القرآن الكريم نور الله فى الأرض ، ومعجزة حبيبنا محمد – صلى الله عليه وسلم – الخالدة التي تحدى بها قريشا وسائر العرب ، وما كان في استطاعة أحد من الجن والإنس أن يأتي بمثله ؛ لاشتماله على أمور لا تكون إلا من الخالق عز وجل ، وهو ما يعرف بوجوه الإعجاز ، كالنظم البديع ، وفواصل الكلم ، والإيجاز المعجز ، والإخبار عن الأمور التي تقدمت ، والإخبار عن الغيبيات في المستقبل ، والتصريف في القول والمعاني ... وغير ذلك ، وحبا في معايشة القرآن الكريم نتناول وجها من هذه الأوجه لنبين دوره في الإعجاز ، وهو الإيجاز ، الذي كان يميل إليه العرب في أقوالهم ، ويعدونه روح البلاغة ؛ لكونهم أهل بيان باللسان لا بالكتابة التي من شأنها الكلمات المفصلة .
والإيجاز هو : إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير ، وهو قسمان : إيجاز قصر ، وإيجاز حذف ، فإن كان الكلام يعطي معنى أطول منه فهو إيجاز قصر، وإن كان بعضا من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف ، وقد شاع ورود النوعين في القرآن الكريم ، وإليك التوضيح :
أولا : إيجاز الحذف : وهو أربعة أنواع :
الاقتطاع : وهو حذف بعض أحرف الكلمة ، كقراءة : (ونادوا يا مال) - الزخرف/77- بالترخيم والأصل : يا مالك ، وقد سمعها بعض السلف فقال : ما أغنى أهل النار عن الترخيم ، وأجيب بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة .
الاكتفاء : وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر ، نحو قوله : (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) -الأنعام/7- أي : وما تحرك ، وخص السكون بالذكر لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن كل متحرك يصير إلى ساكن .
الاحتباك : وهو ألطف الأنواع وأبدعها ، وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه ، نحو قوله تعالى : (ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق .. ) -البقرة/171- أي : ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي يُنْعَق به ، فحذف من الأول "الأنبياء" لدلالة (الذي ينعق) عليه ، ومن الثاني "الذي ينعق به" لدلالة (الذين كفروا) عليه ، وكذلك قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن) -البقرة222- أي : حتى يطهرن من الدم ويطّهرن بالماء فإذا طهرن وتطهّرن فأتوهن .
الاختزال : وهو غير ما سبق ، والمحذوف فيه قد يكون اسما أو فعلا أو حرفا أو أكثر : فمن أمثلة حذف الاسم : حذف المضاف نحو قوله تعالى : (وفي الرقاب) -البقرة/177- أي : وفي تحرير الرقاب ، والمضاف إليه نحو قوله : (لله الأمر من قبل ومن بعد) -الروم/4- أي : من قبل الغلب ومن بعده ، والموصوف نحو قوله : (أن اعمل سابغات) -سبأ/11- أي : دروعا سابغات ، والصفة نحو قوله : (يأخذ كل سفينة) -الكهف/79- أي : صالحة ... ويطرد حذف الفعل إذا كان مفسرا ، نحو قوله تعالى : (إذا السماء انشقت) -الانشقاق/1- أي : إذا انشقت السماء انشقت ، ويكثر في جواب الاستفهام نحو قوله : (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) -النحل/30- أي : أنزل خيرا ، وأكثر منه حذف القول نحو قوله : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا ..) -البقرة/127- أي : يقولان ربنا ، وقد يحذف في غير ذلك نحو : (انتهوا خيرا لكم) -النساء/171- أي : وأتوا خيرا . ومن أمثلة حذف الحرف : حذف حرف النداء نحو قوله : (يوسف أعرض عن هذا) -يوسف/29- ... ومن أمثلة حذف أكثر من كلمة : حذف مضافين نحو قوله : (فقبضت قبضة من أثر الرسول) -طه/96- أي : من أثر حافر فرس الرسول ، وحذف جواب الشرط نحو قوله : (ولو جئنا بمثله مددا) -الكهف/109- أي : لنفد ، وحذف جملة القسم نحو قوله : (لأعذبنه عذابا شديدا) -النمل/21- أي : والله ، وحذف جوابه نحو قوله : (والنازعات غرقا ..) -النازعات/1- أي : لتبعثن ، وقد تحذف جمل كثيرة نحو قوله : (فأرسلون/ يوسف أيها الصديق) -يوسف/46:45- أي : فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ، ففعلوا ، فأتاه ، فقال له : يا يوسف ..
ثانيا : إيجاز القصر : وهو نوعان :
إيجاز التقدير : وهو تقدير معنى زائد على المنطوق نحو قوله : (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) - البقرة/275- أي : خطاياه غفرت ؛ فهي له لا عليه ، ونحو قوله : (هدى للمتقين)-البقرة/2- أي : الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى .
والإيجاز الجامع : وهو احتواء اللفظ على معان متعددة نحو قوله تعالى : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) -الأعراف/199- فقد جمعت مكارم الخلاق كلها ؛ لأن في أخذ العفو : التساهل والتسامح في الحقوق والرفق في الدعوة إلى الدين ، وفي الأمر بالعرف : كف الأذى وغض البصر وما شاكلهما من المحرمات ، وفي الإعراض : الصبر والحلم والتؤدة . وأمثلته كثيرة فى القرآن ، وهو دليل على التمكن في الفصاحة ، ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – " أُوتيتُ جوامع الكلم " . وقد جعل ابن الأثير منه كثيرا من أبواب النحو المختلفة ، كباب العطف لأن حرفه وضع للإغناء عن إعادة العوامل ، وباب الضمير لأنه وضع للاستغناء عن الظاهر اختصارا ، وباب "علمت أنك قائم" لأنه محل لاسم واحد سد مسد المفعولين من غير حذف ، وأدوات الاستفهام ، فمثلا : كم مالك ؟ يغنى عن قولنا : أهو عشرون ؟ أم ثلاثون ؟ ... إلى مالا يتناهى .
ويبدو لي أن مثل هذا من بلاغة اللغة وعبقريتها ، لا من بلاغة المتكلم ، لأنه من لوازم الكلام ، فلا مجال للتباين بين المتكلمين به حتى يحكم ببلاغة أحدهما على الآخر ، ولو قال قائل : "حضر زيد حضر عمرو حضر بكر" (بدلا من : حضر زيد وعمرو وبكر) ، أو : "جاء خالد فأكرمت خالدا وأعطيت خالدا كتابا" (بدلا من : فأكرمته وأعطيته) ... لقيل : إنه ليس بعربي ، مما يؤكد أنه ليس من إيجاز القصر في شيء ، ولا يعد دليلا على بلاغة قائله . والله ولي التوفيق .