الخطاب القومي في الشعر المعاصر
د. صلاح فضل
قد يهدف تحليل الخطاب الشعري إلي الكشف عن إستراتيجية النص في توظيفه لمختلف الإشارات اللغوية لتشكيل منظومة تقنية عالية الكفاءة في توصيل البيانات الجمالية علي وجه التحديد من هنا فهو يبتعد عن التحليل المضموني الذي كان سائداً في النقد القديم والذي كان يرتكز علي النقاط الموضوع ، وإلقاء الضوء علي جوانبه المختلفة بغض النظر عن كيفية تقديمها المتعينة في النص .
أما تحليل الخطاب فهو ينطلق من الخواص النوعية له ويأخذ في اعتباره ارتباط النجاعة الوظيفية للنوع بمستوي إنجازه الخاص ، فتصبح درجة الشعرية هي الحاسمة في قياس كفاءة النص في حالتنا في تحقيق غايته التواصيلة ولا يتحول الموضوع مهما كانت نبالته إلي مجرد ذريعة تبرر قولاً متهافتاً في مكوناته ضعيفاً في فعاليته ، بل تفضح المسافة الفاصلة بين القصد والمنجز ما يقع من قصور في الأداء أو عجز عن الوفاء بمتطلبات متحركة تتسم بطابعها الديناميكي الخلاق لأنها تتجاوز دائماً أفق توقع المتلقي وتدهشه بكشوفها المتميزة .
وإذا كانت اللغة – وهي مادة الخطاب عموماً – أقوي مظهر للملكية الجماعية الشائعة ، كما كان يقول جاكويسون ، فإنها هي التي تحفظ كيان الأمة – وتحقق قوميتها وتكاد ترسم حدودها إنها قد تصبح الوطن الذي نسكنه ، والروح الجماعي الذي نحيا به ، لكننا سرعان ما نجني عليه بالاستهلاك والإرهاق والتجميد والتنميط سرعان ما نحيل اللغة إلي قوالب محفوظة منصلبة وعبارات مكررة لا ينقذها من أيدينا ويرد لها عافيتها وشبابها ونضارتها البكر سوي الشعراء ، هم الذين يعيدون تخليقها وشحنها بالطاقة المتجددة ، هم الذين ينفثون فيها وهج الحج ويحققون بها تاريخ الوجود الإنساني الخلاق .
ولدق كان الشعر العربي في مختلف عصوره المرآة الصافية والمحدبة لخطاب الجماعة في السلم والحرب ، عندما كان يقوم بوظائف عديدة الإعلامية التواصية والفكرية التخيلية والوجدانية الحميمة ، فشيد الشعراء صرح الديوان العربي بأكمله ، وعمروا أروقته وصنعوا قيمه ومثلهوذاكرته ، وصبوا فيه خلاصة قدراتهم الإبداعية في التشكيل واللحن والتصوير والنحت والرقص والنقش ، كان الشعر اختزالاً مكثفاً للفن العربي وتعويضاً مسعفاً عنه ، ثم لم يلبث في المرحلة الحديثة أن تنازل تدريجياً عن إعلاميته وخطابته ، محاولاً أن يخلص إلي جوهر الفن في أصل وجوده وكينونته .
ولعل أهم ما يترتب علي هذا الأنحسار النوعي في وظائف الشعر أن تتحرراللغة نسبياً من طغيان الوظيفة التخيلية عليها في مجالات الحياة العملية ، وتتعدل منظومات القيم كي توازن بين متطلبات الواقع والخيال ، فقد كنا نفرح ونبتهج عندما يحدثونا عن عبقرية العربية باعتبارها لغة شاعرة ، ولا ندرك ما في ذلك من خطورة عل يوعينا بالحياة ومحددات الواقع ، حتي يأتي علينا حين من الزمان يرتكب فيه الإعلام – وريث الشعر – خطيئة التلبيس بين الواقع والخيال فيسمي الهزيمة نصراً ، ويتوهم معارك مضحكة نغير فيها أسماء الوقائع إلي أضدادها ، ونصدق أكاذبينا ونطلب من العالم أن يحاربنا في ذلك فتكون هذه جناية الخلط بين أنواع الخطاب ووظائفه المختلفة ، نفرح بالطابع الشعري الغالب علي لغتنا فتصبح عقليتنا شعرية أسطورية ، تتمسك بسحر الكلمات وتستعيض بها عن العمل والفعل الحقيقي .
