الرسم بالكلمات
لقد تفنن الشعراء المتأخرون في العصرين : المملوكي والعثماني ، في إبداع ألوان شعرية تعتمد على حسن النظم وبراعة الرصف ، من خلال المحسنات البديعية والزخرفات اللفظية ، ولكنها تبتعد كل البعد عن الشعر الحقيقي الذي يصور الوجدان والأحاسيس ، ويصدر عن طبع أصيل لا تكلف فيه ولا افتعال ، وتكون عناصره الأساسية كالأفكار والعاطفة والخيال متداخلة كالجسد في الروح ، من خلال التعبيرات الرائعة ، والمشاعر الصادقة ، والمعاني الدقيقة التي تأثر في نفس المتلقي .
* فهذه قصيدة لا إبداع فيها سوى أن صاحبها اجتهد في أن يأتي بجميع حروف كلماتها خالية من النقط إظهارا لبراعته اللغوية :
الحمد لله الصمد حال السرور والكمد
الله لا اله إلا اللــــــه مولاك الصمد
أول كل أول أصل الأصول والعمد
الواسع الآلاء والآ راء علما و المدد
الحول والطول له لا درع إلا ما سرد
كل سواه هالك لا عدد و لا عدد
* وهذه عبارة نثرية كتبها المعري فخرجت كلماتها من بحر الرجز المجزوء مكونة أربعة أبيات رويها اللام :
"أصلحك الله وأبقاك ، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلي منزلنا الخالي ، لكي يحدث لي أنسك يا زين الأخلاء فما مثلك من غيّر عهدا أو غفل" .
وتكتب الأبيات على الصورة التالية :
أصلحك الله وأبـــقاك لقد كان من ال
واجب أن تأتينا اليــوم إلي منزلنا ال
خالي لكي يحدث لي أنسك يا زين الأخل
لاء فما مثلك من غيّر عهدا أو غفل
* والبيت الآتي كلماته نونية ، أي : كل كلمة لا تخلو من النون :
نزه لسانك عن نفاق منافق وانصح فإن الدين نصح نصيح
* وهذا بيت مكون من كلمات حروفها مقطعة ، فلا يوجد حرفان متصلان في الكتابة :
إذا زار داري زَوْرَ ودودٍ أودُّ وأورده وِردَ وُدي
* وهذا شاعر صنع بيتين من الشعر إذا قرئت كلماتهما طردا أفادت المدح ، وإذا قرئت عكسا أفادت الذم ، يقول :
حلموا فما ساءت لهم شيم سمحوا فما شحّت لهم مننُ
سلموا فما زلّت لهم قدم رشدوا فما ضلت لهم سُنن
فعند القراءة عكسا تفيد الذم :
مِنَنٌ لهم شحت فما سمحوا شيم لهم ساءت فما حلموا
سنن لهم ضلت فما رشدوا قدم لهم زلت فما سلموا
* وشاعر آخر أشد صنعة من السابق ، نظم بيتين حروفهما – وليس كلماتهما – إذا قُرئت طردا أفادت المدح ، وإذا قُرئت عكسا أفادت الهجاء ، يقول فيهما :
باهي المراحم لابسٌ كرماً قدير مُسْند
بابٌ لكل مؤملٍ غُنْمٌ لعمرُك مُرْفد
فإذا قُرئت الحروف عكسا أفادت الهجاء :
دنس ، مَريد ، قامر كسبَ المحارم لا يهاب
دفِرٌ ، مكر ، مُعْلم نَغْلٌ ، مُؤمل كلِّ باب
* وقال شاعر :
إذا أتيت نوفل بن دارم أمير مخزوم و سيف هاشم
وجدته أظلم كل ظالم على الدنانير أو الدراهم
وأبخل الأعراب والأعاجم بعرضه و سره المكاتم
لا يستحي من لوم كل لائم إذا قضى بالحق في الجرائم
ولا يراعي جانب المكارم في جانب الحق وعدل الحاكم
يقرع من يأتيه سن نادم إن لم يكن من قدم بقادم
فهذه الأبيات إذا قُرئت على وضعها الأفقي أفادت المدح لرجل يدعى : نوفل بن دارم ، وإذا حذف الشطر الثاني من كل بيت وحل محله الشطر الأول من البيت الذي يليه صار المعنى هجاء كما يلي :
إذا أتيت نوفل بن دارم وجدته أظلم كل ظالم
وأبخل الأعراب والأعاجم لا يستحي من لوم كل لائم
ولا يراعي جانب المكارم يقرع من يأتيه سن نادم
* والحريري صاحب المقامات صنع بيتين من الشعر إذا أسقطنا جزءا من كل بيت منهما صار الباقي من وزن آخر وقافية جديدة ، يقول :
يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا تبا لها من دار
فالبيتان من الكامل التام فإذا أسقطنا جزءا من نهاية كل بيت صارا من مجزوء الكامل بقافية جديدة :
يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا
* وهناك نوع من الشعر نستطيع فيه أن نقرأ البيت من أوله إلى آخره أو من آخره إلى أوله دون أن تتغير الألفاظ أو المعاني ، وهو ما يسمى بالمقلوب ، أو : ما لا يستحيل بالانعكاس ، كقول أحد الشعراء :
قيل: افتح باب جار تلقه قلت: راج باب حتف أليق
وقول القاضي الأرجاني :
مودَّتُهُ تدومُ لكلِّ هولٍ وهلْ كلٌّ مودتهُ تدومُ
والأمثلة كثيرة من هذه الأشكال الشعرية الحافلة بألوان من الزخرفات اللفظية التي لا روح فيها ولا جمال ، والتي تخلو من المتعة الفنية ، فما هي إلا صناعة مفتعلة وتكلف زائد من خلال الرصف بالكلمات واللعب بالألفاظ ، ولا تصدر إلا من شعراء جمد على أيديهم الإبداع الشعري وعقم التفكير الفني .