يا أيتها الكلمة، كم أنت مرهِقة!
حول كتاب "علم التخاطب الاسلامي"
قد يحصل أن تكون هناك أفكار لا يدري المرء ما كنهها لكثرة تجريدها تظل
متخبطة في رأس واحدنا هائمة على وجهها مبعثرة لا تستقر على قرار تقلق راحته
و تصدعه و تدفعه للبحث أكثر عله يجد كلمات يعبر بها عنها فيقيدها و
يرتاح... و حصل أن أحسست بهذا الكتاب و قد لامس تلك الأفكار المبهمة و
شاغبها دون أن يقبض على شيء منها... الآن و أنا أجلس لأكتب عن الكتاب أجدني
عاجزة عن تحديد ما أعجبني منه... و كأني لا أذكر شيئا منه و لست متأكدة مما
تحصلت منه أو فهمته... و لكن مع ذلك أشعر بأن رأسي امتلأ بأفكار كثيرة على
الأغلب لا أدري ما هي...
الكتاب باختصار يؤسس لعلم جديد... و هو ما سماه بـ علم التخاطب الإسلامي...
فعلم التخاطب هو دراسة الاستعمال (استعمال اللغة هو التخاطب بها)... "و
هذا ما سوغ لنا ترجمة اسم العلم المعروف في اللسانيات الغربية الحديثة بـ
pragmatics
بـ علم التخاطب"...
و الكتاب يناقش مناهج علماء الأصول التخاطبية وفقا للنظريات اللسانية
الحديثة... حيث عمد إلى صياغة الأصول و النظريات اللغوية المتبعثرة في كتب
أصول الفقه بطريقة شمولية... و كما يقول الكاتب "لقد
أثمر هذا التلاقح بين الدرس الأصولي و الدرس اللساني نشأة علم جديد يمكن
تسميته بعلم التخاطب الإسلامي".
الكتاب فيه الكثير من الصعوبة، و هو مختزل و مكثف في مواضع و في بعض الفصول
أحسست بالتوهان لطريقة الترتيب... و لكن و مع ذلك أعجبني كثيرا... لأن مصدر
الصعوبة بالنسبة لي هو المادة بحد ذاتها إذ لطالما استصعبت هذه المباحث
الأصولية... و أحسب أن الكتاب بطريقة تقديمه الجديدة للمادة و مناقشاته و
مقارناته ساهم في جعل مناهج الأصوليين في استنباط الأحكام أوضح بالنسبة لي
في مقامات عدة، و أكثر تفعيلا في ذهني و جعلها أقرب للتطبيق بالنسبة لي...
و إن كانت كثرة المقارنات بين اختلاف الأقول و خاصة في مبحث طرق الدلالة قد
جعل رأسي يدوخ لكثرة التشعب.
الكتاب في الأصل مكتوب بالانكليزية مقدم كرسالة دكتوراة لجامعة ادنبرا، لكن
المؤلف ترجمه أو بالأحرى أعاد كتابته بالعربية بحيث أنك لا تشعر أبدا بكونه
مترجما... فميزة محمد محمد يونس علي هو براعته في الجمع و المقارنة
بين مناهج علماء الأصول و اللغة المسلمين القدماء و بين علماء اللغة
الغربيين... و قدرته على استخدام مصطلحات كلا الفريقين و ترجمة كلٍ بما
يتناسب مع المعنى... و من النادر فعلا أن تشعر بأن مؤلفا قد جمع في رأسه
كلا الطريقين بمثل هذا العمق...
و فيما يلي بعض أهم النقط و الأفكار، و التي لست متأكدة من مدى صحتها و لكن
هذا ما فهمته بأية حال: ·
قوله: "إن
أفضل ما توصف به الحضارة الإسلامية أنها حضارة نص"
هذا من أجمل التعابير التي تمر بي و تصف خاصية الحضارة الإسلامية و تشرح كل
شيء... و هنا يتبدى لنا أهمية علم اللغة و كل ما يدور من دراسات حول الكلمة
بحد ذاتها... و لابد كلما مر معي هذا الأمر أن أذكر في هذا السياق الفضل
لأستاذ وجهني لهذا الطريق... حين ذكر لي نصيحة استخلصها بعد طول سنين، بأنه
لا جدوى من أن نكون فلاسفة و إنما ينبغي أن نكون فللوجيين (علماء لغة)...