إن لغة الشعر- كما تثبت الدراسات التداولية الحديثة – هي التي تعتمد علي أفعال الكلام ، وهي التي تستقطب الطاقة الإنشائية للخيال البشري لكنها تفعل ذلك عن عقد ضمني بين المبدع والمتلقي مثلما يحدث عند شباك المسرح ، حينما أدفع ثمناُ بطاقة الدخول ولسان حالي يقول ” أدفع لكم ثمن استمتاعي الفني بما تقدمونه أمامي من عمل تمثيلي ، تعيدون فيه تجسيد الوقائع بشكل مخالف لما هي عليه في الحياة كي يتضمن دلالة ولذة جمالية ” .
وهكذا فإن وظيفة الشعر اليوم لا يمكن أن تنحصر في انكفاء اللغة علي ذاتها أو تأملها لمفاتنها واحتفائها بألاعيبها التقنية الجميلة ، لا تزال رؤية العالم هي مناط أهمية الشعر وخلاصة وظائفه الجمالية والحيوية بشروطها المعرفية والتخيلية الخاصة .
ولقد أسفرت بحوث التداوليين المبنية علي نظرية أفعال الكلام عن أن هناك جملة مقدرة تسبق كل قول شعري لتصنع فرضيته الأساسية يوجزها “ليفين” في إحدي عبارتين طبقاً لمدار كل قصيدة ودرجة سعتها ، وإستراتيجية خطابها :
- أتخيل أني ..
- أدعوك أن تري العالم باعتبار أنه
هذه الجملة هي التي تضمن التماسك الداخلي والانسجام الجمالي لكل ما يحفل به النص الشعري من صور تناقض الواقع الملموس وتتجاوز منطق اللغة المألوف وتستثير أعمق كوامن الذاكرة الإنسانية يصبح الشعر هكذا صورة يرسمها الفنان لنفسه وللعالم من حوله ، خطاباً يجسد فيه ذاته كما يراها وكما يجب أن نراها معه إنه خطاب الوعي وما تحته صورة الواقع كما نتخيله ونتجاوزه الامر الذي يجعلها تحفل بالتوتر الداخلي المبدع بين القدرة والإرادة والمفارقة الواضحة بين الداخل والخارج ، إنها تنشد المستحيل وهي تزعم أنها ترصد ما يثوي أمامنا في رحم الوجود .
* مرايا الخطاب القومي :
ولقد تأملت في دراسات سابقة بعض مرايا الخطاب القومي في الشعر العربي المعاصر بشكل جزئي عند السباب والبياتي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وبتفصيل أدق عند أحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وأريد أن أسلط الضوء التحليلي علي عدد آخر من الشعراء . يجمعهم أنهم أبناء هذا النصف الثاني من القرن العشرين ، اكتووا بناره اللاهية في المحرقة ، الفلسطينية وانتقلوا كلهم من البؤرة الساخنة إلي الحافة المجاورة لها مباشرة ، حيث عاشوا في الأردن وكتبوا أشعرهم علي ضفته الشرقية الدافئة ، والعلاقة بين الوعي القومي بأشكاله الأيديولوجية والتخيلية والجرح الفلسطيني الغائر علاقة سببية فالاحتكاك بالآخر في وجهه الاستيطاني العنصري القبيح واكتشاف مقومات التماسك للأمة وجهان لموقف واحد تعجل فيه المحنة والصراع أسباب النضج – وربما الاحتراق – لعوامل التماسك القومي في الواقع وما فوقه ، علي أني – من الوجهة الإجراية – أريد توضيح أمرين :
أولهما : إن مفهوم الخطاب القومي كما يتجلي في الشعر لا ينحصر في الموضوع السياسي المباشر ، بل يرتبط برؤية العالم بما يشغله الهم القومي في مساحتها حضوراً وغياباً وبمدي ما تنجح فيه تقنيات التعبير الشعري وغستراتيجيات الخطاب في احتواء مستويات الوعي العربي وتفعيل الإحاطة بها عبر التواصل الجماعي النوعي حتي يصبح الخطاب الشعري قومياً بمقدار ما يشف عن روح الجماعة ويبلور من ضميرها الإنساني مستمداً نسقه من موروثها الحضاري ومنظورها المستقبلي معاً .
