أولاً : نشأة محاولات تجديد النحو قديمًا :
يَلْحظ المتتبِّع للنحو بأنّ هناك منهجين بارزين له منذ نشأتِهِ ؛ الأوّل ما يمكن أن نسميه نحو المتخصصين و لعلّه كان صاحب الصولة و الجولة ، و هو نحو يدق غالبًا حتى على الْمُشْتَغلين به ، و هو فضلاً عن مصطلحاته الدقيقة و مسائله العويصة ، يخامره المنطق طوراً ، و تعتريه الفلسفة تارة أخرى ، و على الأخص عند المتأخرين من النحاة
و الثاني ليس بمنأى عن الأول و لكنّه يتجنب الخوض في المسائل النحويّة على نهج المتخصصين ، و يجتزئ من الأبواب النحوية بما يعين الناشئة على تقويم ألسنتهم ، و معرفة أساسيات النحو . و قوام أمره اختصار الموطوّلات ، و العناية بما يُصلح من لسان الدارس ، فتيسيره في الشكل لا في المضمون . فسيبويه يصنع كتابه للمتخصصين ، فيما يضع خلف الأحمر ( ت 180 هـ ) مقدمته للمتبلّغين الشداة ، و على هذه الشاكلة سار النّحو ، كما أنّ الأخفش ،و هو الذي نقل إلينا كتاب "سيبويه" يؤلف مسائله الصغرى ثم الكبرى حرصًا منه لتبسيط بعض أبواب الكتاب . و حرص "المازني" على أن يضع كتابه في التصريف خاصة دون مزجه بالنحو و الجرمي ( ت 255 هـ ) يؤلف شرحاً لكتاب "سيبويه" وصف بأنّه جيد ، و عرف باسم " الفرخ " و معناه " فرخ كتاب سيبويه " .
و علاوة على ذلك فقد ألفت مختصرات كثيرة في النحو ، بدأت بالكسائي الذي ألف كتابًا للمبتدئين سماه " المختصر الصغير " و هو الكتاب الذي نقل إلى الأندلس في نهاية القرن الثاني و اكتفى الأندلسيون به – بعد أن نقلوه – ما يقرب من قرنين من الزمان ، و توالت بعد ذلك المختصرات التي تطالعنا بها مصادر الكتب و الفنون ، مثل " مختصر النحو " للجرمي " ( ت 325) ، و مختصر ثان لأبي موسى سليمان بن محمد ( ت 305) و ثالث للزجاج ( ت 310) و رابع لليزيدي محمد بن عباس ( ت 313) .
و خامس لأحمد بن الحسن ( ت 317) ثم " التيسير في اللغة و النحو " لابن مقسم ( ت 353 ) كما ألف أبو علي الفارسي في القرن الرابع " البصريات " و " الشيرازيات " لنفس الغرض ، كما اختصر أبو حيان الأندلسي النحوي ( ت 745) كتاب " المقرب " لابن عصفور الأشيلي .
و على الرغم من أن معظم هذه الكتب لم تصلنا فإنّه من المؤكد أنّ هذه المختصرات و الميسرات و غيرها إنّما كانت استجابة – ربما اضطرارية – لما دعت إليه الرغبة الحقيقية للمتعلمين و الناطقين للغة أن يجدوا لديهم ما يمكنهم أن يفهموه و يستخدموه من مسائل النحو لخدمة اللغة بعيدًا عن التعقيد و الاضطراب .
و لا يسعنا هنا ألا نذكر ثورة ابن مضاء ( ت 592هـ ) في وجوه نحاة العربية ، و التي أعلنها في كتابه "الرد على النحاة" و الأثر العميق الذي تركته على محاولات تجديد النحو في العصر الحديث.
أولاً : نشأة محاولات تجديد النحو في العصر الحديث :
أمّا المحدثون فيمكننا القول أنّ أول محاولة للتيسير في العصر الحديث كانت باسم علي مبارك ( ت 1893 م ، إذ ألف كتاب " التمرين " الذي ظل طلاّب المدارس الابتدائية يقرؤونه طويلاً . و لم يكتف بمحاولته تلك ، بل عهد إلى رفاعة الطهطاوي ( ت 1873 م ) ، بتأليف كتاب في النحو لطلاّب المدارس الخصوصية الأوليّة ، فألف الطهطاوي كتابه الموسوم بـ " التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية " .
و قد اقتصر تيسير " الطهطاوي " على طريقة التناول و العرض،و نَظَمَ أيضاً أرجوزة تجمعُ قواعد النحو بإيجاز سمّاها " جمال الآجروميّة " . اقتصر فيها على أبواب النحو الرئيسية ، و أدخل فيها فكرة الجداول المعروفة في اللغة الفرنسية .
