المفاعلة عِند النّحاة ـــ صَلاح الدين الزعبَلاوي
المفاعلة مصدر من مصادر (فاعل)، تقول فاعل يفاعل مفاعلة كقاتل يقاتل مقاتلة، وهو المصدر القياسي بالإجماع، ولفاعل مصادر أخرى هي:
الفعال بكسر أوله، وهو كثير في الاستعمال، تقول يقاتل قتالاً، ولا يطرد. وهو يندر فيما أوله الياء، تقول ياسر يياسر مياسرة ولا تقول يساراً، وقد سمع هذا في (ياوم)، تقول: ياوم يياوم مياومة ويواما. وجاء في الهمع للإمام السيوطي (2/167): "ولفاعل فِعال بكسر الفاء وتخفيف العين، ومفاعلة كقاتل قتالاً ومقاتلة. ويلزم مفاعلة فيما فاؤه ياء كياسر مياسرة، وندر فيه فِعال كياوم يواماً" وفي شرح الشافية للرضي: "ولا يجيء فعال فيما فاؤه ياء للاستثقال فلا يقال يسار في ياسر".
والفيعال بالياء مصدر فاعل، وهو قليل في الاستعمال، فقد ذهب سيبويه إلى أن الأصل في (فعال) بالكسر والتخفيف هو (الفيعال) بالياء، إذ قال: أنهم حذفوا الياء التي جاء بها أهل اليمن، وعللوا تقديم (الفعال) بالكسر والتخفيف، على (الفيعال) بالياء، بكثرة استعماله.وذهب آخرون أن الأصل هو (الفعال) بالكسر والتخفيف لأن حروف الفعل، أي الفعل الماضي، ثابتة فيه، وأن (الفيعال) بالياء هو الفرع لأن الياء قد حصلت بإشباع كسرة الفاء، وهو المختار عند الزمخشري صاحب الكشاف، وأن الفيعال بالياء لغة اليمن وحدهم والفعال بلا ياء لغة سواهم. على أن الفعال والفيعال لا يطردان على كل حال. قال ابن سيده في المخصص (14-185/186): "واللازم عند سيبويه في مصدر فاعلت المفاعلة، وقد يد عون الفيعال والفعال في مصدره، ولا يدعون مفاعلة. وقالوا جالسته مجالسة وقاعدته مقاعدة ولم يسمع جلاساً ولا جيلاساً، ولا قيعاداً ولا قعاداً".
والمصدر الرابع لفاعل بعد المفاعلة والفعال هو الفِعَّال بكسر الفاء وتشديد العين، وموزون ذلك من (قاتل) قاتله مقاتلة وقتالاً وقيتالاً بالياء وقتالاً بتشديد التاء. وجاء من ذلك (المراء) بكسر الميم وتشديد الراء تقول ماريته مماراة ومراء بالتخفيف وميراء بالياء كما جاء مراء بالتشديد ذكر هذا في شرح البناء للكفوي حكاية عن التفتازاني في تأسيسه. على أنه شاذ في المفاعلة. وجاء (كذاب) بكسر أوله وتشديد ثانيه في التنزيل فلم يحمل على المكاذبة بسبب شذوذه فيها. قال تعالى: (وكذبوا بآياتنا كِذّاباً( (النبأ/ 28) فقال الجوهري في الصحاح: "وقوله تعالى كذاباً أحد مصادر فعَّل بالتشديد". وقال الإمام البيضاوي: وكذبوا بآياتنا كذاباً: تكذيباً. وفعَّال بكسر أوله وتشديد ثانيه بمعنى تفعيل مطَّرد، شائع في كلام الفصحاء". وجاء في التنزيل (لا يسمعون فيها لغوياً ولا كِذّاباً( (النبأ/ 35) فقال الراغب في مفرداته "ولا كذاباً، الكذاب بتشديد الذال التكذيب".
وجاء في شرح الشافية للرضي: "وجاء كذّاب هذا وإن لم يكن مطرداً كالتفعيل، لكنه هو القياس، كما مر في شرح الكافية. قال سيبويه: أصل تفعيل فعَّال جعلوا التاء في أوله عوضاً من الحرف الزائد، وجعلوا الياء بمنزلة ألف الافعال، فغيروا آخره كما غيروا أوله.. ولم يجئ فِعّال بكسر أوله وتشديد ثانيه في غير المصدر إلا مبدلاً من أول مضعفه ياء نحو قيراط ودينار وديوان. وأما المصدر فإنه لم يبدل فيه ليكون كالفعل. وفعَّال بكسر أوّله وتشديد ثانيه في مصدر فِعَّل بالتشديد، وفيعال بالياء وفِعال بالكسر والتخفيف في فاعل، وتفعال في تفعل بالتشديد، وإن كانت قياساً لكنها صارت مسموعة لا يقاس على ما جاء منها –58-59".
ويستنبط مما تقدم أن (المفاعلة) هو المصدر القياسي لفاعَلَ. وإذا عرفنا أن مصدر غير الثلاثي مشتق من الماضي باتفاق البصريين والكوفيين، فالمشتق من الشيء بالاشتقاق الصغير يشتق إما بزيادة الحركة أو الحرف، فمصدر (فاعل) مشتق من ماضيه بزيادة الميم في الأول، لتقارب الميم والفاء مخرجاً، كما يقول النحاة، وبزيادة التاء في الآخر لشيوعها في كثير من المصادر كعدة واستقامة.
ولكن ما الذي تعنيه المفاعلة؟
الذي تعنيه (المفاعلة) غالباً، كما قرره النحاة، هو (المشاركة)، ولكن ما الذي تعنيه هذه المشاركة؟ أقول ذكر الإمام الرضي في شرح الشافية أمثلة مختلفة للمفاعلة التي تعني المشاركة منها أن تكون المفاعلة للمشاركة فعلاً وهو يريد بالمشاركة هنا أن يقع التشارك بين اثنين، بحيث يوقع أحدهما بالآخر فعلاً فيقابله هذا بمثل هذا الفعل، كقولك (ضارب زيد عمراً) أو شاتمه أو قاتله. وقد اشترط لذلك أن يكون (المفاعل) بفتح العين، أي الذي شورك في الضرب وهو (عمرو) هو المفعول في أصل الفعل الثلاثي من قولك (ضرب زيد عمراً) فيكون الفعل قد اكتفى بعد تحوله إلى صيغة (فاعلَ) بأن أفاد المشاركة على الوجه المذكور، ولم يتجاوز في تعديه المفعول الواحد الذي كان يتعدى إليه.
ومثل ضاربت فلاناً شافهته وفاوهته وخاطبته وواجهته وفاوضته وباثثته وذاكرته وثافنته وقاولته..
وزاد الإمام محمد الكفوي في كتابه (شرح البناء) في شرح المثال، فقال ان قولك (ضارب زيد عمراً) قد دل صريحاً على صدور الضرب من زيد على وجه (الغالبية) ووقوعه على عمرو. كما دل ضمناً على صدوره من عمرو على وجه (المغلوبية) ووقوعه على زيد، فيكون كل منهما فاعلاً ومفعولاً. لكن الغالب يكون فاعلاً والمفعول مفعولاً لفظاً، وبالعكس معنى. وهكذا ذهب الكفوي إلى اعتداد (زيد) فاعلاً لفظاً (أي لفظاً ومعنى) واعتداد عمرو مفعولاً لفظاً (أي لفظاً معنى)، وإلى جعل (زيد) مفعولاً معنى أو ضمناً، و(عمرو) فاعلاً معنى أو ضمناً.