والثاني : أن النماذج التي أتوقف عندها ليست حصرية بمعني أن هناك عدداً آخر من شعراء هذه البؤؤرة الساخنة تصلح أعمالهم كي تقدم لنا تجليات باهرة لهذا الخطاب ذاته ، مثل سميح القاسم ، ومحمد القيسي وأحمد دحبور وغيرهم ولكن فروة الشعر وخصوبته تحول دون أستيعاب كل التيارات والتجليات الفائقة وكل عملية اختيار تتضمن انتقاء وترسخاً وتتحمل مسئولية ما تفعل دون أن يكون ذلك حكم قيمة بل هو ضرورة واقع لا مفر من تصغيره حتي تتسع له صفحات يسيرة مفتوحة علي التنامي والاستمرار فيما بعد .. وإذا كانت عوالم الشعراء تتسم بمفردها كلما صنعت خطابها المتميز ، بحيث لا يمثل أحدها غيره فإن تنوع التجارب الشعرية مع وحدة الإستراتيجية القومية هو الذي يكشف لنا عن مناورات الشعر ويبرز أساليبه ويلفتنا إلي ثراء تقنياته وتعدد نبراته الأمر الذي يضعنا في قلب الشعرية العربية وهي تصنع معجزاتها المتجددة وتمارس غوايتها لخطابنا المعاصر .
وربما كانت القرابة الأسلوبية لتيارات الشعر السابقة علي الفترة الراهنة هي التي تجعلني أوثر البداية بالشاعر الراحل عبدالرحيم عمر حيث يمكن أن نعتبره نموذجاً للصوت الغنائي الرائق ، الفائق في عذوبته وهو يقدم بخطوط منتظمة شفيفة صورة وعيه ووعي أبناء جيله في هذه العقود الأربعة الماضية بموقفهم القومي ورؤيتهم لموقعهم التاريخي ، عبر تصوره لنفسه ودعوته للآخرين اي من خلال تخيله لذاته وللعالم من حوله :
سر السحر الشعري لديه هو البساطة العفوية الأسرة ، افتح ديوانه مثلاً علي قصيدة بعنوان ” عيناك حلوتان ” لنجده يقدم فيها أمثولة كونية للمأساة القومية ، بعرض فيها مجازياً قصة الطوفان الصهيوني الذي غرق فيه أبناء هذا الجيل .
عيناك حلوتنا
وكالربيع فيهما تفاؤل حبيب
وخضرة ترعش بالحنان
ودعوة وادعة للحب والطفولة
وفيهما طفاوة اسيانة عليلة
رحيبة كأنها المدي
عميقة كأنها الزمان
وانت كل عالمي في هذه السفينة
فالآخرون واجمون ” استسلموا للموت ، للطوفان .
وكل زوج للفرار صورتان
خائفئتان ترقبان هجمة الري
وانت يا رفيقتي تغالبين الخوف
تزرعين حولك الأمان
عجل بنا يا ايها الربان
عجل بنا ، ها قمة الجبل يا أيها الربان
الخوف والمنون توأمان
هذا النفس الوادع الهادئ النضير يمزج في نبرة واحدة بين قرار اليقين الواثق المفعم بالأمل مع رعشة الاجفال الفزع من المستقبل يرواح بين تحنان من العشق وهول المأساة في اتساق عجيب يتسع ليشمل حالات متناقضة في أغوار الإنسان واقع وجوده ، ربما لم تكن خطوب الحياة القومية قد حطمت بعد هذا التفاؤل الرومانسي الوديع وهو يقترن بصحوة الحب وزهوة التطلع للغد ، لكن ما يعنينا من الوجهة التعبيرية في هذا الشعر ويحدد ملامحه كخطاب نوعي هو بساطة نسيجه وعذوبته وخلوه من تراكمات المجاز ومشاحنات الرمز ، يكفيه هذا الإطار الأمثولي الواضح في قصة الطوفان التي يسهل تلقيها وفهمها علي كل المستويات .