ذكرها لي حتى أستدرك ما فاته... و عاما إثر عام أشعر أنه كان محقا في
نصيحته و أنه تفضل بها علي... أشعر أن أفكاري المبهمة الهائمة على وجهها في
رأسي التي لا تنفك تزعجني قد بدأت تستجيب فعلا على ما أعثر عليه في هذا
الطريق...
·
منذ المقدمة يذكر المؤلف فكرة أن إفراد علم إسلامي خاص يبحث في مجال
التخاطب لن يعجب أصحاب المنهج الباطني في التعامل مع النصوص لأنه يتناقض
تماما مع منهجهم الذي يضرب بعرض الحائط عنصر القصد أو المراد في الخطاب...
و لكن النظرية البراغماتية الحديثة (أي التخاطبية) تجعل من مراد المتكلم
محور الدراسة، بينما الذين يفضلون المنهج الباطني منطلقاتهم مختلفة تماما
في دراسة النص (و ذكر أمثلة على الباطنية الجديدة بـ أبو زيد و أركون و
حرب) فهم يقومون على مبدأ مختلف مثل مبدأ الشك و المخاتلة و الحجب و أن
المتكلم لا يقول الحقيقة... بينما البراغماتية تقوم على مبدأ إعمال الكلام
لأن للمتخاطبين مصلحة مشتركة في حصول التفاهم بينهما... و هذا يقودني
للفكرة التي تليها...
·
سأحاول أن أضرب مثالا حسب ما فهمت الفرق بين المنهجين... إن قال شخص (أكلت
بندورة عند الغروب) فعند المدرسة البراغماتية فإن البندورة تعني هنا
البندورة وفق المعنى الذي وضع لهذه الكلمة في أصل اللغة و هي تلك النبتة
المدورة و الحمراء و الشهية التي نأكلها و التي نشتهي رمي العلاكين بها
لنخرسهم هكذا
فليس هناك من قرينة أظهرها
المتكلم تستدعي صرفها عن معناها الوضعي لأن الفكرة الأولى هي إعمال الكلام،
و ليس هناك من استحالة في أن تبقى الجملة على معناها... و لكن حسب المنهج
الباطني فإن البندورة قد تصل لأن تعني أي شيء كقرص الشمس عند الغروب أو
الحكمة في خريف العمر مثلا أو حتى ربما يمكن أن يؤولها أحد ما إلى خيارة
(مع أني للأمانة لست متأكدة من إمكانية هذا التأويل الأخير بما أن الخيارة
هي عدوة البندورة الأولى في صحن السلطة كما هو معروف و لكن كل شيء ممكن مع
هذا النوع من التأويل) و لكن البندورة حسب المنهج الباطني لن تعني البندورة
المدورة الحمراء تلك...
و هذا يجعلني أفهم أن ما عنته سوزان سونتاغ في كتابها
ضد التأويل
بقولها:
"يفترض التأويل تفاوتا بين المعنى الواضح للنص و متطلبات القراء
(اللاحقين). إنه يسعى إلى إلغاء التفاوت فقد أصبح النص، لسبب ما، غير
مقبول؛ و لكن لا يمكن إهماله. و التأويل خطة جذرية للاحتفاظ بنص قديم من
خلال ترقيعه، إذ يعتقد أنه مهم لدرجة لا يجوز طرحها جانبا. و المفسر لا
يفعل سوى تعديل أو تبديل في النص من دون محوه أو إعادة كتابته، و لكنه يعجز
عن الإقرار بذلك، فيزعم أنه يوضحه فقط بأن يميط اللثام عن معناه الحقيقي".
قد قصدت به التأويل وفق المنهج الباطني و ليس التخاطبي... بمعنى إن سوزان
تقول إن من يريد التخلص من البندورة في الجملة السابقة لأنها لم تعد تروق
له، و يريد أن يفعل هذا من دون أن يحرف كلمات الجملة و يمحوها أو
يستبدلها... فالحل هو بتأويلها بعيدا عن المنهج اللغوي... بإبطال مبدأ
إعمال الكلام ثم البناء على هذا...
على كل هذا ما فهمته من الفرق بين المنهجين... و هذا يقودني للفكرة التي
تليها...