ويأتي الرضي بمثال آخر هو (جاذبت فلاناً الثوب)، وأصله (جذبت الثوبَ)، فيقول انه ليس من قبيل المشاركة في (المضاربة). ذلك أن (المضارَب) بفتح الراء، وهو (عمرو) هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (ضرب زيد عمراً)، وهكذا ظل للمضاربة مفعول واحد، أما (المجاذَب) بفتح الذال فليس هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (جذبت الثوبَ) فقد ضمت المشاركة هاهنا إلى المفعول الأصلي وهو (الثوب) مفعولاً آخر هو (فلان) فأصبح للمجاذبة مفعولان. وقد حصل التشارك في الجذب هنا ولكن بين المتكلم وفلان، فهما قد تنافسا في جذب الثوب.
ونظير ذلك (نازعت فلاناً الحديث) أي جذابته إياه. إذ ليست المشاركة فيه كالمشاركة في المضاربة، ذلك أن (المنازع) هنا بفتح الزاي، وهو (فلان) ليس هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (نزعت الحديث)، وهو (الحديث). فقد جرى التشارك في النزع هنا بين المتكلم وفلان أيضاً فهما قد تنافسا في نزع الحديث.
ويتبين مما تقدم أنه إذا كانت المشاركة في المضاربة قد أفادت إيقاع أصل الفعل من المتضاربين أحدهما على الآخر، فإن المشاركة في المجاذبة والمنازعة قد أفادت منافسة المتجاذبين والمتنازعين في إيقاع الفعل على مفعول آخر هو الثوب أو الحديث. والأصول الثلاثية لأفعال المشاركة هنا متعدية وهي ضرب وجذب ونزع.
وثمّة أفعال للمشاركة اشتقت من ثلاثي لازم. كقولك (ساير) ذلك أنه من (سار)، تقول (سايرته في البرية)، والمسايرة هنا مشاركة قد وقع الفعل فيها من اثنين، لكنه لم يقع من أحدهما على الآخر. فالمساير بكسر الياء لم يوقع أصل الفعل على المساير بفتح الياء، كما لم يوقع جاذب أصل فعله على المجاذَب بفتح الذال.
ومثال آخر جاء به الرضي هو (كارمت فلاناً) أو (شاعرت فلاناً)، وفعلهما من الثلاثي المجرد لازم. وقد أشبهت المشاركة هنا مشاركة المضاربة لأن (المفاعل) فيهما بكسر العين قد أوقع أصل الفعل على (المفاعَل) بفتح العين كالمضارب، بكسر الراء، الذي أوقع فعل الضرب على المضارب بفتح الراء، خلافاً لما ذكر في (المجاذب والمساير) بكسر الياء فإنهما لم يوقعا أصل الفعل على (المجاذب والمساير) بفتح الياء.
وليس كل ما جاء على (فاعلَ) هو من أفعال المشاركة. فقد بقي من أمثلة الرضي في (المفاعلة) مثال، هو من أقوال عليّ (رضي الله عنه)، قال الرضي: "وقد يكون ما زاد من المفعول في باب المفاعلة هو المعامَل بفتح الميم، بأصل الفعل، لا على وجه المشاركة، كما في قول علي، رضي الله عنه، كاشفتك الغطاءات، وقولك عاودته وراجعته..". فقد اتفق في (المكاشفة)، على ما يقول الرضي، أن يكون ما زاد من المفعول في باب المفاعلة هو (المعامَل) بفتح الميم في أصل الفعل، وأن تكون المفاعلة على غير وجه مشاركة.
فأنت تقول (كاشفتك العظات) كما ورد النص في نهج البلاغة (2/241)، وتقديره (كاشفتك بالعظات)، وأصله في الفعل الثلاثي، (كشفت لك العظات). فالذي زاد من المفعول بتحويل (كشف) إلى (كاشف) هو (ضمير المخاطب) أي الكاف، ولا مشاركة للمخاطب في الكشف، خلافاً لقولك (جاذبتك الثوب) فالمفعول المزيد في المفاعلة، (وهو ضمير المخاطب) مشارك في الجذب. وهكذا (عاودتك في كذا) و(راجعتك في كذا) فإن المخاطب ليس مشاركاً في العود أو الرجوع. ولا يخفي أن (عاودتك وراجعتك) من أفعال الموالاة والمداومة، ففي المصباح (يعاودها أي يرجع إليها مرة بعد مرة)، وقال (راجعته: عاودته). فمكاشفتك فلاناً بكذا موالاة الكشف له ومعاودة فلان ومراجعته موالاة العود والرجوع إليه حيناً بعد حين. قال ابن أبي حديد في شرح قول الإمام علي (ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواء): "والعظات جمع عظة، وهو منصوب على نزع الخافض" أي أن تقديره (كاشفتك بالعظات)، وأردف: "وروي العظات بالرفع، على أنه فاعل، أي كاشفتك العظات وآذنتك أي أعلمتك، وعلى سواء: أي على عدل وإنصاف". فمكاشفتك فلاناً موالاة الكشف له.
ما جاء من المفاعلة لغير المشاركة:
ومما جاء به الرضي من المفاعلة في غير معنى المشاركة قولك (ضاعفته) بمعنى (ضعَّفته) بالتشديد أي كثَّرت أضعافه، وسافرت بمعنى سفرت أي خرجت إلى السفر.
قال الرضي: "ولا بد في سافرت من المبالغة"، وعندي أن في (المسافرة) معنى الموالاة كالمعاودة والمراجعة، أي أن (سافر) بمعنى سفر عن المكان مسافة بعد مسافة. وذهب الراغب في مفرداته مذهباً آخر فقال: "وسافر خُصّ بالمفاعلة اعتباراً بأن الإنسان قد سفر عن المكان، والمكان سفر عنه" ذلك أن (سفر) بمعنى خرج للارتحال أي بعُد. والمختار أن تكون (المدافعة) أيضاً موالاة في الدفع.
وللمفاعلة في غير معنى المشاركة منحى آخر هو الصيرورة كعافاك الله إذا صيَّرك ذا عافية. قال الرضي: "وقد يجيء بمعنى جعل الشيء ذا أصله كأفعل وفعَّل بالتشديد نحو راعنا سمعك أي اجعله ذا رعاية لنا كأرعنا، وصاعر خدّه جعله ذا صعر، وعافاك الله أي جعلك ذا عافية، وعاقبت فلاناً أي جعلته ذا عقوبة، وأكثر ما تجيء هذه الأبواب الثلاثة متعدية". ويمكن أن تحمل (المباركة) على باب الصيرورة، فبارك الله لك في هذا أي جعله مباركاً.
ولا بد في كل مفاعلة إذا كانت بمعنى أصلها الثلاثي من أن تحمل معنى زائداً على الأصل، لزيادة لفظها كجاوز بمعنى جاز. فجاز الطريق لزم جوزه أي وسطه، كما في المفردات، قال الجوهري "جاز الموضع سلكه وسار فيه"، أما جاوز الطريق فمعناه تجاوز جوزه أي وسطه، كما ذهب إليه الراغب.
