فيها مع فكرة التحويل والتوليد. فالجرجاني يرى النظم يتوقف على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون منه، وهذه الفروق أو الوجوه ذكرها كثيراً وليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا نجد لها ازدياد بعدها، وقد نص الجرجاني على معنى التحويل والتوليد عندما بيّن أن المعاني (النحوية) مثل سبيل الأصباغ (الألوان) التي تعمل منها الصور والنقوش، واختلاف النظرة للقارئ لهذه الألوان.)) ونص الجرجاني على أهمية المعنى في تشكيل التركيب، كون التحليل اللغوي يهمل المعنى الذي يكون مثل وصف تركيب السفن دون أن نشير إلى البحر، حيث يقول: "إن النظم ليس شيئاً غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتب المعاني في نفسك ثم تحذو ترتيبها الألفاظ في نطقك".
وهذا ذكره تشومسكي كما سنذكر، وقد واصل الجرجاني في مناقشة الطاقات التحويلية القائمة على الحذف أو الإضافة في هذه التراكيب، بقوله: عبدالله قائم، إن عبدالله قائم، إن عبدالله لقائم، ويعني التركيب الأول الإخبار عن القيام والثاني عن سؤال لسائل والثالث الجواب عن إنكار المنكر.)(
ثم يعرض التحويل في التركيب: زيدٌ ينطلقُ، زيدٌ منطلِقٌ. فالأول عنده يعني الحدوث المتجدد وإخبار من لا يعلم بأن هناك انطلاقاً، أما التركيب الثاني فيعني ثبات الحدث ودوامه، والتأكد من أن الانطلاق كان من زيد، وهذا يتشابه مع عناصر التحويل لدى تشومسكي.)(
أما فيما يتعلق بالبنية العميقة (DEEP STRUCTURE) والبنية السطحية (SURFACE STRUCTURE) في التركيب،)( فقد تناول الجرجاني مثالاً يعين على إيضاح هذا المفهوم الذي ذهب إليه تشومسكي، فمثلاً يقول الجرجاني: "إذا قلت ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له، فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم لتفيد أنفس معانيها، وإنما جئت لتفيد وجوه التعليق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه، والأحكام التي هي محصول التعلق". ويبرز في كلام الجرجاني مفهوم البنية السطحية والبنية العميقة التي أشار إليها تشومسكي، ويقـول الجرجـاني: "فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معانٍ".)) فالعلاقة بين تشومسكي والجرجاني تلتقي عند مراعاة النمط الخاص للعلاقات داخل النظام اللغوي، والمحافظة على نظم الكلام بتحويل القاعدة النحوية التي تحافظ على قانون النحو من أن المبتدأ هو ما يبتدأ به الكلام، وبهذا لامس الجرجاني ما قال به تشومسكي من أن الجمل هي الوحدة اللغوية الأساسية فيها بنية عميقة وبنية سطحية، وما يحدث للجملة من تقديم وتأخير أي تحويل.
التفريق بين اللغة واللسان واللغة والكلام بين دي سوسير والجرجاني
فرق دي سوسير بين اللغة واللسان واللغة والكلام، وعدَّ اللسان مختلفاً عن اللغة، ولكنه يقع ضمن اللغة، فمثلاً دي سوسير ميز بين (La Langue) أي اللغة، وبين (La Parole) أي الكلام أو الحديث. وهذا التعريف بين اللغة والكلام ذكره ابن جني في تعريفه لحد اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.)( ومما ذكره الجرجاني في هذا المجال أنه فرّق بين اللغة والكلام بأن جعل اللغة في الجانب النظري، وجعل الكلام في الجانب التطبيقي، وأطلق على الأول (علم اللغة)، وعلى الثاني (الوضع اللغوي)، ومن ذلك قوله: "واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة ولكننا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأن الواو للجمع والفاء للتعقيب بغير تراخ و(ثمَّ) به يشرط التراخي و(أن) لكذا و(إذا) لكذا، ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت وألّفت رسالة تحسن التخير وأن يعرف لكل ذلك موضعه".)) وفي هذا النص يركز الجرجاني على معرفة المتكلم للمعنى الذي اختاره، فهو يميز بين العلم باللغة وما يجب أن يقوم به المتكلم؛ حيث أشار سوسير إلى أن اللغة لها أهداف معينة عند الكلام، وهو يربط بين الصورة السمعية والتصور، ولا يستطيع الفرد أن يغير هذا التصور.
