بسم الله الرحمن الرحيم
أسباب تشابه القرآن
مقدمة
لقد أنزل القرآن أي محتوى الرسالة المحمدية في مائة وأربعة عشر سورة. منها السور القصار ذوات الآيات القصار ومنها السور الطوال ذوات الآيات الطوال. فأنزلت السور القصار مبهمات المعنى لتجذب الناس إليها فيتفكروا في معانيها ويسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم منها. فينزل التفصيل تدريجياً إلى أن يتضح المعنى. ولهذا كانت السور القصار والطوال معناهن واحد لقوله تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (ألا تعبدوا إلا الله ...)(...) 1-123 هود وبمعنى آخر : إن معنى الآيات القصار المحكمات يشبه معنى السور الطوال. فمثلاً نجد معنى الآية (الحمد لله رب العالمين ) هو نفس معنى محتوى سورة الانعام التي ابتدئت بالحمد. وإن الفرق بينهما هو أن آية (الحمد لله رب العالمين) هي آية محكمة أي مجملة المعنى وسورة الأنعام مفصلة. وإذا فصلنا الآية (الحمد لله رب العالمين) بالأسئلة وبحثنا عن إجاباتها في سورة الأنعام أو أي سورة من السور المبتدئة بالحمد سنجد أن كل السورة ستدخل في معنى (الحمد لله رب العالمين). وكمثال لذلك إذا وضعنا آية الحمد لله رب العالمين كعنوان لمقال فلن نجد مقالاً يناسب العنوان أكثر من سورة الأنعام أو سورة الكهف أو سورة فاطر أو سورة سبأ. وهذا هو معنى قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني...) 23 الزمر . فالسور كلها متشابهة في المحتوى والمعنى وكلها تعضد وحدانية الله وتثنيها أي تؤكدها. أي أن كل سورة تحتوي على علوم الوحدانية كخلق الله لكل كبيرة وصغيرة في هذا الكون وملكيته لها وتدبير أمرها. كما تحتوي كل سورة على انقسام الناس إلى فريقين (مؤمن وكافر) أو(شاكر وكافر). كما تحتوي السور على ملكية الله لليوم الآخر وما سيحدث فيه لكل فريق. كما تشتمل على الأقدار خيرها وشرها. هذا بالاضافة إلى المنهج الذي هو عبارة عن القوانين والأحكام والتشريعات والحدود.
وبناءً على الآية 1 هود فإن معنى الآية (بسم الله الرحمن الرحيم ) يشبه معنى الآية (الحمد لله رب العالمين) ويشبه معنى الآية (الرحمن الرحيم) ويشبه معنى كل آيات الفاتحة الباقية وتفصيلهن. من هنا يبرز لنا السؤال التالي: ما هي أسباب تشابه القرآن؟ أحسب أن هنالك أسباب كثيرة يمكن الوصول إليها من خلال الإجابة عن السؤالين التاليين: لماذا لم ينزل الكتاب بآية محكمة واحدة وتفصيلها؟ لماذا جاء تفصيل كل واحدة منهن بعدد من السور ولم يأتي في سورة واحدة؟
السؤال الأول: لماذا لم ينزل الكتاب بآية محكمة واحدة وتفصيلها؟
لقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه أن الكتاب الأول الذي أنزل على جميع الرسل من قبله قد أنزل على حرف واحد أي بداية واحدة. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم صار يستزيد سيدنا جبريل أي يطلب منه الزيادة حتى وصل إلى سبعة أحرف. وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم سبب طلب الزياده بأنه تخفيف على أمته. والحديث هو: عن أُبيٍّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فأرسل إليَّ أن اقرأ على حرفين، فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فأرسل إلي أن اقرأه على سبعة أحرف). وقد كانت نتيجة البحث عن الأحرف السبعة هي أن السبعة أحرف هي آيات الفاتحة السبع. ولهذا أنزل القرآن بناءً على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم على سبع بدايات كل بداية نزل تفصيلها في عدد من السور.