وبقي أن نذكر للمفاعلة، في غير المشاركة، معنى شائعاً في الاستعمال لم يشر إليه الرضي، وقد ألح عليه بعض الأئمة، فقد جاء في كتاب (البناء في علم التصريف) لمحمد الكفوي: "وذكر الكشاف في بعض شروحه أن في هذا الباب معنى آخر كثير الاستعمال، وهو أن يكون من أحد الطرفين صدور أصل الفعل، ومن الطرف الآخر ما يقابله، بناء على جعل ما يقابله قائماً مقامه، كقولك بايع زيد عمراً، فإن الصادر عن أحدهما البيع، ومن الآخر الشراء". أي أن معنى قولك (بايع زيد عمراً) صدور أصل الفعل وهو البيع، من زيد، وصدور ما يترتب عليه في مقابلة ذلك وهو الشراء، من عمرو. ونحو ذلك يترتب عليه في مقابلة ذلك من الآخر وهو الأخذ والتناول. ومن ذلك (المعاطاة) ففي اللسان (المعاطاة: المناولة) فعاطاه الشيء معاطاة وعطاء بكسر العين ناوله إياه فتعاطاه أي تناوله.
وقد جاء في التنزيل (قاتلهم الله أنى يؤفكون( (التوبة/ 31) ولا تصح في مثل هذه المقاتلة مشاركة أو مقابلة. ففي (قاتل) هنا نسبة أصل الفعل إلى الفاعل حقيقة بلا اقتضاء مشاركة، كما في تلخيص الأساس لعلي بن عثمان. فقاتلهم الله دعاء بمعنى أهلكهم، والأصل في (فاعلَ) إذ جاء بمعنى (فعلَ) أن تكون نسبة أصل الفعل إلى الفاعل بطريق المجاز لا الحقيقة. قال علي بن عثمان: "فثبت التغاير بينهما على ما في بعض شروح الشافية".
بعض ما جاء على فِعال بالكسر مصدراً لفاعل
فعال بالكسر ليس بالضرورة مصدراً لفاعَل فقد يكون اسماً غير مصدر مفرداً أو جمعاً، وقد يكون مصدراً لفعل أيضاً. ويلتبس الأمر حيناً، فيما جاء منه معتل العين، أهو مصدر لهذا أم مصدر لذلك. فثمة (لاذ به) مثلاً بمعنى لجأ إليه واستتر به واختص ومصدره (اللوذ) بفتح فسكون. وجاء (لاوذ) على فاعلَ أيضاً. وسمع (اللواذ واللياذ) بكسر اللام فيهما، على (فعال) بالكسر، فأيهما مصدر (لاذ) الثلاثي، أو مصدر (لاوذ) المزيد؟ وجاء قام وقاوم وسمع من مصادرهما القوام والقيام بكسر القاف، فأيهما مصدر الثلاثي أو مصدر المزيد؟
جاء في الصحاح "لاذ به لجأ إليه وعاذبه، وبابه قال، ولياذاً أيضاً بالكسر".
فتبين بهذا أن مصدر لاذ هو اللوذ كالقول، وهو اللياذ أيضاً بكسر أوله. وفي الصحاح: "ولاوذ القوم ملاوذة ولواذاً أي لاذ بعضهم ببعض. ومنه قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً( (النور/36)، وأردف: "ولو كان لاذ لقال لياذاً"، أي أن اللواذ في الآية مصدر لاوذ، ولو كان مصدر لاذ لكان اللياذ. فاللياذ مصدر لاذ الثلاثي، واللواذ مصدر لاوذ على فاعل. وأكد ذلك الراغب في مفرداته فقال: "ولو كان من لاذ يلوذ لقيل لياذاً، إلا أن اللواذ هو فعال من لاوذ، واللياذ من لاذ". فلماذا قلبت الواو ياء في اللياذ مصدر الثلاثي ولم تقلب في اللواذ مصدر لاوذ؟
أقول القاعدة أن الواو تقلب ياء إذا وقعت حشواً بين كسرة وألف زائدة، في المصدر الأجوف الذي أعلَّت عين فعله. ومن ذلك لاذ وصام وعاد، فإن عين الفعل فيها أعلّ، وجاءت الواو في مصادرها حشواً بين كسرة وألف، ولذا قيل لاذ لياذاً وصام صياماً وعاد عياداً. على حين صحت العين في (لاوذ) ولذا قيل لاوذ لواذاً. وهكذا تقول جاور جواراً وعاود عواداً. وقد جاء في إعراب القرآن لأبي البقاء عبد الله العكبري: "لواذاً في قوله تعالى: (يتسللون منكم لواذاً أو يتسللون تسللاً(، وإنما صحت الواو في لواذاً مع انكسار ما قبلها لأنها تصح في الفعل الذي هو لاوذ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً مثل صام صياماً".
وهكذا (قام) وأصله (قوَم) بفتحتين، كما كان (لاذ) أصله (لَوذَ) بفتحتين، ما دام قد أعلَ فمن حق مصدره أن يُعل فيقال (قام قياماً) وأصل الياء في (قيام) واو. ففي الأفعال لابن القوطية: "قام إلى الشيء قوماً وقياماً نهض إليه". أما (قاوم) فمصدره المقاومة والقوام بالكسر، إذ لم يعلّ فعله ليعلّ مصدره. وقوام الشيء بالكسر أيضاً عماده الذي يقوم به، وقوام الأمر ملاكه. ولم تعلّ الواو هنا وكذلك في سواك وسواء بكسر أولهما لانتفاء المصدرية. وقد جاء في الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (في باب الاعتصام): "ولاذ به لواذاً ولياذاً. قال ابن خالويه: هذا غلط والصواب أن تقول لاذ به لياذاً ولاوذبه لواذاً. ومنه قول القرآن الجليل: (يتسللون منكم لواذاً فليحذر(. فالأول مثل قام قياماً والثاني مثل قاوم قواماً".
وقد شذ في هذا الباب (نار) تقول نارت الظبية تنور نواراً بكسر النون أي نفرت. ففي الأفعال لابن القوطية: "نار الشيء نياراً فأنار: أضاء" وقد جاء هذا على القياس، لكنه قال كذلك: "نار نوراً بالفتح ونواراً بالكسر: نفر"، فأتى به على غير قياس. ومثل ذلك في الصحاح. قال الجوهري: "نُرت من الشيء أنور نوراً بالفتح ونواراً بالكسر". وجاء في اللسان "النوار المصدر" بنون مفتوحة "والنوار الاسم" بنون مكسورة، وفيه تحريف والصواب ما جاء في التاج "والنوار بالكسر المصدر وبالفتح الاسم" كما يدل عليه نصوص المعاجم، ومنها الأفعال لابن القوطية والصحاح، وسياق كلامها. كما شذّ شار الدابة شواراً بالكسر إذا راضها. ففي القاموس: "شار العسل شوراً وشياراً استخرجه من الوقبة" فجاء هذا على القياس. والوقبة النقرة في الصخر والكوة فيها العسل. لكنه جاء: شار الدابة شواراً وشياراً بكسر الشين فيهما إذا راضها، فجاء هذا على غير قياس. ففي اللسان: "شارها شوراً بالفتح وشواراً بالكسر.. راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها" وفي التاج مثل ذلك. ولا نظن لنار إذا نفر وشار إذا راض ثالثاً.