·
في ذات كتاب لغوي تحدث فيه مؤلفه عن تأويلات القرآن التي استخدمها كثير من
أصحاب الدعوات المختلفة و اكتشفت حينها كم التأويل يمكن أن يكون شيئا
مجنونا قد يقلب الأسفل لأعلى و الأرنب لسلحفاة مثل ألعاب الخفة، و حينها
فكرت متسائلة أن لو كان "هناك
سلسلة تلجم المعنى و تشده للكلمة... بحيث لا يمكن له أن يتحرك أبعد من تلك
السلسلة... لكانت الدنيا أبسط بكثير... و لما كان هناك مجال للتلاعب
بالكلمات... و لكن المعنى أشبه بكرة في الفضاء... إن ابتعدت عن المسار
المحدد لها... تتوه و تتخبط في الفضاء الذي لا حد له... بالفعل لا نهاية
لتهيآت الدماغ و تأويلاته..."
و لكن كتاب محمد محمد يونس علي بكتابه هذا و بتفريقه بين المنهجين، قد أوضح
لي هذه الفكرة تماما و أزال اللبس... فتلك السلسلة موجودة فعلا بين المعنى
و الكلمة فالأمر ليس مزاجيا و وكالة من دون بواب، و ذلك لأن الافتراض قائم
على أن اللغة قد وضعت للتفاهم بين المتخاطبين و بالتالي فإن المتخاطبين
ملزمون لغويا بمراعاة أصول التخاطب لتحقيق الوضوح حتى يحدث التفاهم و
التعاون... بل حتى الاستخدام المجازي لا يكون مقبولا إلا إذا قربت علاقته
لذلك، فإذا افتقر المجاز هذا الشرط سمي مجاز التعقيد و هذا المجاز ممتنع في
التخاطب... "فالمتكلمون
ليسوا أحرارا في استخدام أي لفظ (أو بعبارة أدق أي معنى) لتوليد مفهوم ما،
بل لابد من علاقة مناسبة بين المعنى الوضعي و مراد المتكلم بحيث يمكن
للمتكلم أن يبين عن مراده للسامع بحكم أن علاقات من هذا النوع معهودة
بينهما"...
و إلا يعني إن ظن المرء أن الكلمة ممكن أن تولد عدد لامنته من المعاني
فحينها ستنتفي الفائدة من اللغة بحد ذاتها و هي التواصل... يعني لا يأتين
أحد و يقول (بندورة) ثم يقول قصدت بها (دبا)... إن أراد شخص اختراع لغة
خاصة به بحيث يطلق على ذلك المخلوق السمين و الخمول و الظريف لفظ بندورة،
فهذه لغته الخاصة... و حينها ستخرج عن كونها تلك اللغة العربية المستخدمة
للتخاطب مع آخرين. و بناء عليه فينبغي أن يترجم لغته الجديدة و يبين أن
بندورته هي دب لنا... و هذا الأمر نفسه ينطبق حين التأويل... و هذا يقودني
للفكرة التي تليها... ·
بعيدا عن التفريق المذكور في المقدمة بين المنهج الباطني و التخاطبي، لأنه
أمر وارد بشكل مختصر جدا و عارض و ليس هو الهدف من الدراسة و لكنه استوقفني
بسبب بعض الأفكار التي أفكر بها... أقول إن الهدف الأهم من هذه الدراسة و
ما تقوم عليه أبحاثها بمعظمها هو اظهار المناهج التي اتبعها كل من السلفيين
و جمهور علماء الأصول من الناحية التخاطبية و في كيفية دراساتهم لاستخدام
الكلام، و توضيح الفروق الدقيقة بين هذه المناهج و كيف أثر هذا على تفسيرهم
للنصوص و الاستنباط منها... و هذا يقودني للفكرة التي تليها...
·
إن من أجمل البحوث في هذا الكتاب و أروعها هو نظرية الحمل السياقي عند ابن
تيمية... إذ أنه من خلاله تعرفت على رؤية جديدة لم أكن على دراية بها
إطلاقا... فأنا على اطلاع مسبق بطريقة الجمهور في التعامل مع النصوص و
لكنها المرة الأولى التي أطلع على رأي ابن تيمية و لم أكن أعلم أصلا أن
هناك من شاكس بعض الأمور التي كنت أظنها من المسلمات اللغوية و حتى
المنطقية... و الحجة المستخدمة في المشاكسة ليست واهنة أو ضعيفة و إنما
قوية بحيث أنها بلبلت شيئا من أفكاري... و حقيقة أن المؤلف كالعادة أظهر
براعة في تبيان الفرق بين المنهجين من الناحية اللغوية... بل و زيادة على
ذلك إن النظرية البراكسيماتيكية (و هي القول بأن المعنى لا يحدد بشكل مسبق
و إنما الواقع و ما يفرضه من سياق هو ما يحدد القيمة الدلالية للمفردات
بشكل كبير) و التي قرأت كتابا عنها ذات مرة و قيل أنها توجه جديد في علم
اللغة، اكتشفت أنها ليست توجها جديدا، فعلماء أصول الفقه المسلمين كانوا قد
تطرقوا لهذا قبلا...