العلاقة بين الكلمات في التعبير
أشار سوسير إلى العلاقة بين الكلمات في قوله: "وفي الخطاب تقيم الكلمات ضمن تعاقدها فيما بينها علاقات مبنية على صفة اللغة الخطية تلك التي تستثني إمكانية لفظ عنصرين في آن، وهذان العنصران إنما يقع الواحد منهما إلى جانب الآخر ضمن السلسلة الكلامية، ويمكن تسمية الأنساق التي يكون المدى لها تراكيب".)( ويؤكد الجرجاني في نظريته في النظم أنه لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، إذ عبّر عن فكرة نظام اللغة حيث ترتيب الكلام في النفس، ثم انتقاء كلمات عدة، وهذا الترتيب يخضع لقواعد اللغة وفق الدلالة العقلية للكلمات.)) ففكرة النظم عند الجرجاني هو تصور العلاقات النحوية كالعلاقة بين المسند والمسند إليه، ونظر الجرجاني للكلمة قبل دخولها التأليف وقبل أن تصير كلمة لها معنى الإخبار أو الإفراد أو التعجب، ورأى أنها في حالة الإفراد تفقد خصوصيتها، ورأى أن الألفاظ سمات لمعانيها، ولذا لا يتصور أن تسبق الألفاظ معانيها، وذلك ضرب من المحال.)( ونظر الجرجاني إلى أن الفكر لا يتعلق بمعاني الألفاظ نفسها، وإنما بما بين المعاني من علاقات؛ وبذلك كانت نظرية النظم عملية توفيق بين الشكل المادي للصياغة والجانب العقلي للمعنى عبر الاستعانة بالنحو وتحويله إلى أحداث.
العلامة اللغوية
تناول سوسير العلامة بين اللفظ والمعنى ورأى أنها علامة اعتباطية وأن الرمز اللغوي اتحاد تصور مع صورة (سمعية أو ذهنية أو نفسية)، ويميز بين الكلمة والشيء، ويقصد بالكلمة ما نسمعه أو ننطقه أو نكتبه أو نقرؤه، وهي المظهر التعبيري الحسي لما يتمثل بالرمز اللغوي، وأشار سوسير إلى أن التصور concept وهو المدلول يتم التعبير عنه بصورة سمعية (الدال) ورمز لكل منهما بالمعادلة الآتية: مدلول signifié ودال signifiant حيث الدور للأصوات بوضع الرمز اللغوي في مكان محدد في متوالية من الأصوات، وهذا الرمز ما هو إلا جمع نفساني بين دال أو مدلول، ويقصد بذلك أن الدال لا يوجد متحداً مع مدلول، وعند انعدام المزج بينهما لا تبقى إلا الصورة السمعية أو الذهنية أو النفسانية لمتوالية من الأصوات، فمثلاً نجد في اللغة العربية الأفعال: (كتب، جلس) تشير إلى دال أو تصور يمتزج بالمدلول، ويمكن تشبيه العلاقة بين التصور (الدال) والكلمة (المدلول) بالورقة التي لها وجهان، الوجه الأول هو الدال والوجه الثاني هو المدلول (الوجه والظهر للورقة). لذلك لا يمكن وجود وجه للورقة دون وجود ظهرها، ولذلك يستحيل وجود مدلول دون وجود دال.()
بمعنى آخر يرمز للرمز اللغوي تارةً بالعلامة اللغوية، حيث جعل سوسير اللغة نظاما من العلامات، والبحث العلمي يؤمن بوجود أشياء محدودة ومعينة، وما يعبر به الناس عن اللغة يعد مستودعاً من العلامات اللغوية فهمها الناس على أنها مفردات اللغة أو الصلة بين اللفظ والشيء الطبيعي onomatopoeia، وهذه العلامة اللغوية لا تصل الشيء باللفظ ولكنها تصل التصور بالصورة السمعية.() من جانب آخر أشار الجرجاني إلى موضوع العلامات والسمات، وأنه لا معنى للعلامة أو السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه، وهو بذلك يشير إلى الدال والمدلول الذي ذكره سوسير.)) ولتوضيح ذلك أكثر، ذكر سوسير معنى لفظ الأخت soeur بأنه ليس مرتبطاً بأي علامة قد نتخيلها داخل سلسلة أصوات لفظة الأخت: s-Ö-r وهي أصوات اتخذت وسيلة كصوت دال، لأنه يمكن لهذه العلامة أن تصور بأية سلسلة أخرى من الأصوات تكون دالة.)( ولذلك رأى كل من الجرجاني وسوسير أن الصوت لا معنى له إلا إذا حمل بعداً دلالياً، وأن الدلالة اللغوية ما هي إلا اصطلاح وتواضع اجتماعي يقتضيه الفكر، وأن الاختلاف بين اللغات يكون بسبب الاختلاف بين الدال والمدلول والعلاقة بينهما عند كل قوم.