ونختم هذا الباب بما جاء في الهمع للإمام السيوطي (2/221): "تبدل الياء بعد كسرة من واو هي عين مصدر لفعل معل العين موزون بفعال، نحو قام قياماً وعاد عياداً، بخلاف عين غير المصدر كصوان وسواك والمصدر المفتوح أوله كرواح أو المضمون كقوار أو المكسور الذي لم تعلّ عين فعله كلاوذ لواذاً وعاود عواداً..".
ما القول في (آجر) بالمدّ، هل هو (فاعَل) أو أفعَلَ)؟
أقول (آجر) بالمدّ أما (أفعَلَ) واسم الفاعل منه (مؤجر) ومصدره (الإيجار) على (إفعال)، وإما (فاعلَ) فاسم الفاعل منه (مؤاجر) كمقاتل والمصدر (المؤاجرة) كالمقاتلة. وليس منه (اجار) كقتال، فمصدر المفاعلة من (فاعلَ) قياس، أما مصدر (الفعال) بالكسر، فهو سماع.
قال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة): "ويخطئون من يقول أجَّره الدار فهو مؤجِّر بتشديد الجيم، ويقولون: إن الصواب هو أجَره الدار فهو مؤجر، لأن المعاجم كلها تقول أن الفعل هو: أجر إيجاراً، لا أجَّر تأجيراً".
والغريب أن يذكر الأستاذ العدناني في معجمه (أجر) بلا مد على (فعَل) ويجعل اسم الفاعل منه على (مفعل) بضم أوله وكسر ما قبل آخره، أي مؤجر، والمصدر منه على (إفعال) أي إيجار.
ولست أدري أي ناقد يقول: "أجره الدار بلا مد فهو مؤجر" فيهدم كل ما قيل في القياس عن صوغ اسم الفاعل من الثلاثي، بل أي معجم يمكن أن ينص على (أجر) بلا مدّ، مصدره (الإيجار) فينقض كل ما أبرمه الأئمة حول مصادر الفعل الثلاثي؟ إلا أن يكون في النص تحريف قد اتفق لمعجم فلا يعقل أن يشمل كل معجم، فكيف يصرف الأستاذ قوله: "إن المعاجم كلها تقول إن الفعل أجر إيجاراً..".
وأغرب مما ذكرنا وأذهب في العجب قول الأستاذ العدناني: "وهناك الفعل آجر بالمد بمعنى أجر ولكن اسم الفاعل منه هو مؤجر أيضاً، لا مؤاجر حسب القاعدة"! فانظر إلى قوله (أيضاً) فكيف يكون (مؤجر) اسم فاعل لـ (أجر وآجر) معاً؟ فالمؤجر اسم فاعل من (آجر) إذا كان على (أفعل)، وليس هو اسم فاعل من (أجر) على (فعل) بحال من الأحوال، لأن الفاعل من هذا هو (أجر)، وإذا كان على (فاعلَ) فاسم الفاعل (مؤاجر)، فأي قاعدة هذه قد أوجبت أن يكون الفاعل من (أجر) على (مؤجر) سواء كانت زنته على (فاعلَ) أو (أفعلَ)؟
وإذا كان الأستاذ قد قصد أن (آجر) بالمد على (أفعل) دون (فاعل) لأنه كذلك في (آجرت الدار) على ما ذهب إليه الزمخشري، كما سيأتي إيضاحه، فلماذا لم يُبن ولم يُفصح، وأنى للقارئ أن يهتدي إلى ما يقوم في نفس الأستاذ، وما يقع في خلده؟.
التصحيف في نسخ المعاجم:
بقي أن نقول أن الخطأ الذي حكاه الأستاذ العدناني بقوله (أجره فهو مؤجر) قد يكون أتى به من عثار المصباح: (واختصر الأزهري على أجرته فهو مؤجر). على أن هذا التصحيف قد تداركه المحقق في نسخة أخرى للمصباح طبعت سنة (1342هـ)، إذ جاء فيها (واقتصر الأزهري على آجرته فهو مؤجر). ومثل هذا التصحيف قد عرض في التهذيب. قال الأزهري (ج/11): "فأجرته أوجره إيجاراً فهو مؤجر" والصواب (آجرته أوجره إيجاراً..) بالمد، وهو واضح، لا يذهب على القارئ المتأمل. وإلا فيكف يكون (فَعَلَ) في عبارة التهذيب، مضارعه (يُفعل) بضم حرف المضارعة كيكرم أو يكون مصدره (الإفعال)؟
واتفق نظير ذلك في القاموس، في مادة (وجب). قال الفيروز آبادي: "وأوجب لك البيع مواجبة ووجاباً" وهو تصحيف، والأصل فيه (واجب) لا (أوجب) لأن (أوجب) مصدره الإيجاب، لا المواجبة والوجاب. وقد حكى القاموس ما حكاه عن اللحياني، وعبارة اللحياني في (المحكم) محكمة، وهي: "وقد أوجب البيع واستوجبه، وواجب البيع مواجبة ووجاباً". وقد أشار إليه تصحيف القاموس المحشي فقال: "هذا التصريف لا يُعرف في الدواوين ولا تقتضيه قواعد، فإن مصدر أوجب الإيجاب، والمواجبة والوجاب مقيسان في واجبه".
وقد اعتذر صاحب التاج من تصحيف القاموس، فقال: "إن المصنف، أي صاحب القاموس، لم يغفل.. لكنه أجحف بكلام اللحياني".. وقد عجب من مثل هذا الاعتذار صاحب الجاسوس على القاموس، فقال: "وهو اعتذار غريب، فإن الإحجاف هو عين الغفلة". وإذا عدنا إلى اللسان ألفينا فيه التصحيف نفسه إذ جاء فيه: "وأوجب البيع مواجبة ووجاباً". وذكر صاحب الجاسوس أن اللسان قد أورده صحيحاً، فلعل بعض نسخ اللسان قد عريت من هذا التصحيف.
القول في (آجر) متى يكون (أفعل) ومتى يكون (فاعل)؟
في المعاجم: (أجرت الدار) من الثلاثي فإنا آجر بالمد والدار مأجورة والمصدر الأجر. وثمَّة (آجرت الدار) بالمد من المزيد، وهو إما من (أفعل) فأنا مؤجر بالكسر والدار مؤجرة بالفتح، والمصدر الإيجار، وإما من (فاعل) فأنا مؤاجر بكسر الجيم والدار مؤاجرة بفتحها، والمصدر المؤاجرة.