·
الخلاف بين منهج ابن تيمية و الجمهور باختصار هو أن الجمهور يقول بأن
للكلمات معنى وضعي في أصل اللغة و هو المعنى الحقيقي و هو أول ما يؤول به
الكلام، فإن وجدت قرينة تصرف عن المعنى الحقيقي فحين إذن تصير مجازا... أما
ابن تيمية يقول بعدم وجود للكلمة معنى وضعي خارج السياق هكذا بشكل مجرد،
فالمعنى يعتمد على السياق و هو الذي يحدده و بالتالي فليس هناك حقيقة و
مجازا و إنما عدة معان حقيقية... فالمجاز قائم _بحد تعبيره_ على دعوى زائفة
تفترض وجود معنى وضع للكلمة سابق لاستعمالها، و لكن ليس هناك من وضع دون
استعمال... و ذلك انطلاقا من نظرته الفلسفية بعدم وجود شيء في الخارج من
دون قيد، فليس هناك من لفظ مطلق أو معنى مطلق سوى تصوراتنا الذهنية للألفاظ
و المعاني الحقيقية و التي هي ليست إلا تصورات مجردة لا وجود حقيقي لها في
العالم الخارجي... بل إنه يخالف أحد مسلمات المنطق الأرسطي التي تفرق بين
الصفات و الذات و ذلك لأنه بحسب قوله لا وجود للصفات من دون ذات في
الواقع... باختصار مخل فإن ابن تيمية ينفي التجريد و يعتبر الواقع، "إن
جوهر حجته هو أن المناهج الصورية التي جاء بها الفلاسفة اليونانيون و
المسلمون لاكتشاف الحقيقة قد
أخفقت بسبب نزعتها إلى تصورات مجردة بدلا من تعاملها مع الواقع، و أنه لا
يمكن بلوغ بحث معقول إلا باللجوء إلى منهج عملي
empirical
يأخذ
في حسبانه الموقف الكامل للظاهرة الجزئية. و يعود ضلال الفلاسفة _كما يرى
ابن تيمية_ إلى الخلط بين العالم كما هو، و افتراضاتهم الذهنية التي صاغوها
عنه."
ص130... دعوني أوضح الأمر بمثال صغير:
·
لنفترض أنك قلت العبارة التالية: (لقد جاء صديقي الدب).. فالجمهور يقولون
أن كلمة دب موضوعة في الأصل اللغوي لذلك المخلوق السمين و الظريف و
الخمول... أعني هذا:
و لكن بما أن المعنى الحقيقي الموضوع في أصل اللغة ممتنع هنا إذ لا يمكن
للدب أن يصادقك حتى لو رغبت بذلك لأنه نيق في خياراته و لا يلوث سمعته
بمصادقة البشر، إذن فكلمة دب هنا ليست تستخدم بمعناها الحقيقي و إنما
المجازي و هي كناية عن الشخص الطبوش... بينما ابن تيمية و بما أنه لا يعتبر
المجاز فكلمة دب هنا لها معنيين حقيقيين بنفس الدرجة ذاك الشخص الطبوش و
الحيوان الظريف، و ما يحدد المراد هو السياق و القرينة، و الذي هنا في
مثالنا الشخص الطبوش طبعا... إذن فصديقك هو دب حقيقة بحسب ابن تيمية و ليس
مجازا...