ومن ناحية أخرى أشار ستيف أولمان إلى أن دراسة علم الدلالة تكون في العلاقة بين العلامة (signe) أي اللفظ أو الكلمة، والمدلول عليه، وهو ما دل على معنى الشيء المعني.)( وهذا المعنى يفسر لنا الوظيفة الدلالية والوظيفة الصوتية داخل التركيب، وهي تعبر عن العلاقة الجدلية بين اللغة والفكر. أشرنا إلى فكرة نظرية النظم لدى الجرجاني، وهي فكرة تقوم على أساس الترابط والنظام في النظام اللغوي وتحدث بإرادة المتكلم، حيث يقول الجرجاني: "فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخباراً ونهياً واستخباراً وتعجباً، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة إلى لفظة، هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة".)( من ناحية أخرى ذهب سوسير إلى أن التركيب لا ينطبق على الكلمات فحسب، ولكنه ينطبق أيضاً على مجموع الكلمات والوحدات المعقدة من المقاييس والأصناف كافّة كأقسام الجملة والكلمات المركبة والمشتقة، ولا يكفي العلامة الرابطة بين أجزاء التركيب ولكن يؤخذ بعين الاعتبار العلاقة التي تربط الكل بأجزائه، أي أن الجمل لها دور تؤديه في نظام الكلام، وقد أكد ذلك سوسير عندما أشار إلى المركبات الترتيبية والعبارات النحوية.)(
في ضوء ما ذكرناه يلاحظ أن مصطلح التأليف لدى الجرجاني يتفق مع مفهوم التركيب لدى سوسير من حيث اختيار الكلمة في العقل ثم اختيار الكلام المرتبط في هذه الدلالة، وأن الكلمة بحد ذاتها لا تحمل دلالة إلا إذا ضمت إلى كلمة أخرى تكون معها البناء أو التركيب، وكذلك أشار سوسير إلى أن الكلمات المتفرقة لا معنى لها داخل التركيب إلا إذا اجتمعت في وحدات متداخلة، وأن الكلمة لا تفضل الكلمة الأخرى عند الجرجاني إلا في حالة وجود دلالة تربط المعنى بمدلوله، بينما سوسير يؤكد أنه لا معنى للعلامة إلا بعلاقتها بما ترتبط به من معنى كلّي، والصورة الكلامية عبر النص لا تتحدد إلا من الوظيفة التعبيرية للجملة كالإخبار والاستفهام، وأما دي سوسير فيرى أن الجمل لها دور في تحديد نظام الكلام أي نوع الجملة التي يقوم فيها المتكلم باختيار الضمير في الفرنسية (كم) للتمييز المراد في الموضع المعين.)(
إشارات لغوية لدى القدامى والمعاصرين الغربيين
تناول المعاصرون مفهوم الكفاية اللغوية competence لدى تشومسكي، وقد ذكر أن ثمة فونيمات صوتية ينبغي أن يربطها السامع – المتكلم ويجمعها في مورفيمات منتظمة تدخل كيان الجملة وفق معنى لغوي، وهي ملكة ذاتية تخص متكلم اللغة الذي نشأ بصورة طبيعية في البنية التي يتكلمها.)) وهذا المفهوم للكفاية اللغوية أشار إليه ابن خلدون بقوله: "إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية"، ويقول في موضع آخر: "هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال، وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أخذت منهم ولم يأخذوها عن غيرهم".)(
نظرية العامل وتشومسكي
تناول تشومسكي نظرية العامل في نظريته اللغوية، وقد ذكر ما يسمى العامل agent والربط government، وتنحصر هذه النظرية في عنصرين، وهما: عنصر الأثرtrace وضم (pro). والأثر مركب اسمي أو حرفي له قرينة index بالمواضعة، وهذه النظرية أمدت البنية السطحية بـنظرة جديدة، ونقلـت إليها خـصائص كــــــــانت في البنية العميقة، بخاصة إمكانية تطبيق قواعد التركيب الدلالي في البنية السطحية، فسهل بذلك دراسة عناصر الدلالة. وسميت هذه المرحلة التي قام بها تشومسكي في تعديل نظرية التحويل بالنظرية المعيارية الموسعة، وهذا أدى إلى تولد أنظمة فرعية متعددة لكل المكونات، حيث أصبحت البنية السطحية تتفرع إلى التمثيل الدلالي والتمثيل الصوتي، ويهدف تضييق التحويليين لعمليات التحويل بأن جمعوا هذه النظريات الفرعية تحت نظرية واحدة سميت بنظرية (انقل ألفا) لتحل محل القواعد التحويلية، وهي ما يطلق عليها بنظرية الربط والعامل.)) وهذه النظرية تؤكد على مبدأ العامل وأثره في الأسماء والتراكيب، وتشير نظرية الربط والعامل وأنظمتها الفرعية إلى دراسة التراكيب، فمثلا نظرية (انقل ألفا) مصطلح ذكره تشومسكي ليدل على دراسة البناء المبني للمجهول، وأما نظرية الثيتا (θ) فهي التي توضح العلاقة بين الأفعال بمعمولاتها، ونظرية الحالة التي تحدد