قال صاحب المصباح: "وآجرت الدار والعبد" فأتى به من (فعَلَ). وقال: "وآجرت الدار والعبد من أفعل، لا من فاعل، ومنهم من يقول آجرت الدار على فاعل فيقول آجرته مؤاجرة". وقال صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي: "واختلفت في قولهم آجرت الدار أو الدابة بمعنى أكريتها، هل هو أفعل أو فاعل، والحق أنه بهذا المعنى مشترك بينهما لأنه جاء فيه لغتان، إحداهما فاعلَ ومضارِعه يؤاجر، والأخرى أفعل ومضارعه يؤجر، وجاء له مصدران: فالمؤاجرة مصدر فاعَلَ والإيجار مصدر أفعل". وأضاف المصباح فقال: "ويتعدى إلى مفعولين فيقال آجرت زيداً الدار، وآجرت الدار زيداً على القلب، مثل أعطيت زيداً درهماً وأعطيت درهماً زيداً، ويقال آجرت من زيد الدار، للتوكيد، كما يقال بعت زيداً الدار وبعت من زيد الدار".
والمملوك كالدار والعبد فقد جاء في اللسان: "وأجر المملوك يأجره فهو مأجور، وآجره بالمد يؤجره إيجاراً ومؤاجرة". وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: "أجره الله أجراً وآجره يؤجره، والمملوك والأجير أعطيتهما أجرهما كذلك. وآجره يؤاجره، فصار صورة أفعل وفاعل واحدة – ص/21". ولم تفرق المعاجم بين الأجير والدار عامة فلم تخص أحدهما بأفعل أو فاعل، وقد أطلق صاحب المتن للأجير الإيجار والمؤاجرة جميعاً.
وذهب جماعة إلى التخصيص فخصُّوا (الدار) بالإفعال أي الإيجار وعدوا الفعل إلى اثنين، وخصوا (الأجير) بالمفاعلة أي المؤاجرة وعدّوه إلى واحد. قال الزمخشري في الأساس: "وآجرني فلان داره فاستأجرتها وهو مؤجر ولا تقل مؤاجر فإنه خطأ قبيح، وليس هذا فاعل ولكن أفعل، وإنما الذي هو فاعل قولك آجر الأجير مؤاجرة كقولك شاهره وعاومه، وكما يقال عامله وعاقده".
وحكى ذلك صاحب المصباح فقال: "قال الزمخشري وآجرت الدار على أفعلت فأنا مؤجر ولا يقال مؤاجر فهو خطأ، ويقال آجرته مؤاجرة مثل عاملته معاملة وعاقدته معاقدة، ولأن ما كان من فاعل في معنى المعاملة كالمشاركة والمزارعة إنما يتعدى لمفعول واحد، ومؤاجرة الأجير من ذلك، فآجرت الدار والعبد من أفعل لا من فاعل.. ويتعدى إلى مفعولين فيقال آجرت زيداً الدار وآجرت الدار زيداً".
وحكى ذلك صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي فقال: "والمفهوم من – الأساس – وغيره اختصاص آجرت الدابة بباب أفعل، واختصاص آجرت الأجير بباب فاعل. واسم الفاعل من الأول مؤجر بالكسر، واسم المفعول مؤجر بالفتح. ومن الثاني اسم الفاعل مؤاجر بالكسر واسم المفعول مؤاجر بالفتح".
خلاصة الرأي في الإيجار والمؤاجرة:
يتبين مما تقدم اختلاف الرأي في ذلك إذ ذهبت جماعة إلى جواز استعمال الإيجار والمؤاجرة للدار وآخرون إلى جواز استعمالهما للأجير. وفرّق بعضهم فخص الإيجار بالدار والمؤاجرة بالأجير، كما فعل الزمخشري وأيده الرضي في شرح الكافية. وحجة أولئك السماع وحجة هؤلاء أن المفاعلة في الأصل (مشاركة ومقابلة) في إيقاع أصل الفعل، فهي تقتضي أن يكون كل من طرفيها أهلاً لإيقاع الفعل كالمضاربة ومثلها المعاملة والمعاقدة والمزارعة، فالمؤاجرة للأجير معاملة ومعاقدة، وليست كذلك للدار، فالدار إذاً أولى بالإيجار منها بالمؤاجرة. والرأي في هذا جزل نضيج، لا سيما وأن ما جاء من المفاعلة بمعنى الأفعال قد خصّ بمعنى زائد ولم يذكر للمؤاجرة التي سمعت بمعنى الإيجار معنى زائد. فنحن إذا عوّلنا على القياس أخذنا بمذهب الزمخشري ومن معه، وإذا عولنا على السماع أخذنا باستعمال الصيغتين لكل منهما، ويبقى اتباع القياس أليق بالمعنى.
أجَّرت الدار بالتشديد:
أما (أجَّرت الدار) بالتشديد فليس فيه نص معتمد، إذ ورد في (أجَّر) بالتشديد "أجَّرت الطين إذا جعلته آجراً". وقد منع الأستاذ أسعد خليل داغر في تذكرته والأستاذ العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) استعمال (أجَّره الدار) بالتشديد بمعنى أجره أو آجره. قال الأستاذ داغر: "ويقولون أجَّرني الدار بالتشديد وهو خطأ صوابه أجرني إيجاراً أي أكراني.. فهو مؤجر وأنا مستأجر. أما أجَّر فلم ترد إلا بمعنى صنع الآجر. يقال أجَّر الرجل أي طبخ الطين آجراً.." والصواب ما ذهب إليه. وقد أساغ الشيخ إبراهيم اليازجي (أجَّره الدار) بالتشديد فقال في رسالته (لغة الجرائد): "ويقولون أجَّر المنزل تأجيراً أي اكتراه، وهو عكس المعنى لأن التأجير يكون من المالك، تقول أجَّرته المنزل فاستأجره". وقد أكد ما ذهب إليه في مجلة الضياء (1/612) على ما حكاه الأب البولسي في كتابه (مغالط الكتاب ومناهج الصواب) إذ عاب في المجلة قول القائل (أجَّر الدار) بالتشديد بمعنى استأجرها، وقال: "والصواب أجَّره الدار أي أكراه إياه فاستأجرها أي اكتراها". وقد أورد المعجم الكبير الذي ألف بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة (أجَّره). بالتشديد، لكنه أشار إلى أنه (مولَّد)، كما أشار الشيخ العلايلي في معجمه إلى أنه من اللهجات العامية الشائعة.
ما القول في (آمن) بالمد:
ويقول الكتاب حيناً (ومنهم من لا يؤمنون بهذا القول) فيأتون بآمن على فاعل، وليس في العربية آمن كفاعل، وإنما هو عامي، فآمن يؤمن كأفعل يُفعل فهو مُفعل. تقول أمن البلد إذا اطمأن فهو آمن. فإذا عدّيته بالتضعيف فقلت (أمَّنته) بتشديد الميم، ومنه ما جاء في الحديث (آمنوا السبل) أي اجعلوها آمنة، والسبُل بضمتين جمع سبيل. وأنت تعدّيه بزيادة الهمزة فتقول آمنته إيماناً خلاف أخفته. ومنه قوله تعالى: (وآمنهم من خوف(. وفي اللسان: "آمن فلان العدو إيماناً فأمن يأمن، والعدو مؤمَن" بفتح ما قبل آخره. وفي اللسان "واستأمنني فلان فآمنته أومنه إيماناً". وهكذا قولك (آمنت بالله إيماناً) فهو أفعل إفعالاً. وانظر إلى ما جاء في المخصص لابن سيده (13/83):
"الإيمان التصديق وقد آمن وزنه أفعل ولا يكون فاعل. قال الفارسي: لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلاً، فلا يجوز أن تكون زائدة لأنها لو كانت كذلك لكانت فاعل، ولو كان فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن دلّ ذلك على أنها غير زائدة. وإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة، وإذا كانت منقلبة لم يخلُ انقلابها من أن يكون عن الياء أو الواو أو عن الهمزة، فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز انقلابها. ويمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء. فإذا لم يجز انقلابها عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة عن الهمزة. وإنما انقلبت عنها ألفاً لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح.
