لاشك أن زوجتي، تسترخي الآن في كسلٍ على تلك "الكنبة" التي يضعها أهلها في شرفتهم، تحتسي القهوة، وتتأمل في صمت ومتعةٍ غروب الشمس خلف جبال عمّان....
طبعا ً، هي ..أيضا ً..تنعم بنسمات آخر الصيف الخفيفة وهي تعابث ستائر النوافذ المفتوحة، فتقشعر ببرد خفيف وتدثر نفسها بشال أمها في تلذذ....
البرد!كم كنت أكره هذا الضيف الثقيل في شتاءات عمان القارسة، وكم كانت كريهةً تلك الصباحات العاصفة التي أكافح رياحها للوصول إلى العمل بعد انتزاع نفسي من فراش دافىء ونوم لذيذ على وقع أناشيد المطر. . .نعم ...كان بردا ًمكروهاً..لكني أفتقده الآن حتى اليأس وأنا أتصبب عرقاً وأموت اختناقا ً بهذه الرطوبة الثقيلة!..أفتح نوافذ السيارة التي تعطل مكيفها فجأةً عبثا ً بغير فائدة...هواء أثقل من ذاك الذي كان داخل السيارة يضرب وجهي برطوبته الساخنة..ويذكرني بصعوبة هذه الأيام التي أقضيها وحيدا ً منذ أسبوعين..من الصعب أن يبقى الإنسان في الغربة وحيدا ً...لولا زوجتي لما استطعت التحمل..ولكنني أعرف، أيضاً ً..كيف تفكر النساء..لو حدث شيء لوالدتها الآن في مرضها لبقيت تذكرني بهذا الأمر وتحملني ذنبه طول العمر..لذا أرسلتها للزيارة مؤملا ً نفسي بقرب العودة......
حتى النومة لم يجعلني أكبر الغبي أهنأ بها..قلت له مرارا ً محذرا ً ومنبها ً:لا تتصل بي يوم العطلة إلا إن احترقت الشركة بما فيها!كنت أريد..قضاء يوم عطلتي نائماً ً..أهرب من الحر والوحدة...لكن أنّى لهذا الفهم!منذ الصباح وهاتفي المحمول يرن ويرن، أخرسته وأنا أهذي ببقايا أحلامي مرةً وثانيةً وثالثة....ثم أجبت وأنا أحضر نفسي لمصيبةٍ ما، جاء صوته متوسلا ً غاضباً ًفي الوقت ذاته...كالعادة...وطبعا ً..كان علي بعد انتهاء المكالمة أن أعيد ترتيب الكلمات المتقاطعة التي قذفها في وجهي دفعة واحدة....بابا....كاتريشن ..ماايجي امبارح..انا ما اعرف!
في بداية إقامتي هنا، كنت أنظر مذهولا ً للعرب الذين يتعاملون مع الهنود هنا بهذه العربية المكسرة التي تبعث على الضحك..لكنني أصبحت الآن...أتكلمها وأحللها بسرعة تبعث على الفخر!أليس غريبا ً أن يعيش الهندي هنا سنين طويلة دون أن يتعلم العربية بل نضطر لتكسيرها من أجله، أكبر مثلا ً، في هذه الشركة منذ كنت طفلا ً يلعب في حارات عَمان، لكنه لا يعرف في العربية إلا بضع كلمات، إذا تحدثنا معه بغيرها هز رأسه تلك الهزة الهندية المعروفة وقال جملته الشهيرة:"بابا ما في معلوم"!
أحيانا ً..أتهمه في نفسي بالفهم..يعني..إنه يفهم ما أقول ولكنه يختار أن يتظاهر بعدم الفهم لئلا يتم تكليفه بمهام إضافية، عكس كاتريشن الذي يستعمل نفس اللغة المكسرة لكنه، بالتأكيد، أكثر نشاطاً ً والتزاما ً في العمل...يستيقظ باكرا ً...يعرف كيف يؤدي مهامه على أكمل وجه..ويقضي حوائج الشركة بصبر راكباً ً دراجته التي يعتز بها، ويعود مبتسماً بقميصٍ ملطخٍ بعرقٍ ثقيل الرائحة، الأمر الوحيد الذي يرفضه مستعطفا ً هو مايتعلق بالخروج في المساء، لأنه، وحسب وصفه، أسود اللون، والليل أسود..وحتماً ً لن يراه السائقون يقود أو يمشي في الليل فيدهس ويموت..ولا يرجع يوماً لعائلته! وينجح في استدرار عاطفتي..فأضحك...وأؤجل العمل إلى الصباح..وأكبر يغتاظ...ويلقي تعليقاً ً بالعربية وآخر- قصيرا ً- بالهندية..وأفهم أنه ليس راضياً ً..ولا أفهم لماذا..فهما يأخذان نفس الراتب، مع أن كاتريشا كما يحب أن نناديه يتعب أكثر...وفي الأعياد يتلقى كل منهما عيدية صغيرة متساوية، دائماً ما يعلق أكبر على عيدية كاتريشن بأنه لايستحقها، لأنه ليس مسلماً ً مثله...قبل فترة..قال أكبر لي وهو يخفض صوته أن كاتريشن يشرب الخمر ويحتفظ بها في غرفته في الشركة...صحت في وجه أكبر ونهيته عن التدخل في شؤون الرجل...لكني..في اليوم التالي..بعثت بكاتريشن في مهمة وتسللت إلى غرفته..فتشتها بعناية ولم أجد شيئا ً يدل على ماقاله أكبر..وعاتبت نفسي لأني صدقت أكبر..وقر في نفسي أنه يغار من كاتريشن و.."يحفر له"....
