بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم معنى وجعلناكم أمة وسطاً الذي ورد في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 143 البقرة في الحديث التالي: (عن أبي سعيد الخدري الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: «عَدْلاً» ). أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عرَّف الوسط بأنه العدل. كما عرَّفه العلماء بتعريف لا يخرج معناه من المعنى الذي أوضحه سيد المرسلين عليه السلام حيث عرَّفوا الوسطية بأنها:"العدل والاستقامة" و"الخيرية" و"التوسط بين الإفراط والتفريط" و"الغلو".
فطرأت على ذهني الأسئلة التالية: ما هي الأمة المقصودة في الآية 143 البقرة؟ ما معنى العدل في الاسلام؟ ما هي صلة العدل بالوسط والخيرية كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "الوسط: العدل"؟ ما الشيئان اللذان يمثلان الإفراط والتفريط والغلو فتوسطتهما الأمة العدل؟ ما هي حدود هذه الأمة؟ أحسب أن إجابات تلك الأسئلة ستقود لمعرفة المقصود بالأمة الوسط.
1- المقصود بالأمة في الآية 143 البقرة
إذا تمعنا في الآية نجدها مبتدئة بواو (وكذلك) مما يشير إلى أنها مرتبطة في المعنى بما ورد قبلها من الآيات. والآية التي سبقتها هي: {سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 142 البقرة التي فيها أخبر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هنالك مجموعة من الناس ستستهزأ بتحويل القبلة. ولهذا وصف الله تلك الجماعة بالسفهاء وأكد لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أي إلى الاستقامة بطاعته وطاعة رسوله. ومن ذلك يستنبط أن معنى الأمة المقصودة هي: (الجماعة التي هداها الله للاستقامة بطاعته وطاعة رسوله عليه السلام بأن صلوا معه تجاه قبلة (بيت الله الحرام) بدلاً عن قبلة بيت المقدس. هذا وقد أوضح العلماء أن السفهاء هم الكفار والمشركين من أهل الكتاب.
2- صفات أخرى للأمة الوسط
لقد خاطب الله نفس الأمة التي وصفها بأنها الأمة الوسط في الآيتين 35 محمد و139 آل عمران ووصفها بالعلو عندما ضعفوا ووهنوا بعد حرب أُحد فدعوا الكفار للسلم والهدنة وذاك بقوله تعالى: { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُم أَعْمَالَكُمْ} 35 محمد وبقوله أيضاً: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} 139 آل عمران. ثم خاطب الله نفس الجماعة ووصفها بالخيرية في قوله تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ} 110 آل عمران. إذاً وصفت الأمة التي اتبعت سيدنا محمد طاعة لله وطاعة لرسوله تارة بالوسطية وتارة بالعلو وتارة أخرى بالخيرية. أي اتصفت بكل صفات الوسطية التي وردت في تعريفات العلماء.
2- صلة الوسط بالعدل
يمكن توضيح صلة الوسط بالعدل برسم شكل هرمي قاعدته خط مستقيم (ق ك ش). فإذا وضعنا النقطة "ق" في قمة الهرم لتمثل نقطة إلتقاء الديانات والكتب السماوية ونرمز لها بالنقطة "ق". ووضعنا النقطة "م" في منتصف قاعدة الشكل الهرمي. ووضعت نقاط أخرى متفرقة على القاعده كالنقاط "ر"، "ف"، "ع"، "ص" و.... فإذا مددنا جميع النقاط التي تقع على القاعدة لتتصل بالنقطة ق وهي قمة الهرم، نجد أن النقطة م التي تقع في وسط القاعدة هي وحدها التي تصل النقطة ق في استقامة واعتدال. أما باقي النقاط صلتهم بالنقطة ق بميلان. إن هذه النتيجة لا تتغير مهما كان شكل القاعدة هرمي مربع أو معين أو دائري. ولهذا نجد علاقة قوية جداً بين الاعتدال (العدل) وبين الوسط. والرسم أدناه يؤكد ذلك
3- التطرف والغلو اللذان توسطتهما الأمة العدل