فكما أنها إذا خففت في رأس وفاس وياس انقلبت ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها كذلك قلبت في نحو: آمن وآجر وآتى، وفي الأسماء نحو: آذر وآخر وآدم. إلا أن الانقلاب ها هنا لزمها لاجتماع الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة لزم الثانية فيهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة نحو آمن، أومن، أيذَن، أيتمان".
يقول أبو علي الفارسي أن الألف التي تلي الهمزة في (آمن) ليست زائدة لأنها لو كانت كذلك لكان (آمن) على فاعل، ولم يسمع. وهي ليست منقلبة عن واو أو ياء لأن هذين إنما ينقلبان إلى الألف إذا تحركا والموضع موضع سكون. قال ابن جني في كتاب التصريف: "فأما الواو والياء فمتى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفاً.. نحو قام وباع وأصلهما قوَم وبَيع. وكذلك طال وخاف وهاب والأصل طول بالضم وخوف بالكسر وهيبَ بالكسر، فأبدلتا ألفين لما ذكرنا". فلا يبقى إلا أن تكون قد انقلبت عن همزة، وإنما تقلب الهمزة ألفاً إذا سكنت. قال ابن جني: "متى سكنت الهمزة وانفتح ما قبلها فتخفيفها وإبدالها جميعاً أن تصيِّرها ألفاً في اللفظ، فالتخفيف في قولك في رأس راس، وفي فأس فاس، وفي اقرأ اقرا وفي اهدأ اهدا. والبدل في قولك آدم وآمن والأصل أأدم وأ أمن فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً لاجتماع الهمزتين وسكون الثانية وانفتاح ما قبلها".
القول في (آنس)
ويقول الكتاب حيناً (هو يؤانس من فلان ميلاً إليه) أي شعر منه بميل، فيأتون بالفعل من صيغة فاعل، على ما يوهم لفظ ماضيه، لأنه بعد الإعلال يصير آنس بالمد. وإنما هو أفعل لا فاعل لان أصله أ أنس بهمزتين، فالصواب في مضارعه يؤنس مثال يكرم. هذا ما أورده الشيخ إبراهيم اليازجي في رسالته (لغة الجرائد).
والقول عندي أن ما سمع هو قولهم (أنست به أنَسا) بفتحتين ضد توحشت و(أنست إليه) إذا سكنت إليه واطمأنت. ومنه (الأنس) بالضم خلاف الوحشة. ومنه الأنيس أيضاً. ويأتي متعديه على (آنسه إيناساً). ففي الصحاح: "والإيناس خلاف الإيحاش" فدل بهذا على أنه (آنسه) بهذا المعنى كأفعله. وقال: "والأنيس المؤانس" فدل به على أن (آنسه) كفاعله بالمعنى نفسه. أما قولك (آنست الشيء بالمد بمعنى أبصرته وعلمته، كما في الأفعال لابن القوطية، وسمعته كما في الصحاح، فليس فيه إلا الإيناس. ذلك أنه من أفعله يفعله إفعالاً ومنه قوله تعالى: (إني آنست ناراً لعلِّي آتيكم منها يقبس( (طه/ 10) وقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً( (النساء/ 5). قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (إني آنست ناراً( وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به"، فأتى بالإيناس إشارة إلى أن المصدر هو الإفعال. وجاء في الحديث: "ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إيناسها" قال ابن الأثير في النهاية: "أي أنها يئست مما كانت تعرفه وتدركه من استراق السمع" فأورد الإيناس بمعنى المعرفة والعلم.
القول في آسى وآخى
آسى على فاعلَ وأصله أاسى بهمزة مفتوحة بعدها ألف (فاعلَ)، ومضارعه (يؤاسي) بضم أوله على يُفاعل. وكذلك (آخى) فإن مضارعه يؤاخي، والمصدر المؤاساة والمؤاخاة. وقد شاع على الألسنة قولهم (المواساة) بالواو بدلاً من الهمزة، فمنع ذلك بعضهم. قال صاحب الصحاح "وآسيته بمالي مؤاساة أي جعلته أسوتي فيه، وواسيته لغة ضعيفة فيه". وقال أيضاً: "وقد آزيته إذا حاذيته ولا تقل وازيته" وجاء في درة الغواص للحريري أبي القاسم: "وأما إياس فهو عند المحققين مصدر أسته أعطيته والاسم منه الأوس الذي اشتقت منه المواساة" فأتى بالمواساة بالواو، وعقب عليه الخفاجي أحمد شهاب الدين شارح الدرة فقال: "وقوله اشتقوا منه المواساة فيه أن مادة أوس من الأجوف والمواساة معتلة اللام فهما أصلان مختلفان. وأيضاً المواساة بالواو وإن جوّزت على قلة خطأ عند المصنف والصواب المؤاساة بالهمزة".
أقول أجاز ابن جني قولك (أواسيه) بالواو في كتابه الخصائص (1/187) فقال: "آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته فأنا أواخيه" وعلل ذلك فقال: "اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها.. أصله أآسٍوك، بهمزة مضمومة بعدها مد، وسين مكسورة بعدها واو مضمومة، لأنه أفاعلُك من الأسوة، فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفاً بعد الكسرة، وكذلك أواخيك وأصله أ آخِوُك بكسر الخاء وضم الواو من الأخوة" وأردف: "وأما.. تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمعت في كلمة واحدة همزتان غير عينين، الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة، وكلتاهما حشو غير طرف، فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها وهي الضمة واواً..".
ومن ثم ترى أن في قولك (المواساة) بالواو وجهاً صالحاً ومذهباً متقبلاً، وجرى ذلك في شعر معتمد، كما جرى في كلام الفصحاء. ففي شرح الحماسة للمرزوقي (ص/ 404): "قال محمد بن عبد الله الأزدي:
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يوماً إليّ الرواجع
قوله أواسيه أي أجعله أسوة نفسي فأقاسمه مالي وملكي. يقول: لكن أتناسى ذنوبه وهفواته وأتغابى جرائمه وزلاته، وأحسنُ التأتي في أثناء ذلك لمواساته".
أقول أورد الشاعر الأزدي (أواسيه) بالواو لأنها لغة اليمن، وقد جروا على ذلك، وأقره المرزوقي واستحسنه. وجاء في المصباح: "ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن فيقال أواسيه".
وجاءت (المواساة) بالواو في الحديث. قال ابن الأثير في النهاية: "وقد تكرر ذكر الأسوة والمواساة في الحديث، والأسوة بكسر الهمزة وضمها القدوة، والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة فقلبت واواً تخفيفاً".