لكن الحال اليوم أقلقني....
منذ الصباح وأكبر يتصل ليبلغني باختفاء كاتريشن منذ ليلة أمس..لم يقض ليلته في حجرته ولم يظهر في الصباح..قلت لنفسي إنه قد يكون عند أصدقاء له وليس علي أن ألوم الرجل وأحاسبه لأن هذا اليوم عطلة..وعدت للنوم...ولكنني عدت واتصلت بعد صلاة الظهر بأكبر وسألته إن كان كاتريشن قد عاد أم لا، كان في صوت أكبر شيء يشبه الشماتة أو هكذا توهمت عندما أجاب على سؤالي..كاتريشن لم يظهر بعد...سألته إن كان له أقارب أو أصدقاء يتردد على زيارتهم..لكنه فاجأني بإجابته المعتادة:بابا مافي معلوم!!حاولت ألا أقلق..ومضيت إلى مقهى قريب يمكن أن تشاهد من وراء نوافذه البحرالهادىء يتمدد في سكون الأبدية..لكن التفكير بكاتريشن ظل يشغل بالي..وعندما بدأت الشمس تذوي خلف الخليج نهضت..ومضيت إلى مقر شركتي حيث مكاتب الموظفين وغرف الهنود العاملين...قميصي يبتل بالعرق..ورطوبة الهواء الثقيلة تجثم فوق صدري كجبل، دخلت المكتب لاهثاً ً..وجلست أحدق في الفراغ وأفكاري تتناوشني بصورة مبهمة تبعث على الضيق....
جاء أكبر مسرعاً ً على غير عادته..ونظر في وجهي مباشرة وبدأ يلقي كلماته التي حفظتها منذ الصباح مضافا ً إليها نبرة المتظاهر بشيء من القلق، رغبت في إسكاته لكني شعرت أن لا طاقة لي بذلك ..انتظرته حتى أكمل آخر كلمة ثم طلبت إليه في هدوء أن يعد لي فنجان قهوة....
تسمر في مكانه لدقيقة محدقا ً في وجهي ببلاهة..لكنه تحرك بعدها ببطء متجها ًحيث المطبخ..أخذت أجهد ذاكرتي إن كنت قد رأيت زواراً ً يوماً ً لدى كاتريشن لكني لم أتذكر شيئاً.......
ماأن بدأت رائحة القهوة تتسلل إلي من المطبخ حتى سمعت حركة خفيفة في الخارج..خطوت سريعاً ً لأجده واقفاً ً أمامي.....تحت القمر المكتمل مباشرة...ووجهه الأسود يلتمع بالعرق..وقامته محنية بشكل غريب..راودني شعور ما بأن كاتريشن قد كبر فجأة وصار عجوزا ً يتقدم أعوامه الخمسين بكثير...صدمني مظهره إلا أني صحت به:أين كنت؟!
وضع كاتريشن يده على وجهه، وجلس على درجات ٍحجرية كان قد بناها عند مدخل غرفته، وصمت برهة، ثم رفع رأسه وقال لي بعينين محمرتين..أنا ...كنت...بابا..لكنه لم يكمل..بل أجهش ببكاءٍ مفجع ٍ مرتفع....
أصابني نوع من الذعر...وارتبكت..لم أستطع الاقتراب منه..كان يبكي منتحباً ًويتكلم..مرة بالعربية ومرة بالهندية وقد بدا وكأنه يتكلم لنفسه...فهمت وسط هذيانه أنه كان مع ابن أخته الذي جاء للعمل هنا منذ فترة قريبة..وأصيب الشاب بمرض خبيث قضى عليه في أيام معدودة..وأن كاتريشن وبعض أصدقاء الشاب كانوا يجهزون جثته لتنقل في الطائرة إلى بلده....
انتبهت أخيرا ً إلى وجود أكبر خلفي..كان يقف صامتا ً يستمع إلى بكاء كاتريشن وهذيانه وقد اكتست ملامحه بحزن حقيقي...عندما لاحظ نظراتي طأطأ رأسه وانسحب إلى الداخل دون أن ينطق بكلمة...
اقتربت من كاتريشا...ربتت على كتفه..وضع يده الخشنة فوق يدي وضغطها في عنف..جلست إلى جواره على الدرجات الإسمنتية، كانت الرطوبة قد خفت قليلا ً، ومرت أطياف لنسمات ٍ خجولة تؤذن بقرب انتهاء الصيف..كان كاتريشن قد هدأ قليلا ً ولم يعد ينتحب..وإن بقي جسده يرتعش تأثرا ً بين- الحين والآخر..نظرت إلى القمر الذي كان منيرا ً قريبا ً وكأن باستطاعتي أن أمد يدي وألمسه...وفي هذه اللحظة..فكرت أن علي أن أسأل كاتريشن إن كان بحاجة للمساعدة في تبليغ أقاربه في الهند الخبر...لكن كاتريشن كان مستغرقا ً في النظر إلى طائرة مغادرة....كانت تحلق مقتربة من القمر وأنوارها تشق ظلمة السماء.