يمكن استنباط الطرفين المتطرفين اللذين توسطتهما أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الآيتين التاليتين:{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ}{ إنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ}6-7 البينة. حيث وصفت الآية 6 البيِّنة الكفار من أهل الكتاب والمشركين بأنهم شر البرية. ووصفت الآية 7 المؤمنين الذين آمنوا عملوا الصالحات بأنهم خير البرية. فالآيتان 6 و7 البيِّنة هما مقارنة بين فئتين متضادتين "خير البرية" و"شر البرية" بالرغم من أنهم يلتقون في حقيقة أنهم هل كتاب. ولكن إذا نظرنا إلى فئة "شر البرية" نجدها مكونه من فئتين: كفار ومشركين. فالكفار هم الذين كفروا بوجود الله إلهاً واحداً أحداً أي تطرفوا بتركهم الإيمان كلية بالرغم من نزول الكتاب إليهم وهم كفار قريش ومنافقوها. أما المشركين من أهل الكتاب فهم الذين غلو في دينهم لأنهم آمنوا بالله ولكنهم اتخذوا رسلهم وغيرهم أرباباً من دون الله كاليهود والنصارى. فوصف الله المشركين بالكفر أيضاً لأنهم كفروا بوحدانيته بالرغم من إيمانهم به وذلك في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 17 المائدة وفي قوله أيضاً:{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 30 -31 التوبة. وأن المشركين من أهل الكتاب الذين غلو في دينهم بإشراكهم رسلهم ورهبانهم بالله واتخذوهم أرباباً من دون الله، يمثلون الطرف الثاني. أما أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهي الأمة الوحيدة التي تشهد بأن رسولها هو عبدٌ لله ورسولٌ لله. فهي إذاً الأمة المعتدلة بإيمانها لا تميل عن الوحدانية وتعمل بها. ولهذا تقع في نقطة الوسط لذا قال الله تعالى في الأمة المستقيمة:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } 30 فصلت وبالتالي يشير قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" إلى أن الله قد هداكم أنتم يا محمد ومن اتبعك بمشيئته وجعلكم أمةً وسطاً أي مستقيمة بين هؤلاء السفهاء الذين لا يهتدون. إذاً توصلنا إلى أن معنى العدل هو الإعتدال وعدم الميل من حدود الله فالعدل والوسط كلمتان مترادفتان معناهما واحد.
4- صلة الوسط والعدل بالخيرية
لقد أوضحت الآية: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ }7 البينة فمعنى الخيرية هنا هو الإيمان وعمل الصالحات أي الطاعات. أي أنهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فالخيرية في الإسلام كلمة مرادفة في المعنى لكلمتي العدل والاستقامة. وبالتأكيد الذين استقاموا مع الله هم الأعلون وهم الذين سينالون أعلى الدرجات عنده.
5- حدود الأمة الوسط
إن المقصود بحدود الأمة الوسط هو معرفة الذين ينضون تحت لوائها بعد تحديد أوصافها. فهنالك مجموعة من أهل الكتب السماوية السابقة تنطبق عليهم نفس الأوصاف التي تنطبق على الأمة الوسط لما ورد في قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ} 199 آل عمران الذي أوضح معناه ابن كثير بقوله: (هؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء أن كانوا هوداً أو نصارى. وهذا المعنى يعضده قول الله تعالى في سورة القصص: {ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}{ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}{وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ} 52-55 القصص وإذا تمعنا أيضاً في الآية: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 62 البقرة وفي قوله تعالى:{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} {يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ} 113-114 آل عمران. إذاً نجد أن حدود الأمة الوسط المعتدلة الخيرة تبدأ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من الأمة العربية وتنتهي بالذين آمنوا معه من كل الأديان الأخرى واتبعوه وعملوا الصالحات. وهذا يعني أن كل من قال لا إله إلا الله فقط أو قال لا إله إلا الله وعمل ببعض الصالحات وترك بعضها لا ينضوي تحت لواء الأمة الوسط التي ستدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب والله أعلم. لقوله تعالى:{ وَٱلْعَصْرِ }{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ }{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ }1-3 العصر فالذين استثناهم الله من الخسر هم الخيرين المعتدلين بطاعة الله ورسوله طاعة كاملة وغير منقوصة والله أعلم.