الحالات النحوية للأسماء في التراكيب، ونظرية المراقبة التي تعين على توضيح دور المصادر وكيفية تعاملها مع بقية مكونات الجمل، ومبدأ المقولة الفارغة الذي يحدد الكلمات التي يمكن حذفها في الجملة، ونظرية الربط التي تبين الإشكالات التي تعرض في المركبات الاسمية عند ارتباطها بغيرها، ونظرية العامل التي توضح أوجه العلاقات والارتباطات بين عناصر التركيب. والتراث العربي القديم حافل بالعمليات التحويلية في نظرية الربط والعامل، وكان تصور القدامى العرب للتراكيب اللغوية وتحليلها أو إعرابها مرتبطاً بنظرية العامل التي وضعها الخليل بن أحمد ثم سيبويه، وكان لها أثر مباشر في تشكيل التفكير النحوي العربي. فالعامل قد يكون لفظياً أو معنوياً كالمبتدأ المعمول للابتداء، وهناك من العوامل من الحروف والأدوات.)( فمثلاً نجد الجوانب التحويلية في النحو العربي عندما تناول التحويليون قضية الأصلية والفرعية، وتناولوا قضية العامل في النحو، ورأى القدامى فكرة العمل أو العامل ركناً أساسياً في النحو، ونظروا للعامل بوصفه سبباً يقود إلى التقدير، وأن ثمة قواعد كلية يمكن أن تفهم في ضوئها الظواهر المشتركة في اللغات، وهي: الحذف والزيادة والترتيب، فالحذف تناوله سيبويه مثلاً في المبتدأ والخبر والمضاف وحروف الجر، ومن ذلك ما ذكره سيبويه: عبدالله وربي. حيث رأى أن أصل الكلام: ذاك عبدالله، أو هذا عبدالله، وذلك لأن السياق كان السبب في التقدير.)) وأما الزيادة فقد أثار التحويليون قضيتها في التحويل، كما ذكرنا، وذكرها العرب القدامى في الجملة لإضافة الفائدة في التركيب، وتناولوا الزيادة في: ضمير الفصل والواو المقحمـة وحروف الجر الزائدة وزيــادة (كان) و(إن) و(أن) و(ما).)) وأما قواعد الترتيب فقد ذكرها تشومسكي بوصفها عاملاً من عوامل التحويل في البنية السطحية، وأشار إلى هذا الترتيب القدامى العرب كالجرجاني في دلائل الإعجاز في موضوع التقديم والتأخير.)) ومن مثال التقديم والتأخير لدى سيبويه: وجوب تقديم الخبر ووجوب تقديم المبتدأ وجواز الأمرين، ومنها قول سيبويه: "(ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك) و(ما كان أحدٌ مثلك فيها) و(ليس أحدٌ فيها خيرٌ منك). إذ جعلت (فيها) مستقراً ولم تجعله قولك فيها زيدٌ قائمٌ، أجريت الصفة على الاسم، فإن جعلته على قولك فيها زيد قائم، نصبتَ، تقول: ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء فكلما أخرت الذي تلغي كان أحسن، وإذا اردت أن يكون مستقراً تكتفي به، فكلما قدّمته كان أحسن..".)(
وبالنسبة إلى القبول النحوي فقد أشار تشومسكي إلى قضية القبول النحوي للجملة حسب السياق،)( كما ذكر، وتناول سيبويه هذا المعنى عندما قسم الكلام إلى مستقيم حسن ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال.)( ومن الموضوعات المتعلقة بالقبول النحوي الجمل غير المقبولة نحوياً في باب التنازع الذي تناولته كتب النحاة.))
المبادئ الإسلامية في اللسانيات
ذكر بعض الباحثين مفهوم اللغة الإسلامية التي يستخدمها المسلمون مهما اختلفت لغاتهم، حيث تكون الذاكرة التي يحملونها أو الخلفية الفكرية التي تسيطر عليهم نوعاً ما هي المبادئ الإسلامية. وتتضمن هذه اللغة ألفاظاً إسلامية عربية على سبيل الخصوص يتم فيها استخدام الألفاظ العربية، ولا سيما المتعلقة بالعبادات استخداماً لا شعورياً.() وهذا التوجه في تعريف اللغة بأنها إسلامية توجه غير دقيق لأنه ينفي سمة العربية عن اللغة التي أنزل فيها القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه فإن النظام اللغوي سواء على مستوى الأصوات أم الصرف أم النحو أم الدلالة يختلف في اللغات التي تنتمي إلى المسلمين، ومن ثَمَّ يكون التعبير ومحتواه الثقافي أيضاً مختلفاً عن اللغة العربية التي تحتوي مضامين القرآن الكريم وتعابيره وأساليبه، ولا سيما في العبادات، لذا فإن القول الدقيق في هذا الأمر أن يقال: المبادئ الإسلامية في لغات المسلمين((. كذلك فإن تصنيف اللغات حسب العقيدة قضية لم تأخذ مساحة واسعة من اتفاق الباحثين، لأن مفهوم (اللغة الإسلامية) يرتبط بمفهوم (اللغة) الذي يتضمن كما ذكر سابقاً مستويات عدة لا بد لكل باحث أو دارس أن يبحث بها لمعرفة نظام هذه اللغة.