·
هذا الخلاف قادني للتفكير في أيهما أنسب لي يا ترى؟ و أحسبه جدد سؤالي
القديم
أءكون براكسيماتيكية أو لا أكون؟
فمن ناحية تبدو نظرية الحمل السياقي لابن تيمية واقعية و أقل تعقيدا من
فكرة الجمهور التي فيها بعض اللف و الدوران... و لكن من ناحية ثانية لم
يعجبني تماما فكرة عدم وجود معنى حقيقي موضوع مسبقا خارج السياق... كما أن
فكرة الجمهور تبدو لي ضابطة للكلمات أكثر و تجعلها أكثر ثباتا برأيي
لإقرارها بأن هناك معنى حقيقي دائما مستقر و ثابت و هناك المجاز، و إن كانت
فكرتهم تبدو أقل عملية و أكثر تعقيدا... و لكن حسب فكرة ابن تيمية فإن
معاني الكلمات تتسم بالمرونة أكثر و عدم الثبات و بحسب ما يقول البعض أن
اللغة إنما وضعت للاستعمال و التخاطب و ليس لتحجيرها... و السؤال الذي
يبرزه منهج ابن تيمية في كلامه مع الجمهور هو أن منذا الذي يعطي الحق ليقول
أن هذا معنى حقيقي قد تواضع عليه و هو أولى و الثاني إنما هو مجاز يأتي في
المقام الثاني... طالما أن كليهما مستخدمين في الخطاب؟
·
لا بل حتى بالمنطق... فنظرة ابن تيمية الوجودية من عدم وجود التجريد تبدو
واقعية تساعد على عدم الشطح بالذهن و ذلك لأنه في الذهن قد تجتمع
المتناقضات بسهولة... فضلا عن أني لطالما كرهت في المنطق أشياء أتعبت ذهني
في محاولة التفكير بها، كفكرة التفريق بين الذات و الصفات، إذ كيف تتصور
وجود صفة الأحمر أو القِصر في الخارج من دون ذات تحملها؟ و لكن من ناحية
ثانية أنا لست واقعية كثيرا بل لا أحب الواقع... و أحب التجريد... فضلا عن
أنّا مخلوقات ذاتية و هذه الذاتية تجعل تصورنا عن الواقع الخارجي يختلف في
أحيان... و إن كنت تعلمت من خلال التجربة أن كثرة التجريد تؤدي للشطح و
تصور مغلوط عن الواقع و الوقوع في المتناقضات بحيث أنه ينبغي دائما أن أكون
واعية لفكرة أن تصوري الذهني للعالم ليس بالضرورة أن يكون كذلك في
الواقع... و لكن أيضا إن قلة التجريد تجعل الحياة لا أدري كيف... واقعية
بزيادة... مثل الحجر... مجسدة... لا أدري كيف أعبر... و لكنها تبدو محدودة
و أرضية... هذا على افتراض امكانية التمسك الدائم بحيادية فكرة الواقع
الخارجي بما أن الواقع الخارجي لا يمكن تصوره دون أن يمر عبر الحواس و
الذهن... أها و من هنا تبدأ المشكلات... ثم ماذا عن الأمور التي يستحيل
معرفة كيفيتها في الواقع الخارجي و بالتالي نلجأ للتجريد لأجل التعبير
عنها؟
·
و أنا أقرأ عن (مبدأ التبادر) و هو أحد المبادئ التي استخدمها السلفيون و
يعني (حمل الكلام على أرجح معنى سليم) أي أن المعنى السابق إلى الذهن في
تبادره هو المعنى الأرجح... خطر لي أن هذا المبدأ لا يناسب أمثالي... إذ
أنه كثيرا ما يكون المعنى السابق لذهني و المتبادر معنىً بعيدا و شاذا... و
هذا أوقعني بالحرج "جدا" في مرات... و هنا خطر لي الفرق بين وجود معنى
حقيقي للكلمة سابق على السياق و بين أن تكون الكلمة لا يحددها إلا
السياق... أعني لو أني استطعت اتباع طريقة الجمهور باستخدام "مبدأ
الاستصحاب" و هو بأن استصحب المعنى الحقيقي للكلمة الذي وضع لها في أصل
اللغة حين أسمع جملة ما، فإني ربما أفلح بتجنب الاحراج... بينما لو أني
أطلقت العنان لمبدأ التبادر عندي لربما حصلت كارثة. و إن كنت يعني أعترف
بأن التطبيق صعب إذ التعجل يجعلني أنسى مشكلتي مع المعاني الغريبة
المتبادرة لذهني...
