في أدبِ التأويلِ الأدبيِّ
عبد الدائم السلامي
ـ 1 ـ
من قبلُ كان التأويلُ، ومن بعدُ ظهرتِ الكتابةُ مُحْتشمةً مُنْشَدَّةً إليه باعتبارِها ترسيماً له خطيّأً ملتْه كثرةُ انبجاسِ حرارةِ هَيْئاتِ الموجوداتِ في الذِّهنِ الخامِّ. ذلك أنّه لمّا اِنْوَجَدَ الكائنُ البشري أمام ظواهر طبيعيّة (نصيّة قبل ـ أبجديّة) مستغلَقة على معانيها راح يُدقِّقُ فيها النظرَ يتغيّا تأويلَها وبلوغَ فهمِها ومن ثمة السيطرةَ عليها بهَضْمِها معرِفياً والانتفاع بنتَاجِها المعنويِّ الدَّلاليِّ في صِداماتِه اللاحقة الممكنة مع عناصرِ محيطِه المجهولةِ. ويبدو أنّ هذا السبقَ لفعل التأويلِ تشرّبه الفكرُ البشريّ، تحت ضاغطة الحاجة، حتى صار سلاسلَ جينيّة تحكم سلوكَه عند كلِّ جديدٍ جَدَّ من الظواهر وتُمكّنه من حَدثِ تأويلِها بشكل متدرِّجٍ من اللاوعيِ بها إلى الوعيِ بحدودِها إلى ما بعدَ الوعيِ بأنساقِ تكوُّنِها، نعني بلوغَ التفكُّرِ فيها المنطقةَ التي تنفلِتُ فيها الرؤيا من أشراطِ الواقع لتنفتِحَ على المتوقَّعِ حيث لا تحكُمُها أسيِجةٌ ولا يشكمُها حَبلُ المألوفِ المقيتِ.
ـ 2 ـ
هل يجوزُ القولُ بأنّ طبيعةَ المكتوبِ تقتضي ضرورةً قناةَ «التأويلِ الأدبيِّ» للتواصل الصّافي معه؟ أو إنَّ تأويلَ النصوصِ فِعلٌ باذِخٌ يمكن تعويضُه بالتفسيرِ الهادئِ؟ وما حدودُ حدثِ التأويلِ في النصِّ وعلاقتُها بوفاءِ الذّاتِ المؤوِّلةِ لحدودِها الماديّة لحظةَ التفكُّرِ؟ ألا يوجد هكذا تعارُضٌ بين حرية تلقّي النصِّ وموضوعيّةِ ذاك التلقّي؟ ونُضيفُ: هل نستطيعُ ردَّ «العدوانِ التأويليِّ» الذي يمكنُ أن تتعرَّضَ إليه النصوصُ في سَفَرِها من الباثِّ إلى المتلقّي؟
ـ 3 ـ
بالعودة إلى ما جاء في «لسان العرب» عن ابن الأثير: «والمرادُ بالتأويلِ نقلُ ظاهرِ اللّفْظِ عن وَضْعِه الأصْليِّ إلى ما يَحتاجُ إلى دليلٍ لولاه ما تُرِكَ ظاهرُ اللَّفْظ»، نتبيّنُ حُدودَ فعلِ المُؤَوِّلِ، فهو يقوم بكشفِ الغامِضِ من القولِ بُغيةَ استحلابِ معناه بواسطة لفظٍ آخر غيرِ مستغْلَقٍ على الفهمِ، لا بل إنّ عملَه هو إباحةُ كُنْهِ المعنى الغامضِ لنصٍّ مَّا أمامَ ذائقةِ مُتلقٍّ مَّا بنصٍّ مَّا شبيهٍ له. إذن، ثمة حدثُ ولادةِ نصٍّ من نَصٍّ، وبالتالي ثمّة معنًى يكشِفُ عن معنًى، ثمة إضافةٌ إلى كَوْنِ الدَّلالةِ، إضافةٌ تختلِفُ من قارئٍ مُؤَوِّلٍ إلى آخر، ومن طبيعةِ نصٍّ إلى آخر عند نفسِ المؤَوِّلِ، ومن زمنِ تأويلٍ إلى غيرِه من أوقاتِ النّاسِ. ولكن هل نحنُ بقولِنا هذا نُبَرِّرُ عدمَ موضوعيّة فعلِ التأويلِ؟ سنحاولُ تقديمَ مشروع إجابةٍ، ونبدَؤُه بتساؤُلٍ هامٍّ: هل يمكنُ تأويلُ نصٍّ مكتوبٍ ونحنُ لا نتوفَّرُ على آلياتِ فهمِ اللغةِ؟ هل النصُّ غيرُ اللغةِ؟ نقولُ بلى، فالنصُّ، أيُّ نصٍّ، هو لغةٌ، واللغةُ منطِقٌ، والمنطِقُ مُتعالِقةٌ مُعادَلاتيّةٌ يؤدّي حلُّ إحدى سلاسِلِها إلى فتحِ عُقدةِ الأخرى، فلا يُوجدُ تأويلٌ صائبٌ والمؤَوِّلُ خارجَ دارةِ لُعبةِ الكتابةِ، بعيداً عن إصابةِ وِحدةِ معنى المكتوبِ. ولْنَفْتَرِضْ أنّا مَلَكنا ناصيةَ اللغةِ، هل يعني هذا أنّا بمَنْآى عن الخطلِ في فهمِ مكتوبٍ مَّا؟ سنُجيبُ بقولِنا إنّ فعلَ التأويلِ هو أساساً فعلٌ باحِثٌ دوماً عن الموضوعيّة، ينشُدُها من مَهْدِ بدايةِ قراءةِ النصِّ إلى لَحْدِ نِهايتِه، ما إنْ يقترِب منها حتى تبدوَ له بعيدةَ المنالِ، فإذا عكَفَ عليها يطلُبُها آناءَ الليلِ فرّتْ منه أطْيافُها أطرافَ النهارِ من بابِ الانزِياحِ السّهْلِ الذي تُبيحُه اللغةُ. ثمة مشكلةٌ إذن، وإذن ثمّةَ تأويلٌ!
ـ 4 ـ
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَاب» (سورة آل عمران، الآية 7).
ـ 5 ـ
ظاهرٌ أنّ الفتنةَ غيرُ التأويلِ، وأنّ التأويلَ غيرُ القتْلِ. فلا خوفٌ من قارئٍ يَهْتِكَ حُجُبَ النصِّ ويجتهدُ فيه طاقاتِهِ ابتغاءَ تأويلِه، ولن يذهبَ فعلُه سُدًى ولن يحزَنَ حُزْنَه على مضيعةٍ لوقتٍ مادام ثمة لذةُ طَلَبٍ متوهِّجَةٌ ولذَّةُ مطلوبٍ تَظَلُّ مؤجَّلةً أبداً، إذْ في تأجيلِها تمديدٌ في حياةِ النصِّ، وتجديدٌ في حياةِ قارئِه وهو ما يضمنُ أشراطَ أدبيّةِ الأثرِ وقدرتَه على اختراقِ خطيّةِ الزّمن التخييليِّ.
ـ 6 ـ
نقول: ما مِنْ فعلٍ بشريٍّ فارغٍ من بعضِ ذاتِ فاعِلِه، هذا مؤكَّدٌ، وما من ذاتٍ مُفَكِّرَةٍ تقدرُ على التخلُّصِ من صِفاتِها لحظةَ بناءِ معنًى من المعاني. الموضوعيّةُ سببٌ مُبتَغًى يقيناً من الانزلاقِ المحتَمَلِ ونحنُ نسيرُ على صفيحِ مكتوبٍ سَخِنٍ، الموضوعيةُ مَطْلَبٌ تخييليٌّ يكادُ يتماهى والأسطورةَ من حيثُ الوُجودُ وعدمُ إثباتِ ذاكَ الوجودِ. وهنا، تُطرَحُ علينا مسألةُ حضورِ نَظريّةٍ مَّا تُراقِبُ خَطْوَنا من وتَمْنَعُنا الانزلاقَ صوبَ شفيرِ إسقاطاتِ الذّاتِ على موضوعِ تفكُّرِها. النّظريّة الفكريّةُ حقٌّ وفعلُها النقديُّ باطِلٌ، وبين الحقِّ والباطلِ باعتبارِهما مِحْوَرَيْنِ معيارِيَيْن، يتنزَّلُ الفعلُ التأويليُّ الأدبيُّ. لا بدّ من نُشْدَانِ الحقِّ المعنويِّ في النصِّ، حتى نحميهِ من النسيانِ والسَّفَهِ، ولكن لا بُدَّ لهذا الحقِّ من باطِلٍ إنشائِي (لغويٍّ) يمنحُه قدرةَ تجاوُزِ ضاغِطاتِ المألوفِ ليبلُغَ مراقِيَ الذَّوْقِ الفنيِّ، في شيء من الجُرْأةِ، وفي شيءٍ من الحَذَرِ.