وأما فيما يتعلق بموضوع المبادئ الإسلامية في اللسانيات بوصفه علماً يتضمن دراسة اللغة بذاتها وما فيها من موضوعات شتى فهو يتعلق بموضوع تعريف اللغة ووظائفها ومستوياتها، وتطور الدراسات اللغوية في دراستها قديماً وحديثاً، ولهذا سنتناول بعض القضايا المتعلقة باللسانيات وبيان المبادئ الإسلامية فيها من حيث التأصيل، أي البحث بما لدى القدامى العرب المسلمين من الأفكار التي طرحوها حول الموضوع، وكيف تناولوها في زمانهم وربط هذا التناول بالمفهوم المتداول لدى المعاصرين، وأما القضايا التي سنتناولها فهي:
- الدراسة الدلالية
ثمة جهود للغربيين في الدراسة الدلالية، ولا سيما لدى دي سوسير وبلومفيلد وفيرث وغيرهم من العلماء، وثمة جهود للعلماء في بناء نظرية دلالية حتى حَدا بأحد المعاصرين أن يؤلف كتاباً أطلق عليه (SEMANTIC THEORY) أي النظرية الدلالية، وضع فيه تصوره لنظرية علم الدلالة.() وثمة نظرية لتشومسكي وهي التوليدية التحويلية والبنية العميقة والبنية السطحية التي يظهر فيها البعد الدلالي من منطلق تحليل الجملة إلى عناصرها أو مكوناتها، وقواعد التحويل التي تتناول الدلالة داخل التركيب. وعند تناول المبادئ الإسلامية لدى القدامى نجد أنهم قد ذكروا الظواهر الدلالية الأساسية من حيث: النظرية الصوتية الطبيعية التي أطلق عليها ابن جني الدلالة اللفظية في كتابه الخصائص بأنها عملية تقليد للأصوات، وهي الدلالة الصوتية التحليلية ودرسوا الوحدات الصوتية وأثرها في تغير المعنى، ومن ذلك بحثهم في الاشتقاق الأكبر كما هو عند ابن جني، وتغير حركات الإعراب التي تعد وحدات صوتية في العربية، يتغير معنى الكلمة فيها تبعا لتغير حركتها، كالفرق مثلاً بين (عَمَلٌ وعَمِلَ)، والفرق بين مُوَحِّد ومُوَحَّد (اسم الفاعل، اسم المفعول). ومن صور المعاني الوظيفية للصيغة الواحدة التعدية،)( وهي إحدى المعاني الصرفية التي يدل عليها بالحروف الزوائد كالهمزة، والتضعيف، ويظهر أثر ذلك داخل التركيب النحوي، ومن أمثلة ذلك صيغة (أفعل)، فقد ذكرت لها دلالات عدّة، وهي: التعدية، والصيرورة، والتعريض، والدعاء، والإغاثة، والمطاوعة. وهذه المعاني الكثيرة للصيغ وردت في كتب النحو بمعان كثيرة، لكن الهدف من تناولها هو بيان المعاني الوظيفية للصيغة الواحدة. ()
وأما النبر والتنغيم فقد تناوله المعاصرون بوجوه متعددة، وهو مصطلح صوتي له صلة مباشرة بالجانب النطقي للغة، ونقلوه من الدراسات الصوتية عند الغرب، وحاولوا تعريب ذلك المصطلح إلى اللغة العربية؛ إذ يعــرف عندهم بـ "stress" أو "accent" بالنبر أو الارتكاز وقد اختلفت الآراء في التعريب. وكان أول من قام بهذا التعريب إبراهيم أنيس، وتمام حسان، ومحمود السعران.)( والسؤال الذي يثار هنا، هل كانت اللغة العربية قبل التعريب غير متميزة بظاهرة النبر؟ أم هل تطورت ظواهرها اللغوية بحيث يختلف معناها قبل التعريب وبعده؟ وللإجابة عن ذلك نقول: إن هناك بعض المحاولات التي سبقت حركة التعريب، واختلف اللغويون المعاصرون في تعريفات النبر اختلافاً كثيراً، مما جعل أحد الغربيين وهو لادفوجد (Ladefoged) يقول: "ليس من السهل تعريف النبر"،)( واتفقوا على ماهيته ورأوا أنه طاقة زائدة في النطق للمقطع المنبور ينتج عنها نطق المقطع أعلى وأطول من المقاطع الأخرى في الكلمة نفسها، أو هو البروز المعطى لمقطع واحد داخل الكلمة. ومن تلك التعريفات التي اختلفوا فيها ما يأتي: فالنبر وضوح نسبي لصوت أو مقطع إذا قورن ببقية الأصوات والمقاطع في الكلام؛)( أو هو قوة التلفظ النسبية التي تعطي للصائت في كل مقطع من مقاطع الكلمة أو الجملة؛)( وعُرّف المقطع المنبور بقوة بأنه الذي ينطقه المتكلم بجهد أعظم من المقاطع المجاورة له في الكلمة أو الجملة، فهو إذن نشاط ذاتي للمتكلم ينتج عنه نوع من البروز