علي أن هذا التيار الموسيقي الذي يسري في خلايا التراكيب ويشكل إيقاعها اللافت ، وأنماط التكرار البارزة في المطلع والختام ” عيناك حلوتان ” يجعل للدلالة الشعرية الموازية غيقاعاً حلواً سرعان ما يتردد في وجدان المتلقي دون عناء . وكما يعتمد الغناء الشجي المؤثر علي الصوت المفرد والنغم المكرور والدلالة الواضحة ذات الأثر القومي علي النفس فإن هذا النموذج يمثل طريقة الإنجاز الشعري للخطاب وهو يتشكل صانعاً ذائقة القراء ومستجيباً في الآن ذاته لأفق انتظارهم ومشبعاً لحاجاتهم الجمالية .
ولقد ظل هذا الولع بالغناء والافتنان بالموسيقي ، والإنشاد للحب يمثل البؤرة التي ينصه فيها الحس القومي برؤية الذات الشعرية حيث يحافظ الشاعر علي مسافة كافية من موضوعه مؤثراً الاقتراب التصويري منه .. وهذه طبيعة الغناء ، عندما يشدو للمحبوب وهو يقصد الوطن ويهذي بعشق الجمال وهو ينفث مواجد التاريخ .
في هذه المرحلة كان عبدالرحيم عمر يكتب شعره الذي يوازي ويضاهي كبار شعراء جيله في مختلف الأقطار العربية وإن كانت شواغلهم ومصائرهم قد اختلفت بعد ذلك نقرأ له مثلاً قصيدة أخري في ديوانه الأول ” أغنيات للصمت ” بعنوان ” الرحيل ” لنفاجأ بهذا الخطاب الطريف :
صديقتي أميرتي البعيدة
من بلدتي الجديدة
ومن وراء غربتي الشريدة
أطل للشمال في ابتهال
لعلني رغم المدي البعيد
أراك يا حمامتي الأسيرة
تحدقين تنظرين في قلق
وتسألين ف يمشارف الأفق .. إلخ
من الواضح أن خطاب الصديقة الذي كان قد كتبه صلاح عبدالصبور كان يمثل لفتة حميمة في أوضاع اللغة الشعرية تنتقل بها من نجوي الذات الرومانسية إلي البوح المنطوق للحبيبة المثقفة العصرية بهموم النفس والوطن ، حينما أصبحت رفيقة الدرس في الجامعة أو النضال في صفوف الحزب ليس معني ذلك أننا نري ظلاً من المحاكاة في هذا الخطاب ، لكن معناه في تقديري أن كلا من الشاعرين كان قد عثر علي النبرة الملائمة لخطابه الغزلي القومي لكن ما سيحافظ عليه الشاعر الفلسطيني المولد ويختلف به عن رفيقه المصري هو إبقاؤه علي هذا النغم الغنائي المفرد دون مأساوية لاستنفذا أقصي ما يتضمنه من حلاوة تعبيرية غير ممرورة ، تصل به إلي درجة النشوة الغنائية والهذيان في مثل قوله :
كان كالطائر يهوي كل زهرة
فيغني لهواها
ويغني لشذاها
ويغني للندي والروض والنوار شعره
ثم يسرد قصته عندما رآه ” من بني الجن أمير عبقري فدعاه ياصبي ” قائلاً له:
أنا في كشف أمور القلب والغيب نبي ستراها يا بني
غضة كالزهرة الخجلي علي الغصن الطري
ستراها فتصبر يا بني ”
ولا يخفي علينا أن ضمير الأنثي يحتوي الأرض المغمة عن ناصرته الماثلة في بؤبؤ قلبه فالشاعر المغني يتحول إلي راء يتنبأ ، وهو معني بمعشوقته التي لا ينفصم فيها الخاص عن العام ولا الرمز عن المرموز إليه وهو يقدم صورة الذات دون أحباط أو مرارة وأهم ما يتمثل في هذا الخطاب الشعري العفوي هو حيويته الدافقة واتساقه المتناغم وقدرته التواصلية الفائقة عندما يغني في صوت واحد للوطن الجريح ولما في الحياة من تباريح مفعماً بالرغم من ذلك في مستقبل مشرق لا شك في بزوغه القريب .