السؤال الثاني: لماذا جاء تفصيل كل واحدة منهن بعدد من السور ولم يأتي في سورة واحدة؟
إذا تمعنا في آيات الفاتحة السبع نجد أن كلاً منهن بها معلومات تحتاج لتوضيح وكل معلومة فيها يوجد لها ما يشبهها داخل الكتاب. فمثلاً نجد في البسملة ثلاثة أسماء مختلفة هي الله والرحمن والرحيم. فأنزل الله عدداً من السور أوضحت أن الله هو اسم قد أطلقه المولى عز وجل على ذاته العليا ليكون اسماً علماً له لا يتسمى به غيره. هذه السور فيها توضيح لله وأفعاله وصفاته وملكه ولماذا البدء باسمه وهكذا. فأنزلت هذه المعلومات في عدد من السور. وكذلك الحال بالنسبة للاسم الرحمن مما جعلنا نعلم أن الرحمن هو اسم ثاني لذات الإله تماماً كالاسم الله. فجاءت السور التي بالاسم الرحمن مطابقة تماماً السور التي جاءت بالاسم الله في المعنى. والآيات التالية توضح ذلك حيث كان تنزيل الكتاب من الرحمن كما كان من الله. والآيات هي: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ) 5 الشعراء وقوله أيضاً: (ذلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) 176 البقرة. فلولا نزول عدد من السور بالاسم الرحمن فيها نفس صفات الاسم الله وأفعاله وخلقه و... لما علمنا أن الرحمن اسم جلالة ثاني.
كما جاء في البسملة الاسم الشفع (الرحمن الرحيم) ومن أجل أن نعلم أن الاسمين معاً يكونان اسم وحدانية واحد أنزل الله عدداً من السور توضح أن الاسم الشفع (الرحمن الرحيم) هو اسم للإله منزل القرآن لا فرق بينه وبين الأسماء الوتر (الرحمن) و(الله) لقوله تعالى
تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) 2 فصلت.. ولهذا يمكن أن نذكر الذات العليا باسمه الشفع كما نذكره بالاسم الوتر كما جاء في البسملة. ولولا ذلك العدد من السور لما علمنا أن الاسمان يكونان اسماً واحداً هو اسم وحدانية والدليل على ذلك قوله تعالى(وإلهكم إله واحد لا إلا هو الرحمن الرحيم) 163 البقرة
ثم أنزلت سور أخرى توضح لنا أن هنالك عدداً من الأسماء الشفع قد أنزل بها الكتاب كالآتي: ( تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ) 5 يس. ومحتوى سورة يس يوضح أن الاسم (العزيز الرحيم ) هو اسم لذات الإله أيضاً وبالتالي يمكن ذكر الاله به كما يذكر باسمه (الرحمن الرحيم). ونلاحظ أننا ما زلنا في الحرف الأول البسملة التي هي مقدمة لكل الأسماء التي في الكتاب. وبعد أن بينا لماذا كان هنالك عدد من السور بالاسمين الوتر وعدد من السور بالأسماء الشفع نأتي لصيغة البسملة كاملة حيث أنزل عدد من السور التي جاء فيها تنزيل الكتاب بأسماء أخرى للإله على صيغة البسملة مكونة من الاسم الوتر الله واسماء شفع كقوله تعالى: (تنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ) 1الزمر وقوله أيضاً: (تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ) 2 غافر. فلولا تلك السور التي جاء محتواها مطابقاً للسور التي أنزلت بالأسماء الوتر والأسماء الشفع والأسماء الثلاثية لما علمنا أن هنالك أسماء صفات للذات العليا مطابقة للبسملة ولهذا يمكن أن نذكر بها رب العباد كما نذكرة بالأسماء التي بالبسملة.
وإذا تمعنا في الآية (الحمد لله لرب العالمين) نجد أن السور المبتدئة بالحمد قد أوضحت لنا أن رب العالمين هي اسم مكانة المولى التي يدير منها شئون الكون كله. ولما كان اسم المكانة دلالة على الذات الإلهية كما تدل عليها أسماء الجلالة الوتر والشفع والثلاثية، جاء في عدد من السور تنزيل الكتاب من رب العالمين لقوله تعالى: (تنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ) 2 السجدة وقوله أيضاً: ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ) 80 الواقعة. ولولا تلك السور لما علمنا بتفاصيل اسم المكانة رب العالمين الذي له نفس الصفات والأفعال التي للأسماء الوتر والأسماء الشفع والثلاثية. فهي أسماء للمكانة التي يتبوؤها الإله الذي اسمه الله واسمه الرحمن واسمه الله الرحمن الرحيم. وبالتالي يمكن لنا أن نحمد ذات الإله باسمائه وبأسماء مكانته الأخرى (كملك الناس) و(كإله الناس) و(رب الفلق).