على كل سيدّعي شخص بأن مبدأ التبادر قد وضع لأشخاص طبيعيين يتبادر لذهنهم
معان طبيعية مستخدمة و متعارف عليها... أجيبه بأن هذا صحيح قليلا ربما، و
لكن كيف للمتكلم أن يعرف ما نوعية من يخاطبه أطبيعي أم مسطول؟ فسيجيبني نفس
ذاك الشخص الشرير _الذي مهمته اقلاق راحتي دوما_ بأن المتكلم غير ملزم
بمراعاة البهاليل في خطابه و إنما باتباع قواعد الخطاب المتعارف عليها...
حسنا يا عمي وصلت فكرتك ما في داعي تلمح و تغمز بإني بهلولة...
إنما تقدم فقط غيض من فيض الأفكار و التداعيات و الأسئلة التي خلقها الكتاب
في رأسي... و لست متأكدة تماما إن كنت فهمت بشكل صحيح أم لا... أحسب أني
أحتاج للقراءة عن هذه المواضيع بعد أكثر...
و لكن دعوني أنهي الحديث عنه بالسؤال الذي أنهكني التفكير فيه بين منهج ابن
تيمية و الجمهور في فهم النص... أيهما أفضل و أكثر منطقية يا ترى؟ ما زلت
أميل لرأي الجمهور... لا أستطيع تخيل أن ليس للكلمة معنى وضعي سابق و خارج
السياق... و لكن مع ذلك نظرية الحمل السياقي عند ابن تيمية فيها شيء مقنع و
لا أستطيع نكرانه...
ألا يمكن أن يوجد منهاج بين المنهجين و طريق بين الطريقين و منزلة بين
المنزلتين... بحيث يكون رشة من هذا و رشة من ذاك، قدم هنا و قدم هناك؟
فكرت مثلا هل من الممكن أن نغير ترتيب الجمهور للخطاب المعقد و نجعله
عمليا أكثر مثل قكرة ابن تيمية، و لكن نزيد عليها بأن نبقي على المعنى
الوضعي للكلمة كشيء احتياطي و ثابت نلجأ إليه أخيرا _و ليس أولا كما يقول
الجمهور_ حين
وجود اشكالية ما أو نستأنس به أو لا أدري ماذا المهم أن يوجد و كفى و لا
يصير المعنى هلاميا يعتمد السياق و كفى... هل هذا ممكن أم تبدو الفكرة
خرقاء لأن الوضع يفترض به أنه سابق للاستعمال فكيف نتخيل وضعا مركونا على
الرف بعد الاستعمال؟ هل لكلامي معنى؟ أشعر بأنه لم يعد له معنى منطقي...
لماذا أحاول الجمع بين القولين أصلا؟ على كل للحقيقة ما زلت أميل لرأي
الجمهور و إن كنت أجد بعض منطقية في رأي ابن تيمية... يا إلهي بس قد بدأت
أهذي...
السؤال الأهم لماذا أصدع رأسي في التفكير بأيهما... لماذا في كل مرة أقرأ
كتابا لغويا هكذا أسأل أءكون هذا أو لا أكون... و كأني عالمة زماني و
نحريرة أواني و لست مجرد قارئة عادية...
إنما هذا كله من تأثير الكلمة الساحر على عقلي حتى لاثته...
يا أيتها الكلمة!
كم أنت صعبة و مربكة و محيرة!
هل لك من وجود خارج السياق، خارج الاستعمال، بشكل مجرد، أم ليس لك؟
إن استطعت الامساك بك يوما فلن أفلتك حتى تعترفي...
يا أيتها الكلمة المرهقة!
يا أيتها اللغز العصي!
يا سر الوجود!
أبيني لي نفسك...
و للمرة الثانية أقولها، الله يسلم إيديك يا محمد محمد يونس علي على هذا
الكتاب الرائع... زادك الله علما و فهما في اللغة...
أنصح بالكتاب لكل محب لعلم اللغة...
---
أكتب كل هذا و أنا أغالب حقيقة شعورا باللاجدوى و السخف من كل
ما كتبته فما الفائدة من كل هذا في واقع يلفه الخراب و الموت... على كل
إنما هي الفسيلة التي وجدتها في يدي فزرعتها سواء أكان هناك جدوى أو
ليس هناك...
---
علم
التخاطب الإسلامي
دراسة
لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النص
لمؤلفه:
محمد محمد يونس علي
دار المدار
الإسلامي
سلمى حزيران 2012