إذا أنتقلنا بعد ذلك إلي النموذج الثاني ” عز الدين المناصرة ” وجدنا أنفسنا حيال شاعر عارم طويل النفس عميق الثقافة متجذر في قلب الأسطورة التاريخية ممتد إلي الأفق الإنساني الرحيب ، طموح إلي تشكيل شعرية متميزة يناوئ بها كبار مجادليه ، كما ألفينا أن الكثافة هي التي تلعب الدور الرئيسي في قصيدته حيث لا تعتمد علي تداعيات سهلة متوقعة ، بل تعباً بشحنتها الدلالية المتراكبة عبر عدد من التحولات والانتقالات تتعدد فيه الأصوات وتختلف المستويات المجازية ، وتلعب الرموز المصنعة دوراً بارزاً في إثراء الدلالة بسياقاتها المختلفة .
نجد شاعراً يجيد القصيدة المطولة والتوقيعة الموجزة يعرف كيف يسكب رحيق تجربته في كلا الإطارين دون تعسف أو إسرف ممتلكاً زمام الإيقاع وموظفاً لأبعاده في كل الحالين .
لكننا سرعان ما ندرك أن اللقب الذي انتزعه لنفسه حيث كتب علي غلاف أعماله الكاملة تحت اسمه ” شاعر المقاومة الفلسطينية ” كان باهظ الثمن فقد أضطره – فيما يبدو – إلي أن ينفي من شعره كل ما لا يتصل مباشرة بالتاريخ المناضل للمقاومة منذ انبثاقها إلي تفجيراتها وأحداثها وخطويها المعلقة ، ومعني هذا أن المسافة الفاصلة بين السياسة وقول الشاعر عنده ضيقة مأزومة حيث يجد القارئ نفسه محاصراً في مجري الأحداث متقلباً علي نيرانها وحيث يتقلص فضاء المتخيل الشعري خارج هذا الإطار بدرجة كبيرة تقتصر علي حالات العشق والضياع قبل احتدام لمأساة بما يجعل هذا العالم خالياً من المفاجأت الكبري والانحرافات البهيجة .
ومع ان الشاعر يمتلك حساً درامياً عالياً بالوجود وقدرة كبيرة علي صناعة الرموز ، إلا أن القالب النضالي الذي ينحصر فيه بجعل قصائده أناشيد دون بطولات عظمي يصدقها التاريخ ويجعل أشكال المفارقة مع الواقع تغلف الخطاب بدرجة خفيفة ربما غير مرئية من السخرية الشفيفة الفاصلة عن التماهي معه .
ولنتذوق طرفاً من هذا الشعر العارم في إحدي المجموعات الفائزة بعطاء الروح الشابة ” بأجس أبوعطوان يزرع أشجار العنب ” وهو رابع ديوان شعري للمناصرة نشر عام 1974 حيث يقول بضمير المتكلم المباشر :
أعشق بيت المقدس ، سور الحرم وباب الأسباط
وخصوصاً
حين تجئ الشمس علي الباب الغربي
وأعشق قافلة الأنباط
وكذلك علمني الوالد : أن الأمكنة حنين يبقي
فأحفظ يا ولدي
في قلبك بعضاً من ماء العين
تنفعك الذكري حين يحوم علي رأسك طير البين
في لحظة حزن من زمن الإحباط
نلاحظ أولاً أن البداية المباشرة في الظاهر سرعان ما تضمر بعداً تاريخياً في الزمن القديم ، إنه عشق ما قبل الميلاد حينما يتواصل مع قوافل الأنباط وهو عشق ممتد في أصلاب الأجيال يثق في توالده المتوارث من أب لابن لحفيد عشق السلالة لا الفرد .
ومع أنه مختوم بنبرة حزن لاهب تعلن وجعها من زمن الأحباط إلا أنه مزود بدمع المآقي وقد طمره القلب إنه يؤمئ للتاريخ القادم بتفاؤل مكتم انتظاراً لانتصار الحكمة والحب .
ولو طرحنا سؤالاً صريحاً عن الطابع المميز لهذا الخطاب القومي في شعر عز الدين المناصرة لوجدنا إجابة قريبة سريعة تجعله خطاب العصر بكل خطوبه وتقلباته ويتجلي ذلك فيما يلي :
(أ) استقطاب المنظور النضالي المباطن للتجربة التاريخية بكل تعاريجها الزمنية وظلالها المكانية مرحلة مرحلة ، ومنفي منفي ، من القاهرة إلي عمان وبيروت وصوفيا بودابست وبرلين دائماً بلباس الجندية .