لقد جاء الحمد أيضاً للاسم الشفع (الرحمن الرحيم) وعليه أوضحت السور التي فصلت الحمد أن الحمد يمكن أن يكون للأسماء الشفع الأخرى كما كان الذكر بها. وفي بعض السور جاء التنزيل بصيغة الجمع التي هي صيغة تعظيم لذات الإله العليا كقوله تعالى: (إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) 2 يوسف.
أما آية مالك يوم الدين فقد فصلتها سور كثيره حيث تم فيها تبيان الأحداث المختلفة التي تحدث في ذلك اليوم وتبيان أسمائه المختلفة و ما سيحدث للمؤمنين وما سيحدث للكفار فيه. ولولا كثرة هذه السور لما علمنا أن الاسم (مالك يوم الدين) هو اسم مكانة الاله التي يدير بها ملكه يوم الدين. وهو الذي اسمه الله واسمه الرحمن واسمه الرحمن الرحيم واسمه الله الرحمن الرحيم وهو نفسه رب
العالمين الذي له ملكية الدنيا. إذاً أسماء الذات يذكر بها الإله ويحمد بها ويعبد بها ويستعان بها ويطلب منه الهدى بها. أما أسماء مكانتة في الدنيا والآخرة فلا يذكر بها وإنما يحمد بها ويستعان بها ويطلب منه الهدى بها.
ولا يفوتنا ذكر تفصيل آية الهدى (اهدنا الصراط المستقيم) حيث جاء تفصيلها في تسع وأربعين سورة. منها الهدى الذي أنزل للرسول أولاً ومنها الهدى الذي جاء للناس أجمعين ومنها الهدى الذي جاء للمؤمنين فقط.
إذاً كان طلب الرسول لزيادة تنزيل الأحرف هو السبب في تنزيل سبعة أحرف بدلاً عن حرف واحد تخفيفاً للأمة. وعليه اقتضت تلك الزيادة تنزيل عدد من السور لتفصيل كل حرف والله أعلم.
وأحسب أن تنزيل الرسالة للعالمين كافة يتطلب التنوع في الأحرف دون تغيير المعنى لوجود ألسنة مختلفة منهم الفرس والروم والعرب وغيرهم من الأجناس. فمنهم من يسهل عليه تكرار الحمد لله رب العالمين ومنهم من يسهل عليه تكرار البسملة ومنهم من يسهل عليه تكرار سبحان الله الذي هو لفظ العبادة وهكذا . وهو عكس الكتاب الأول الذي أنزل لأمة واحدة محددة والله أعلم مرة أخرى.
أسباب تشابه القرآن
1- تبيان أن للإله الواحد الأحد أسماء مختلفة. ولهذا كان الكتاب المنزل هو كتاب واحد ومنزل من جهة واحدة. فلو اختلفت معاني السور لصار كل اسم يخص ذاتاً مختلفة وأن هنالك عدداً من الكتب المنزلة.
2- تبيان أن فريق المؤمنين له أسماء مختلفة هي المتقين والمحسنين والمسلمين والأبرار و...الخ حيث أوضح الله أن القرآن تارة قد أنزل هدىً ورحمة للمتقين وتارة هدىً ورحمة للمؤمنين وتارة أخرى هدىً ورحمة للمسلمين. وقد جاء تعريف المتقين والمحسنين والمؤمنين واحداً لا اختلاف فيه في سور مختلفة. وكل هذه المسميات هي مسميات لفريق المؤمنين الشاكرين. كما أوضح الله أن القرآن لم ينزل للفاسقين ولا للمجرمين ولا للمنافقين ولا للمكذبين لأنهم فريق ميئوس منه. وكل هذه مسميات لفريق الكافرين. فلو اختلفت تلك الفئات لتناقض القرآن حيث ذكر أن الناس قسمين فقط إما مؤمن وإما كافر وفي آية اخرى إما شاكراً وإما كفوراً.
3- تبيان معجزة الإله اللغوية حيث أنزلت مائة وأربعة عشر سورة متشابهة في المعنى ولم يحدث ملل ولا رتابة في قراءتها بل كله حلاوة وطراوة كما وصفه الكافر الوليد بن المغيرة. والآية التالية تؤكد ذلك
قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) 109 الكهف
اللهم اغفر لي وتب علي إن أخطأت إنك أنت التواب الرحيم