فالمواساة في الأمر تعني المساواة فيه، وهي ترد من ثَمَّ، في ما يسرّ وما يحزن على السواء. فقد جاء في لطائف اللطف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي قول علي بن الجهم "إن واسيناكم ساويناكم" وقال دعبل الخزاعي:
إنّ أولى البرايا أن تواسيه عند المسرّة من واساك في الحَزَن
القول في تعدية المفاعلة
لا شك أن الأصل فيما جاء من المفاعلة للمشاركة فعلاً، وأصله الثلاثي لازم، أن يتعدى إلى مفعول واحد كجالسه وكارمه وماشاه وجاراه وسايره وفاخره ونازله من جلس وكرم وسهر ومشى وجرى وسار وفخر ونزل، وقد ذهب ابن هشام في مغني اللبيب (2/113) في باب الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر، إلى أن ألف المفاعلة من هذه الأمور، إذ قال: "الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر أحدها همزة أفعل نحو (أذهبتم طيباتكم(.. الآية. الثانية: ألف المفاعلة تقول في جلس زيد ومشى وسار جالست زيداً وماشيته وسايرته.." ويغلب هذا أيضاً فيما كان فعله الثلاثي متعدياً إلى واحد، إذ تتعدى المفاعلة فيه إلى مفعول واحد أيضاً كضاربه وقاتله وشاركه وصارعه من ضربه وقتله وشركه وصرعه.
وقد تتعدى المفاعلة إلى اثنين ويكون أصلها الثلاثي متعدياً إلى واحد كما يجري في المفاعلة التي يوقع فيها كل من الطرفين أصل الفعل على مفعول، بدلاً من أن يوقع كل منهما أصل الفعل على صاحبه. ومن ذلك (نازعته الأمر). ففي نهج البلاغة: "وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي – 2/103" وفي الأساس (نازعه الكلام).
ومنه (ناقشته الحساب). فعن عائشة رضي الله عنها: "من نوقش الحساب عُذِّب" وهو من ناقشه الحساب، وقد حكاه الزمخشري في الأساس.
ومنه (قاسمه الأمر). ففي الصحاح: "قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه بينهما".
ومنه (جاذبه الحديث). ففي الصحاح: "وجاذبته الشيء إذا نازعته". وفي الأساس "وجاذبه الثوب وتجاذبوه".
ومنه (شاطره الربح)، ففي الصحاح: "وشاطرت فلاناً مالي إذا ناصفته".
ومنه (نافسه الأمر). قال الشاعر:
وإن قريشاً مهلك من أطاعها تنافس دنيا قد أحم انصرامها
فقول الشاعر (تنافس دنيا) على معنى (تنافس في دنيا) كما في اللسان.
فصح بذلك (نافسه دنيا) كنافسه في دنيا. وجاء (تنافسوه) ففي اللسان: "وتنافسنا ذلك الأمر وتنافسنا فيه". وفي الحديث: أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".
على أن من هذه المفاعلة التي تتعدى إلى اثنين ما أصله الثلاثي لازم. ومن ذلك (ساقطه الحديث). ففي الإفصاح: "ساقطه الحديث سقاطاً ومساقطة إذا سقط منك إليك ومنك إليه".
الحذف والإيصال في المفاعلة
قصد النحاة بالحذف والإيصال حذف الجار وإيصال العامل إلى المجرور ليباشره، دون ما حاجة إلى صلة من حرف فإذا كان الفعل العامل يباشر مفعولاً واحداً ويصل إلى متعلقه بجار ثم حذف الجار، أصبح يباشر مفعولاً آخر إلى مفعوله الأول. وقد مثلوا لذلك بقوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً( - الأعراف/154 فقد قيل أن الأصل فيه (اختار موسى من قومه سبعين رجلاً) ثم حذف الجار فانتصب (قومه) وأصبح الفعل متعدياً إلى مفعولين، بعد أن كان متعدياً إلى واحد. وقالوا أن ذلك موقوف على السماع إذ يقتصر فيه على المسموع، عند الأكثرين. ومنه قولهم (استغفر الله ذنباً) والأصل فيه (من ذنب)، وقولهم (أمرتك الخيرَ) والأصل فيه (أمرتك بالخير). قال سيبويه في الكتاب: "وليس استغفر الله ذنباً، وأمرتك الخير، كثيراً في كلامهم جميعاً، وإنما يتكلم به بعض العرب. وليس كل ما كان متعدياً من الفعل بحرف جر جاز حذفه، إلا ما كان مسموعاً".
وقال أين يعيش في شرح المفصل (8/51): "وهذا الحذف وإن كان ليس بقياس، ولكن لا بد من قبوله لأنك إنما تنطق به وتحتذي في جميع ذلك، أمثلتهم، ولا تقيس عليه". فهل في أفعال المفاعلة ما يتعدى إلى مفعولين بحذف الجار، وأصله التعدي إلى مفعول واحد؟
أقول مر بنا قولهم (ناقشه الحساب) فإنك تقول فيه (ناقشه في الحساب) أيضاً، وهما بمعنى. ففي الأساس: "وناقشه الحساب وفي الحساب"، فإذا كان الأصل هاهنا تعدية المفاعلة إلى مفعول واحد، وأنها عدِّيت إلى اثنين بحذف الجار، فقد صح بذلك أن قولك (ناقشه الحساب) من قبيل الحذف والإيصال. ومما يدلك على أن الأصل فيه التعدية إلى واحد اكتفاء بعض المعاجم بالقول "وناقشته مناقشة استقصيت في حسابه"، دون التصريح بتعديته إلى المفعول الثاني، كما فعل صاحب المصباح. وقد ابتدأ الصحاح بالقول: "والمناقشة الاستقصاء في الحساب" ثم أورد الحديث "من نوقش الحساب عُذب"، فدل به على جواز تعديته إلى اثنين. ولا ننس أن الأصل في المفاعلة التي هي للمشاركة عامة أن تتعدى إلى واحد.
كما مرّ بنا قولهم (نافسه الأمر) و(نافسه فيه) وأن الأصل نافسه فيه، وهما بمعنى، فثبت بهذا أنه على الحذف والإيصال.
وثمة (نازعه الأمر) و(نازعه فيه)، وليسا هما بمعنى عند التحقيق. فنازعه الأمر على معنى مجاذبة الشيء، وإذا جاذب خالد صاحبه شيئاً فقد حاول كل جذب الشيء إليه، وكذلك نازعه الأمر. ولا تقتضي المجاذبة هنا أو المنازعة مخاصمة أو عداوة بالضرورة.
فانظر إلى قول الزمخشري في الأساس "ونازعه الكلام.. والفرس ينازع فارسه العنان، ونازعني بنانه: صافحني" فليس في أي صورة من هذه الصور مخاصمة أو معاداة.
وفي النهاية: "ومنه الحديث: مالي أُنازع القرآن أي أجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه" أي أنه نازعهم قراءة القرآن حين جهروا به فجاذبوه القراءة.