prominence لأحد الأصوات أو المقاطع بالنسبة إلى ما يحيط به؛(( ورأي آخر يرى أن النبر وضوح نسبي لصوت أو لمقطع إذا قورن بغيره من الأصوات أو المقاطع المجاورة،)( وهو التعريف الذي أكّده قول أحد المعاصرين بأنه الوضوح السمعي لمقطع من مقاطع الكلمة أكثر من غيره؛)( وقد يعني النبر أن مقطعاً من بين مقاطع متتابعة يعطي مزيداً من الضغط أو العلو (نبر علو stress accent) أو يعطي زيادة أو نقصاً في نسبة التردد (نبر يقوم على درجة للصوت pitch accent)،)( ولهذا فهو انطباع من طاقة زائدة في النطق للمقطع المنبور ينتج عنها نطق المقطع أعلى وأطول من المقاطع الأخرى في الكلمة نفسها)(. أما النبر لدى القدامى العرب فقد تناوله علماء مشهورون منهم ابن جني والفارابي وابن سينا، وتناول ابن جني النبر وعدّه ظاهرة لها دورها في الكلام، وأطلق عليه اسم "النبرة"، وفي حديثه عن البيان للمعنى الاصطلاحي للكلام وإيضاح الفرق بين الكلام وبين القول، قال: "... وقد أكثر الشعراء في هذا الموضع حتى صار الدال على المشاهد غير المشكوك فيه، ألا ترى إلى قوله:
وَحَدِيثُهَا كَالغَيْثِ يَسْـمَعُهُ رَاعِي سِنِيْنَ تَتَابَعَتْ جَدَبَا
فَأَصَاخَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَيَقُولُ مِـنْ فَرَحٍ هَيَّا رَبَّا
يعني حنين السحاب وسجره، وهذا لا يكون عن نبرة واحدة ولا رزمة مختلسة، إنما يكون مع البدء فيه والرجع، تثني الحنين على صفحات السمع")(. فقد بيّن ابن جني (ت 392 هـ) أن استعمال الكلام كان للدلالة على الجمل التامة لا على الكلمة الواحدة)( ثم جاء ببيتين من الشعر، ويبين أن حديثها يشجي ويطرب، وهذا لا يكون إلا في كلمات كثيرة، ويعقّب على هذا بقوله: "وهذا لا يكون عن نبرة واحدة ولا رزمة مختلسة، إنما يكون مع البدء فيه والرجع، تثني الحنين على صفحات السمع". و"هذا" أي الشجو والطرب والاستحسان والاستغراب لحديثها،)( وقوله: "يكون عن نبرة واحدة ولا رزمة مختلسة" أي لا تكون الكلمات في البيت على مستوى النبرة الواحدة، أو لا يكون عن كلمة واحدة منبورة، ولا يكون عن كلمات مختلسة".)( فالنبر سمة صوتية لكل كلمة، والكلمات - حسب رأيه - لا تكون على مستوى النبر الواحد بل يختلف النبر في كلمة عن أخرى. وأشار ابن جني إلى ظاهرة صوتية أخرى وهي: "الاختلاس"، وهي عبارة عن الإسراع في النطق بالحركة إسراعاً يحكم السامع له أن الحركة قد ذهبت، وهي كاملة في الوزن.)( ورأى أن النبرة تقابل الاختلاس وهي من الأصوات البيّنة المحققة غير مختلسة. وقد تناول الفارابي (ت 339هـ) جانباً مما له علاقة مباشرة بظاهرة النبر. وكان يوافق النحاة واللغويين في عدّ الهمز المصطلح المرادف للنبر؛ إذ يقول: "أما الهمز والنبر فيجعل افتتاح كل واحد من المصوتات الاثني عشر، وأما "الهاء" فالأجود أن تجعل افتتاحات الألف والممزوجات التي تميل إلى الألف، وإن جعلت افتتاحاً لحرف الياء، وما مال إليه من الممزوجات، أو المتوسطات بين الياء والألف لم يبشع به مسموع النغمة، ومتى جعلت افتتاحاً للواو والممزوجات المائلة إليها أكسبت النغم بشاعة المسموع"،)( وأشار إلى الفرق البسيط بينهما ولم يفصل الحديث عن النبرة. وكان الفارابي يعرض للنبرة في الكلام أكثر من موضع من كتابه مقيداً إياها بالزمن، وأن مدى نغمتها لا يتجاوز زمن إحداث وتد.)(وقد بين أيضاً أن النبرة بمعنى الضغط أو إطالة زمن النطق بمقطع ما، قصد به المتكلم إلى إبرازه أكثر وضوحاً مما يجاوره من مقاطع أخرى، يقول: "الحروف المتحركة إذا مدت حركاتها أدنى مد أو قرنت حركاتها بنبرات أو هاء خفيفة كانت قريبة من سبب خفيف".)( ومن أحاديثه التي أشار فيها إلى دور النبرة في الوقف: "متى توالت متحركات كثيرة، وتناهت إلى متحرك ووقف عليه، فإنه ربما جعل المتحرك الأخير ممدوداً أدنى مد أو مقرونا بنبرة".))