و ربما كانت " الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية " للشيخ حسين المرصفي ( ت 1890 م ) أول محاولة لعلاج مشكلة تعليم العربية في المراحل العليا ، و يُعد هذا الكتاب نقلة نوعية من مرحلة الحواشي و المتون إلى مرحلة الثقافة الواسعة و التذوق 248ص الرفيع ؛ إذ أكثر مؤلفه من الشواهد الأ دبية الرفيعة ، التي تربي ذوق الدارس ، و تصقل ملكةَ البيان عنده ، خلافاً للجفاف الذي عهده الدارسون في الكتب التقليدية . و ظَهرَ في عام 1887م كتاب " الدروس النّحوية لتلاميذ الدروس الابتدائية " و هو من تأليف نخبةٍ من المشتغلين بالتعليم ، على رأسهم حِفني ناصف ( ت 1919 م ) .
و ظَهَرَ في أوائل الربع الثاني من القرن الماضي سلسلةُ من الكتب النحوية للمرحلتين الأساسية و الثانوية ، ألفها علي الجارم ( ت 1949 م ) و مصطفى أمين ، و قد انتشرت هذه السلسة انتشاراً واسعاً ، و من سماتها أنها تقوم على الاستنباط ؛ إذ يبدأ الكتابُ بعرض الأمثلة ، و تتدرج بالطالب إلى أن يصل إلى القاعدة . و قد حفِلَت هذه السلسلة بالتمارين التطبيقية التي انعكس فيها ذوق المؤلفين الرفيع ، بعيداً عن الشواهد و الأمثلة المحفوظة ، و ربما أُخذ على عملهما أنّهما وزّعا أبواب النحو على سنوات التّعليم فتقطّعت بذلك أوْصالُه .
في عام 1947 نشر كتاب " الرد على النحاة " لابن مضاء القرطبي ، بتحقيق الدكتور شوقي ضيف ، و أحدث نشره حينذاك هزة في الدراسات النحوية تشبه الهزة التي أحدثها كتاب " الأدب الجاهلي " للدكتور طه حسين في الدراسات الأدبية ، و قد صدر قبله بسنوات 1937 ، كتاب آخر هو " إحياء النحو " لإبراهيم مصطفى ، و أحدث صدوره هزة شديدة أيضا بين المشتغلين بالنحو ، و مما قيل عنه بعد ذلك : إنه متأثر بكتاب " الرد على النحاة ".
و تعد محاولة إبراهيم مصطفى في كتابه " إحياء النحو" أولى محاولات التجديد على مستوى التأليف غير المنهجيِّ ، و قد اتبع إبراهيم مصطفى الدكتور محمد كامل حسين في " النحو المعقول " ، و عبد المتعال الصعيدي في " النحو الجديد" ، و كتاب " حصوننا مهددة من داخلها " للدكتور محمد حسين ، و كتاب " من قضايا اللغة و النحو " للدكتور علي نجدي ناصف ، و على الرغم من تقبل بعض أعلام ثقافتنا المعاصرة وجهة نظر " ابن مضاء " في ضرورة إصلاح النحو و تجديده إلا أنه لم يكتب لذلك المشروع شيء من النجاح ، حيث اختفت " قواعد اللغة العربية " لحفني ناصف ، و " النحو الواضح " لعلي الجارم و بهتت جذوة كل محاولة للتيسير ، ثم يعود الحال كما كان و تعود الشكوى من صعوبة النحو .
إلا أن مشروع التيسير بُعِثَ من جديد في عام 1977 م على يد الدكتور شوقي ضيف صاحب ابن مضاء و رفيق منهجه الداعي إلى تخليص النحو العربي من كثير من شوائبه .
فقد طور هذه المرة مشروعه الذي تقدم به من قبل ، و قد أقرالمجمع شطرًا كبيرًا من مقترحات هذا المشروع ، فأتبع مشروعه برسم إطار لتنفيذ التيسير المقترح به في كتابه الموسوم بعنوان : " تجديد النحو " .
و قد أثّرت هذه المحاولات السالفة الذكر في قرارات مجمع اللغة العربية في القاهرة ؛ إذ طُرِحَ فيه موضوع تيسير النحو في خضمّ تلك المناقشات الحادة التي أدت منذ أوائل القرن الماضي إلى إعادة تقييم النحو العربي من الناحية العملية التطبيقية ، و كان على المجمع أن يخوض هذا النقاش بما له من قيمة لغوية ، يتطلع إليها الكثير ليكون رائداً للإصلاح اللغوي المنشود ، بعيداً عن الآراء الفردية التي قد يعتريها الخطأ ، و على وقع هذا الإلحاح خاض المجمع هذه التجربة .
من بحث بعنوان محاولات تجديد النحو
مريم النعيمي
[center]