[الْكَلاَمُ وَالصَّمْتُ] (الماوردي)
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلاَمِ شُرُوطًا لاَ يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الزَّلَلِ الا بِهَا، وَلاَ يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: فَالشَّرْطُ الاوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا فِي اجْتِلاَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إصَابَةَ فُرْصَتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ مَتَى أَخَلَّ الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهَا فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيهَا. وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا بِمَا يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِهِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الاوَّلُ: وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْكَلاَمِ؛ فَلِأَنَّ مَا لاَ دَاعِيَ لَهُ هَذَيَانٌ، وَمَا لاَ سَبَبَ لَهُ هَجْرٌ. وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الْكَلاَمِ، إذَا عَنَّ وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ دَوَاعِيهِ، وَإِصَابَةَ مَعَانِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ مَرْذُولا، وَرَأْيُهُ مَعْلُولا ، (...) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَلاَمِ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلاَمَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لاَ يَقَعُ مَوْقِعَ الانْتِفَاعِ بِهِ، وَمَا لاَ يَنْفَعُ مِنْ الْكَلاَمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هَذَيَانٌ وَهَجْرٌ، فَإِنْ قَدَّمَ مَا يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ كَانَ عَجَلَةً وَخَرَقًا وَإِنْ أَخَّرَ مَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ كَانَ تَوَانِيًا وَعَجْزًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ قَوْلا ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ عَمَلا . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: تَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى مَوَاضِعِهِ وَكَلاَمُهَا مِنْ بَعْدِهَا نَزْرُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. فَإِنَّ الْكَلاَمَ إنْ لَمْ يَنْحَصِرْ بِالْحَاجَةِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ بِالْكِفَايَةِ، لَمْ يَكُنْ لِحَدِّهِ غَايَةٌ، وَلاَ لِقَدْرِهِ نِهَايَةٌ. وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلاَمِ مَحْصُورًا كَانَ حَصْرًا إنْ قَصُرَ، وَهَذْرًا إنْ كَثُرَ (...) وَلِمُخَالَفَةِ قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ الْكَلاَمِ حَالَتَانِ: تَقْصِيرٌ يَكُونُ حَصْرًا، وَتَكْثِيرٌ يَكُونُ هَذْرًا، وَكِلاَهُمَا شَيْنٌ. وَشَيْنُ الْهَذَرِ أَشْنَعُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْغَالِبِ أَخْوَفَ. (...) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْكَلاَمَ إذَا كَثُرَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَزَادَ عَلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ صَوَابًا لاَ يَشُوبُهُ خَطَلٌ، وَسَلِيمًا لاَ يَتَعَوَّدُهُ زَلَلٌ، فَهُوَ الْبَيَانُ وَالسَّحَرُ الْحَلاَلُ. (...) وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: إذَا كَانَ الايجَازُ كَافِيًا كَانَ الاكْثَارُ عِيًّا، وَإِنْ كَانَ الاكْثَارُ وَاجِبًا كَانَ التَّقْصِيرُ عَجْزًا. (...) وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ؛ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُنْوَانُ الانْسَانِ يُتَرْجِمُ عَنْ مَجْهُولِهِ، وَيُبَرْهِنُ عَنْ مَحْصُولِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَهْذِيبِ أَلْفَاظِهِ حَرِيًّا وَبِتَقْوِيمِ لِسَانِهِ مَلِيًّا. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ {قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: يُعْجِبُنِي جَمَالُك. قَالَ: وَمَا جَمَالُ الرَّجُلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: لِسَانُهُ}. (...) وَلَيْسَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْكَلاَمِ لاَ لِمَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْبَلاَغَةِ، وَكَلَّفَهَا لُزُومَ الْفَصَاحَةِ، حَتَّى يَصِيرَ مُتَدَرِّبًا بِهَا مُعْتَادًا لَهَا، فَلاَ يَأْتِيَ بِكَلاَمٍ مُسْتَكْرَهِ اللَّفْظِ وَلاَ مُخْتَلِّ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْبَلاَغَةَ لَيْسَتْ عَلَى مَعَانٍ مُفْرَدَةٍ وَلاَ لِأَلْفَاظِهَا غَايَةٌ، وَإِنَّمَا الْبَلاَغَةُ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فِي أَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ. فَتَكُونُ فَصَاحَةُ الالْفَاظِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعَانِي هِيَ الْبَلاَغَةُ. (...) وَأَمَّا صِحَّةُ الْمَعَانِي فَتَكُونُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إيضَاحُ تَفْسِيرِهَا حَتَّى لاَ تَكُونَ مُشْكِلَةً وَلاَ مُجْمَلَةً. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ تَقْسِيمِهَا حَتَّى لاَ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَلاَ يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: صِحَّةُ مُقَابَلاَتِهَا. وَالْمُقَابَلَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُقَابَلَةُ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُهُ وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَصِيرُ مُتَشَاكِلَةً. وَالثَّانِي مُقَابَلَتُهُ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُقَابَلَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُقَابَلَةِ إلا أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: الْمُوَافَقَةُ فِي الائْتِلاَفِ وَالْمُضَادَّةُ مَعَ الاخْتِلاَفِ. فَأَمَّا فَصَاحَةُ الالْفَاظِ فَتَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مُجَانَبَةُ الْغَرِيبِ الْوَحْشِيِّ حَتَّى لاَ يَمُجَّهُ سَمْعٌ وَلاَ يَنْفِرُ مِنْهُ طَبْعٌ. وَالثَّانِي: تَنَكُّبُ اللَّفْظِ الْمُسْتَبْذَلِ، وَالْعُدُولُ عَنْ الْكَلاَمِ الْمُسْتَرْذَلِ، حَتَّى لاَ يَسْتَسْقِطَهُ خَاصِّيٌّ وَلاَ يَنْبُوَ عَنْ فَهْمِهِ عَامِّيٌّ. (...) وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الالْفَاظِ كَالْقَوَالِبِ لِمَعَانِيهَا فَلاَ تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلاَ تَنْقُصُ عَنْهَا. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، فِي وَصِيَّتِهِ فِي الْبَلاَغَةِ: إذَا لَمْ تَجِدْ اللَّفْظَةَ وَاقِعَةً مَوْقِعَهَا، وَلاَ صَائِرَةً إلَى مُسْتَقَرِّهَا، وَلاَ حَالَّةً فِي مَرْكَزِهَا، بَلْ وَجَدْتهَا قَلِقَةً فِي مَكَانِهَا، نَافِرَةً عَنْ مَوْضِعِهَا، فَلاَ تُكْرِهُهَا عَلَى الْقَرَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّك إنْ لَمْ تَتَعَاطَ قَرِيضَ الشِّعْرِ الْمَوْزُونِ، وَلَمْ تَتَكَلَّفْ اخْتِيَارَ الْكَلاَمِ الْمَنْثُورِ، لَمْ يَعِبْك بِتَرْكِ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَإِذَا أَنْتَ تَكَلَّفْتَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ حَاذِقًا فِيهِمَا عَابَك مَنْ أَنْتَ أَقَلُّ عَيْبًا مِنْهُ، وَأَزْرَى عَلَيْك مَنْ أَنْتَ فَوْقَهُ. وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَلِيقُ بِبَعْضِ الالْفَاظِ إمَّا لِعُرْفٍ مُسْتَعْمَلٍ، أَوْ لِاتِّفَاقٍ مُسْتَحْسَنٍ، حَتَّى إذَا ذَكَرْت تِلْكَ الْمَعَانِيَ بَعْدَ تِلْكَ الالْفَاظِ كَانَتْ نَافِرَةً عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَفْصَحَ وَأَوْضَحَ لِاعْتِيَادِ مَا سِوَاهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لاَ يَكُونُ الْبَلِيغُ بَلِيغًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى كَلاَمُهُ أَسْبَقَ إلَى فَهْمِك مِنْ لَفْظِهِ إلَى سَمْعِك.[/font][/font][/size]