أما ابن سينا فبلور المفهوم الاصطلاحي للنبر،(( وتحدث عن قضية "الزينة" في الكلام، وكان الكلام عنده يشكل من الحروف، ومما يقترن به من هيئة ونغمة ونبرة.)( وقد وضّح الخصائص الفيزيائية للصوت اللغوي، وتطرق إلى عناصر تركيب الحدث الكلامي، وهما: نفس التموج وحال التموج، ويؤدي حال التموج إلى تنبير الأجزاء وتلوين أجراسها بأنغام خاصة.( (وأشار إلى خصائص النبر ووظائفه في تحديد الدلالة بقوله: من أحوال النغم: النبرات، وهي هيئات في النغم مدية، غير حرفية يبتدئ بها تارة، ...، وبما أعطيت هذه النبرات بالحدة والثقل هيئات تصير بها دالة على أحوال أخرى من أحوال القائل، أو أنه متحير أو غضبان، أو تصير به مستدرجة للمقول معه بتهديد أو تضرع أو غير ذلك، وربما صارت المعاني مختلفة باختلافها مثل أن النبرة قد تجعل الخبر استفهاماً، والاستفهام تعجباً وغير ذلك، وقد تورد للدلالة على الأوزان والمعادلة وعلى أن هذا شرط وهذا جزاء، وهذا محمول.)(
الدلالة الصرفية: أشار ابن جني إلى التصريف وعلاقته بالنحو، وتناول القدامى موضوع المعاني الوظيفية لصيغة الكلمة داخل التركيب ودلالتها، وربطوا بين الصيغة والدلالة أو بين الصيغة والحكم الشرعي، حيث كان لآراء الأصوليين دلالات لصيغ الأمر وغيرها من القضايا، وعند تدقيق النظر في المعاجم القديمة لكلمة (صيغة)، نجد أنها مصدر للفعل (صاغ) الذي يحمل دلالات معجمية تدور حول الأمور الآتية: الصيغة لها هيئة حاصلة بسبب ترتيب ما، وهي مثال يُنسَج على منواله، وهي صناعة أو سبك.(1) أما الصيغة لدى الغربيين فيدور معناها في إطار مفهوم الصيغة البسيطة، والأشكال التصريفية للصيغة البسيطة، ويعبر الغربيون عن صيغة الحاضر البسيط the present simple tense للتعبير عن الزمن الحاضر، وللدلالة على التعبير عن الحقائق الأبدية، وصيغة الماضي البسيط past tense الذي يعبر في الإنجليزية عن الأوقات الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة، وأما صيغة المستقبل البسيط Future simple tense فقد يتكون من (shall +) المصدر من الفعل الرئيس – مع الشخص الأول المتكلم المفرد (I) ومع الجمع المتحدث بالضمير (We) – أو (Will) + المصدر من الفعل فيما عدا ذلك)، وقد تستخدم ( (Will مع كل الضمائر.)( وهذه الدلالات المعجمية للصيغة تتضمن اللفظية والصناعية والمعنوية؛ إذ إن لفظ (قام) يدلّ على مصدره ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله. وهذه ثلاث دلائل جاءت من لفظه وصيغته ومعناه، وكانت الدلالة الصناعية فيه أقوى من المعنوية لأنها صورة يحملها اللفظ ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم بها. ولمّا كانت كذلك لحقت بحكمه، وجرت مجرى اللفظ المنطوق به، فدخلا بذلك في باب المعلوم بالمشاهدة كما قال أحد القدامى.)( أما ماهية هذه الصيغة فتحدد عبر الأمور الآتية: هيئتها الحاصلة من ترتيب حروفها وحركاتها، ولكون هذه الهيئة مثالاً يحتذى ويصاغ على هيئته، ولكونها متصرفة ودالة على أصل اشتقاقي صيغت منه، وأخيراً لكونها دالة على معنى وظيفي تفيده الصيغة أو القالب الصرفي الذي يدور حول الهيئة التي توضع عليها المادة اللغوية عبر عدد حروف الكلمة وترتيبها، وضبطها وزيادتها وإثباتها أو حذف بعضها، ويكون بذلك القالب الصرفي)( متضمناً الهيئة والتصرف والمعنى الوظيفي؛ أي أنها قوالب لمجموعة من الألفاظ غير محدودة، وفي ضوء ذلك نجد أن معنى الصيغة في أقسام الكلم يلمح في الاستخدامات اللغوية الاسمية أو الفعلية. أما ما عدا ذلك فإنه غير واضح منه الأشكال المتصورة للفظ الواحد مثل الضمائر؛ أي أن الصيغة لا تكون إلا على ما تجوز فيه الصياغة، أو تتصور فيه موافقة تمام الموافقة لأصل الكلمة، فمثلا: ضارب ومضروب وغيرها من الكلمات مصوغة من ضرب، والصيغة واضحة فيها، أما في الضمائر مثلا (تاء الفاعل، وأنت، وهو) ونحوها فلا تتصور الصياغة فيها، ويصعب معرفة أصلها الذي صيغت منه، وهذا من ثَمّ يجعل الصيغة مقصورة على الأسماء والصفات والأفعال، وتخرج الضمائر والظروف والخوالف والأدوات بنوعيها الاسمية والحرفية، من مفهوم الصيغة.)