(ب) التماهي مع حركات النضال العالمية ورموزها الأساسية مثلما هو منتظر من الشعر الأيديولوجي الملتزم والقرب في أحيان كثيرة من مستوياتهم في التعبير والترميز نركز مثلاً علي مقطع من قصيدة “الحب لونه أخضر ” التي تذكرنا برائعة
” لوركا ” : ” خضراء أريدك خضراء ” بينم اتوجه الحديث لناظم حكمت قائلة :
انكسر شوقاً لما يأتيني صوتك في
كل صباح مسحور
أسمع خطواتك فوق الدرج الحجري المكسور
طقطقة الكعب الأسود ، رجرجة الخاصرة أزيز النار
في قلبي يخضر العشب وتنهمر الأمطار
تتراقص فوق الشجر البري – ارتدي
نحوي ياهذي الجنية
من جاء بوهج الغاب إلي نافذتي السحرية
من جعل الشجر البري يعشش في
زمن البارات السرية
ياعم ناظم
أمس رأيتك في استامبول
تحمل مصباحك والشمس علي القيعان تجول .. إلخ
نحن هنا بإزاء تكوين شعري أيديولوجي مستقطب لكل لحظات الوجود في منظور الثورة العالمية كما كانت في خطاب الستينات في الشرق والغرب يتماهي مع الرجال الأبطال في الأناضول وأمريكا اللاتينية ، يرتكز علي اعتصار الألوان والرموز وينفث قدراً من التوحش في رؤيته للمرأة الوطن الثورة كما استقرت في مخيلة شعراء هذا الخطاب الأممي الجارف في زمنه الأقل الآن .
(ج) لكن شيئاً من اتحاد الألوان يحرم هذا الخطاب من التخالف الضروري من التناقض الذي تحفل به الحياة ، من التمييز بين طبيعة التجارب ، الأمر الذي تترتب عليه نزعة طاغية إلي الإحساس بالغين بالمقارنة مع الغير .
هنا نري كيف يجني التوافق مع موج التاريخ علي الشع يطغي علي إيقاعه يغرقه في أيديولوجيته يحرمه من الحياة المستقلة القادرة علي أن تستنفذ من براثن التآكل عناصره الجوهرية ، يجني علي إمكانات الشاعر في أن ينسلخ من الجماعة يتفرد عنهم بحيث يري ما لا يرون وينشق حتي علي الثوار أنفسهم إن رؤية الشاعر المعاصر تغيم كلما تماهي مع الآخرين وتصفو بمقدار ما يبتعد عنهم ويصدم منظورهم .
ولعل الأمر الجوهري الذي ينجم عن التوحد مع الجماعة هو تحول التجربة الشعرية إلي تنويعات محدودة علي نمط متسق معروف مسبقاً عندئذ لا تحفل بالتناقض الخلاق ، ولا تري الأمور من مواقع متفاوتة ولا تطوف بذاكرتها فكرة الصراع الدرامي المحتدم بين حقين في الوجود .
الأمر الذي يجعلها تتحول إلي نشيد ملحمي لا يعثر علي البطولات الكافية المنتصرة كي يتغني بها ، فيقوم بتضخيم وتكرار رموزه الصغيرة ويستعيض عن فقرها باستثارة رموز تاريخية عتيدة كي يسخر منها أو يتلبس بها ، ويتخذ عدداً من الأقنعة التعويضية التي تسعفه ف يغشباع اعتزازه بذاته المتوترة بين الفردية والجماعية كما يفعل عز الدين مثلاً في قناع امرئ القيس الذي يوظفه بمستويات مختلفة في النجاح والإخفاق ، لكن تظل القراءة اللاحقة لهذا الشعر دائماً مشوية بالذكري والتحنان ، تستعيد روائح زمنها وأمكنتها وروح عصرها الذي انخرطت علي مقاسه وأطره الأيديولوجية .
- فإذا ما انتقلنا إلي ثالث هؤلاء الشعراء الذين يجمعهم المكان ويتراوح بينهم الزمان قليلاً ، وهو إبراهيم نصر الله الأكثر شباباً وحداثة ، وجدنا أن أول ما يلفت النظر جذرياً في شعريته هو قدرته علي خلق وقائع شعرية جديدة علي صنع متخيل متميز تتجلي فيه الدعوة التداولية السابقة ! ” أتخيل أني وأعوكم لرؤية العالم باعتباره” حيث يكتسب الخطاب الشعري مذاقاً مخالفاً تماماً للإعلامي يفرد الخيال أجنحته فإذا بالحقائق التي يقولها تنتمي إلي طبيعة مغايرة لما تعودنا ريته .