فإذا عرفنا أن (نزع) في الأصل بمعنى (جذب). قال الزمخشري في الأساس: "نزع من يده: جذبه وانتزعه.. ونزع الدلو من البئر.. ونازعه الثوب: جاذبه". أقول إذا عرفنا أن (نزع) بمعنى جذب أصلاً فقد اتضح بهذا أن (نازعه الكلام) بتعدية المفاعلة إلى مفعولين، هو الأصل كجاذبه إياه. فقد جاء في الأساس "ونازعه الكلام" كما جاء فيه "وتجاذبوا أطراف الكلام". وفي الصحاح: "وجاذبته الشيء إذا نازعته إياه" فهما بمعنى. وكذلك تنازعوه كتجاذبوه وتبادلوه وتقاسموه. ففي الأساس: "وتنازعوا الكأس تعاطوها". وجاء في كتاب كليلة ودمنة (في باب عرض الكتاب): "ويكون مثل أصغر الأخوة الثلاثة الذين خلَّف لهم أبوهم المال الكثير، فتنازعوه بينهم، فأما الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه.. وأما الصغير فإنه عندما نظر إلى ما صار إليه أخواه.. أقبل على نفسه يشاورها..". فقوله (تنازعوه بينهم) بمعنى تناولوه وتقاسموه.
أما (نازعه فيه) فإن له شأناً آخر. قال صاحب الأساس: "نازعته في كذا: خاصمته، منازعة ونزاعاً" فنازعه فيه على معنى خاصمه فيه وقد يتجاوز هذا المعنى إلى عاداه. وهذا المعنى مجاز من معنى المجاذبة الذي هو الأصل. فقولك (نازعه الأمر) جاء على الأصل، فليس هو إذاً على الحذف والإيصال. أما (نازعه فيه) فقد جاء على معنى (المخاصمة أو المعاداة) فحمل عليها حين ضُمِّن معناها.
وقد عاب النقاد قول الكتاب (وإني لأشاركك أحزانك) بحذف الجار وتعدية (المشاركة) إلى مفعولين حملاً على (المشاطرة) فهل هذا صحيح؟ أقول إن حذف الجار هنا من قبيل الحذف والإيصال إذا صح، لكنه ليس صحيحاً لأن حذف الجار سماع وليس قياساً، كما تقدم، فليس حمل المشاركة على المشاطرة سائغاً أو مستقيماً، فإذا أخذت به كنت آخذاً بفاسد. فقولك: (شاركت في كذا) يعني أنك شريك فيه، تقول أنا شريكك فيما عراك من هذه النائبة وفيما نالك وفيما ضربك وفيما دهاك، كما قال الهمذاني في ألفاظه الكتابية. وتقول بمعناه: أشاركك فيما عراك ونابك وفيما ضربك ودهاك. قال الشاعر:
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل
وهو من أبيات ديوان الحماسة.
ولكن جاء في المقامة الشيرازية لأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني: "قد أرضعتك ثدي حرّته، وشاركتك عنان عصمته"، فهل يعوّل على هذا في تعدية المشاركة إلى مفعولين إذا صح أنه نص معتمد؟ أقول لا يعوّل على هذا، وقد يكون الهمذاني قد دُفع إليه قصد المزاوجة بين (ثدي حرّته) و(عنان عصمته) وإحكام السجع، وقد أجاز الأئمة للشاعر والساجع ما لم يجيزوه للناثر. قال ابن جني: "فإن صح عندك أن العرب لم ينطق بقياسك أنت، كنت على ما أجمعوا عليه البتة" وأردف: "وأعددت ما كان قياسك أدّاك إليه لشاعر مولّد أو لساجع أو لضرورة، لأنه على قياس كلامهم، بذلك وصَّى أبو الحسن – الخصائص – 1/132". وقال الإمام ابن بري في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) منتصراً لأبي محمد القاسم الحريري صاحب المقامات: "اعلم أن للسجع ضرورة الشعر وأن له وزناً أيضاً هي ضرورة الوزن في الشعر، في الزيادة والنقصان والإبدال.."
ومرّ بنا (قاسمه الأمر). ففي اللسان: "وقاسمته المال أخذت منه قسمك وأخذ قسمه. وقسيمك الذي يقاسمك أرضاً أو داراً أو مالاً بينك وبينه.. وهذا قسيم هذا شطره" فقد أشار إلى أن (القسيم) قد يكون بمعنى المقاسم وأوضحه فقال: "وقسيم فعيل بمعنى مقاسم مفاعل كالسمير والجليس والزميل" وقد يكون بمعنى المقسوم، كما هو جلي في قوله "وهذا قسيم هذا شطره" فالفعيل هنا بمعنى المفعول. وقد تضمن النص تعدّي (المقاسمة) إلى مفعولين، قال الشاعر:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
وقالت امرأة من بني شيبان:
وقالوا ماجداً منكم فقلنا
كذاك الرمح يكلف بالكريم
بعين أباغَ قاسمنا المنايا
فكان قسيمها خير القسيم
قال المرزوقي في شرح الحماسة: "وكأنه كان للمنايا نصيب فيهم فقاسمتهم على نصيبها، فوقع إليها خير النصيب. والمعنى اختارت منهم الأمثل فالأمثل وغادرت الفلّ منهم والمسترذل. وقوله: قسيم، في معنى مقسوم، وقد يكون القسيم المقاسم.." وأردف: "وقاسم يقتضي مفعولاً آخر كأنه قال قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب. وقوله قسيمها كقولك نصيبها، وخير القسيم خير الأنصباء – 882".
فقد أوضح المرزوقي أن قول الشاعر (قاسمنا المنايا) إنما جاء على حذف المفعول الثاني، لأن الأصل (قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب). أما قول المرزوقي (فقاسمتهم على نصيبها) أي قاسمت المنايا الناس على نصيبها، فلا ينقض ما قلنا من تعدي (المقاسمة) إلى مفعولين. فعبر بقوله (قاسمتَهم على نصيبها) أن المقاسمة قد جرت بين المنايا والناس على نصيبها، فقد ساق (المقاسمة) على أنها معاقدة في القسمة قد جرت على هذا النصيب فأغنى ذلك عن نصب المفعول. وقال الشاعر:
وقاسمني دهري بني بشطره فلما تفضَّى شطره عاد في شطري
فقال المرزوقي: "ومعنى بشطره كأن الدهر ادّعى أنه قسيمه في بنيه وأن له منهم الشطر وهو النصف، فقاسمه على ذلك، فلما استوفى حظه أقبل يأخذ من نصيبه الذي كان أقر له به وساهمه عليه". فقد رأيت أن المرزوقي قد عاد إلى استعمال (قاسمه عليه) وأشار من جانب خفي إلى العقد الذي تصوره بين الشاعر ودهره حول اقتسام البنين بقوله: "فلما استوفى حظه أقبل يأخذ من نصيبه الذي كان قد أقر له به، وساهمه عليه". وتقول (قارع القوم على كذا وتقارعوا واقترعوا) إذا قاسموا وتقاسموا واقتسموا بالقرعة، أي تعاقدوا فاتفقوا على تعيين أسهمهم وأنصبائهم بالقرعة. وقد تكون المقاسمة وجهاً من وجوه المقارعة والمساهمة.
وهل يصح قولك (قاسمه في كذا)؟ أقول إنما يصح (قاسمه في كذا)