( ثمّة فرق بين الصيغة والميزان الصرفي للكلمة الواحدة يدور حول معيار من الحروف يعرف به عدد حروف الكلمة وترتيبها، وما فيها من أصول وزوائد وحركات وسكنات؛ أي أن هذه الصيغة للكلمة جاءت لتدل على معانٍ معينة ومحدودة، أما الميزان الصرفي فهو مبنى من المباني الصرفية يمثل الصورة النهائية للمادة اللغوية، فمثلاً صيغة الأمر للفعل (ضَرَبَ) هي (اِضرِب)، لكن عندما نتناول الفعل (وقى) وهو من أفعال باب ضرب، تصبح صياغته (قِ)، وعند مقارنة الحرف (قِ) في نظيره في الصيغة، نجد أن ما يوازيه من حروف الصيغة هو العين المكسورة (ع)، وعند السّؤال عن صيغة الفعل (قِ)، يكون الجواب: هو من صيغة (أفعِل)، وإذا سألنا أيضاً: لماذا تقف العين المكسورة إزاء الفعل في صورته؟ فإن الجواب يكون في أن العين المكسورة تعبر عن الميزان، ولا تمثل الصيغة، لذا نجد الفرق بين الصيغة من حيث إنها مبنى صرفي، والميزان من حيث هي مبنى صوتي، وما لذلك من أهمية قصوى للتفريق بين علم الصرف وعلم الأصوات.)( وثمة حالة تتفق فيها الصيغة مع الميزان، كما في المثال (ضَرَبَ) و(اِضرِب)، فالصيغة تحمل القيمة الدلالية، أما الميزان الصرفي فيعبر عمّا طرأ على الكلمة من تغيير أو حذف، ويدخل في نطاق الدرس الصرفي الخالص.))
الدلالة النحوية: ويقصد بها العلاقات القائمة بين مواقع الكلمات في الجملة، وقد أشار العرب القدامى إلى أن الدلالة الصوتية والصرفية أجزاء للدلالة النحوية، حيث ربط ابن جني البعد البنيوي للدلالة النحوية التي تشكل عنده بالصوت والصيغة والمعنى.() وقد أشار الجرجاني مثلاً إلى أن النظم هو توخي معاني النحو في معاني الكلم وإن توخيها في متون الألفاظ، ورأى ابن قيّم الجوزية الدلالة التركيبية عندما عدّ اللفظ قبل أن يعقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي لا تفيد شيئاً، وإنما تفيد معنى جديداً بعد تركيبها.()
وهذه الآراء في الربط بين الصورة الصوتية والصورة الذهنية هي ما قال به تشومسكي حول البنية العميقة والبنية السطحية بحيث إن الجرجاني في الدلائل قد أشار إلى أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وهذه الأغراض كامنة فيها ليكون هو المستخرج لها، وأن المعيار الذي لا يبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه المقياس الذي لا يعرف صحيحاً من سقيم حتى يرجع إليه.
الدلالة السياقية: أشار اللغويون والأصوليون إلى الدلالة التي يقصدها المتكلم ويفهمها السامع عبر الحدث الكلامي تبعاً للظروف المحيطة بها، فمثلاً أصحاب التفسير ربطوا بين معاني الآيات وأسباب التنزيل، وأشاروا إلى الحقيقة والمجاز والخصوص والعموم، وربطوا ذلك بسياق الكلام،() حيث إن الألفاظ لدى إلى هنا الأصوليين هي دليل الحكم على صحة الفكر أو خطئه، وأما المجاز فيحدده سياق الحال أو استعمال مجتمع ما حسب الزمان والمكان. ونظرية المقام لدى القدامى تعبر عن القرينة التي تتناول المجاز والاستعارة، وهذا الذي ذكرناه أشار إليه مالينوفسكي ودي سوسير كما أشرنا إليه في جهودهما في نظرية السياق.()
في ضوء ما ذكرناه نقترح أن يكون هناك مراجعة فعلية للتراث العربي الإسلامي في مجال اللسانيات، ولا سيّما أن ثمة علماء كثيرين لهم باع طويل في التخصصات اللغوية في اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، ولهم وعي تام بحقيقة اللغة العربية في مستوياتها المتعددة، أما المقترح الثاني فينصب على تأصيل الدراسات الغربية في ضوء التراث القديم، بمعنى قراءة جديدة للتراث نستطيع عبرها معرفة مكنون هذا التراث من أفكار يمكن أن تكون أساساً في المعرفة اللغوية وبيان اجتهادات الغربيين في موضوع اللسانيات من حيث دراسة اللغة من المنشأ وحقيقة اللغة ووظائفها وأهدافها، والعلاقة بين اللغة والفكر واللغة والثقافة، وتأثير اللغة في الاتصال بين الناس وأهمية الكلمة في النص وتحليل النصوص بما يحقق قصد المتكلم، وغيرها من النظريات المتعلقة باللغة الإنسانية ولا سيما العربية وكونها لغة القرآن الكريم.