أنه مثلاً يحقق للعاصمة التي ولد في مخيماتها “عمان” حضوراً شعرياً لم يسبق إليه ، وذلك عبر وعي ” ريما ” فتاة المخيم التي يتحدث عنها وباسمها في ديوانه الأول ” الخيول علي مشارف المدينة ” إذ يقول :
حدثتها السنون طويلاً
وعمان أبعد من حلمها العائلي
وأقرب من وجهها الساحلي
وتضحك في سرها
ليس بين المخيم والعاصمة
غير درب ستعبره ذات يوم
رفوف لقاءاتنا القادمة
…
والتقينا فقالت :
لعمان لون جراحي
ولون حنيني
ولون التي لم تزل ترتديني
تراباً .. وماء
والتقينا فقالت :
لعمان لوني حنين
ولكن ريما بفطرة ريح الشمال
تسافر للبحر كل مساء .
هنا يدخل الصوت الثاني الأنثوي نطاق القول الشعري ، يكسر طابع الغنائية المفردة ، ويتعرج بخطو استفراقاتها المباشرة .
تتعدد ألوان الخطاب وتتارءي شعريته الرهيفة وهي تتشكل في بعدها الإنساني الأول من ماء وتراب ، وتطوف القصيدة بحركة رشيقة موسيقية تصل بين المخيم والمذينة ، وتصبغ عوالمها بقواسم شعورية ووجودية بالرغم من كل الصراعات الدامية والخفية بينهما ، لكن لفتة ريما المفطورة ، بريح الشمال وسفرها للبحر كل مساء يحفظ للتحالف كيانه وللحنين ضرورته وللوطن السلليب ذكراه .
وأهم من ذلك يحفظ للشعر مسافته الجمالية المتباعدة عن الأحداث الآتية والكامنة في تلاقيف الريح وعبق الأمكنة الرامزة ولأن الشاعر المبتكر يعيد دائماً طرح سؤاله الغبداعي عن كنه عملية الخلق لديه ، يعيد وصف حالاته كما يعانيها ويوظفها بطريقته الخاصة فإن إبراهيم نصر الله يصف توقه لوحدة الجذر الجمالي لكل الفنون وهو يتأمل موقفه من القصيدة / العالم بقوله :
كلما أمسكت بقصيدة
أمسكت بجناح يوصلني إلي ذلك الألق الدائم
في قلب العالم
وذلك الدم المتدفق في عروق الكائنات
إنني أعرف الآن أن للفرح أكثر من جناح
ولذا أعبر المدينة الليلة .. بنقودي القلية ..
وأصابعي التي لم تعرف غير القصائد
باحثاً عن قيتار
أعبر المدينة .. باحثاً عن جناح
وفي الصباح
حين تشرق الشمس ويدود العالم أكبر من الكلمات
وأكبر من الاوتار التي تظللها الاإاني وقناديل الندي
أبحث عن الألوان
أبتاع ريشة .. وورقاَ
باحثاً عن جناح آخر ..
ولكن الذي يؤلمني
أن هذا الجسد يتيبس الآن ببطء
وأنني لن أستطيع في يوما ما .. أن أرقص الباليه ..
هذا الفرح المحلق باآلاف الأجنحة
إن هذا الانهمار الجمالي في الكون عبر منظومة الفنون ، للتلبس بفرحة الوجود – بالرغم من كل مآسيه – هو وسيلة الشاعر لتشعيره عندئذ يتخلي الخطاب عن قسريته أحاديثه ، ليكون أكثر تحرراً من اللون الواحد والحركة الموجهة ، ليكون شديد المدينة واسع النبالة ، متنوع المداخل لرؤية متجاوزة للضرورة الضاغطة قادرة علي أقصي درجات الحيوية والنفرة والتجدد .
ولعل أبرز ميزة يتسم بها شعر إبراهيم نصر الله أن يمتلك طاقة تجريبية هائلة فهو من هؤلاء المبدعين القلائل الذين يستطيعون خلق أشكال فنية جديدة ، ولسنا في مجال يسمح بالتطرق لمنجزاته السردية في الرواية ، مع أنها مظهر جلي لفوران هذه الطاقة وحسبنا أن نشير بإيجاز إلي مجموعة قصائده السردية المطولة ، وبعضها يشكل ديواناً بأكمله تتعدد فيه الأصوات والطبقات وتتري فيه المشاهد والانقطاعات ويقيم عوامل موضوعية بطرائق شعرية تتطلب التحليل النقدي الدقيق، لكنني سأكتفي في هذا الصدد بالإشارة السريعة للقصيدة المطولة “حوارية الغريب ” التي يقدم فيها سيرة داخلية للفتي السوداني عازف الجيتار ” علي عيد ” إذ أنها تكفي وحدها كي نستخلص منها صورة الخطاب القومي المهشم والمتوحد لأبناء هذا الجيل ، وهو يغني :
للوطن العربي .
للفرح السري
للأزهار
للأوتار
للأغنية
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغداد
ومن نجد إلي يمن
إلي مصر فتطوان
ثم يتبعها ببيت ساخرمفعم بالمفارقة والمرح الحزين ” هأ هأ هأ !! ” ، ما يعنينا في مثل هذه المطولات هو الاقتدار علي تكوين أشكال شعرية فائقة ، نجد عوامل موضوعية وحيوات خارجية لأصوات متشابكة مفعمة بالرغبة المتضاربة والأمل المقموع ، حيث يمثل – كما يقول :
” مدنا تتعثر
ولد أسمر
تصحو
ما زال القيثار وبعض أغاني الدم علي شفتيك
تصحو ..
في أقصي القلب تماماً
شجر يعدو ..
سحب يعدو ..
لكن الغربة والبوليس وصمت الظل
وكل الكل
عليك ..
تعبر عينيك الشمس ..
حديث لم يبدأ ”
وما أريد أن أبرزه في مثل هذه المغامرة الشكلية هو إن إمكانات تقديم رؤية للعالم في الإبداع الشعري من خلال القصيدة الغنائية المفردة الصوت قد تقلصت إلي درجة كبيرة ، وأن هذه الرؤية تتسع وتعمق بمقدار ما تقوي علي ابتكار واحتضان أشكال شعرية مستحدثة لابد من تنميتها في القصيدة العربية عبر المذكرات والحواريات والسرديات الشعرية إلي جانب الانخطافات الذاهلة للقصيدة الموجزة .
ثم – وهذا هو الأهم في تقديري – عبر تنمية المسرح الدرامي الشعري وأعتقد أن إبراهيم نصر من تلك الوعود الكبري في استئناف مسيرة هذه الدراما بعدما تكلست عقب رحيل صلاح عبدالصبور .
ومع أنه قد مر بتحولات عديدة حيث أصبحت بعض قصائده أكثر اكتنازاً أو كثافة وأحفل بغرائب الدهشة نظراً لارتفاع معدلات انحرافاتها التركيبية وأصبحت بعضها أشد طولاً وأعرض مناورة وأحفل بالحركات المتتالية إلا أن منظوماته الشعرية تجد دائماً خيطاً واصلاً يضمن لها رؤية كلية متبلورة ، إذ تشكل ضفيرة متسقة تألفت من نسيج أيديولوجي متماسك لحمته الموقف الوجودي للإنسان الفلسطيني بكل منحنياته الحادة ، مع التواصل العميق مع إيقاعات الحياة الثقافية العربية والامتصاص الوئيد لعناصرها الإبداعية والفكرية ، وتجاوزها عند الضرورة بالإضافة إلي غلبة التقنية السردية علي أدواته التعبيرية فكأنه يلتقط طرف الخيط عند كل قطعة ليستأنف منظومة متجانسة فيما يليها من قطع ، كل هذا يعزز رصيد ثري من أشكال التجسدي للحقائق الشعرية الجديدة بما يجعل نصوصه مفتوحة علي التجريب بقدر ما هي منسجمة في توافقها الكلي الشامل .
هنا يصبح الخطاب القومي أكثر شعرية وأشف سياسة في خصوبته المتنوعة ومعانقته لفعل الحياة الخلاق المحتضن للواقع والمنفتح علي المستقبل .
مجلة الجسرة الثقافية