[rtl]لقد أصبح الإنسان المعاصر يعي ما ينطوي عليه الزمان من قيمة عظيمة ومن ثم وجوب استغلاله الاستغلال الأمثل حسب تصوره لأمثليته فيستدر بواسطته الخير الكثير والمال الوفير، كما صنف بعضهم الأمم بحسب نظرتها للزمان ، فالأمة التي تحترم دقات الساعة وعقربا مسيرة الزمان داخل دائرتها يعتبر إنسانها راقيا ومتقدما ، ورائدا يحق له أن يسوس الإنسان الآخر الذي لا يعير للوقت كبير اهتمام إن لم يكن يهتم به اطلاقا ، وإيمانا منها ـ الأمة المحترمة للوقت ـ بترسيخ هذا المعيار وضعت ساعات كبيرة في الساحات العامة للمدن الكبرى على وجه الخصوص ، عالية بادية بأرقامها كبيرة حيث يراها كل من مر بتلك الساحة أو بالقرب منها ، ومؤشرا لكل من رغب في أن يضبط ساعته اليدوية ، يكفيه أن يرفع بصره نحوها وينظر إليها ويعدل من ساعته دون أن يشك في أي من الساعتين هي مضبوطة فالساعة العامة تحظى بالمصداقية باتفاق الجميع ، لأن الذين صمموها على دراية كبيرة بصنع الساعات وعلى علم كبير بقيمة الزمان وأثره في تقدم الشعوب وتخلفها ،بل من الساعات ما تُضبط على دقاتها مواقيت شعوب أخرى بدول أخرى ! كساعة بيغ بينغ البريطانية الشهيرة ، والتي ضبطت على خط كرينويتش.[/rtl]
[rtl]ونحن كذلك نتوفر بمدننا على بعض من هاته الساعات تركها الاستعمار الأجنبي معلقة على بروج شيدت خصيصا لها ، حتى أضحت علامات ممزة لتلك الساحات تعقد عندها اللقاءات وتضرب إزاءها المواعيد ، فنقول: نلتقي في الساحة التي بها الساعة.أو ساحة الساعة. وتجدني قرب الساعة ..[/rtl]
[rtl]لكني أرى أن هذا التدبيرـ وضع الساعات بالأماكن العامة ـ ناقص على غرار الكثير من منجزات الإنسان التي غالبا ما تعاني من نقص يستوجب التدارك في حينه أو بعد مدة قد تطول ، بسبب قصر نظره ، حيث إن الساعات الموضوعة بساحات المدن الكبرى بدول العالم اليوم تبدو أنها تفتقر إلى الحكمة ،فهي تشير إلى الزمان في إطلاقه ، بالثانية والدقيقة وأجزاء الثانية محذرة الناس من مغبة ضياع الوقت ولسان حالها يقول الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، وخوفا من أن يقطع الوقت أوصال الناس ويجعلهم إربا إربا خاصة بالدول الصناعية التي تكثر بها الشركات العملاقة العابرة للقارات والتي تراهن يوميا على الجديد في السلع والخدمات ، وتتنافس في ما بينها وبضراوة على الأسواق وعلى الربح الوفير والسبق إلى جيوب الزبناء الحاليين والمفترضين . أصبح الناس زمانيا يلهثون جريا ويظلون يجرون وراء استغلال الوقت أكثر وأكثر وبشكل مكثف إلى أن أصبحوا يصلون ليلهم بنهارهم في شغل متواصل لا يكاد ينتهي وفي خوف دائم من أن ينصرف عنهم الوقت أو يفوتهم .مما ترتب عنه نسيان الإنسان نفسه وإهماله للكثير من حاجاته الروحية ، بل ونسيان رعاية أقرب الناس إليه بالحدب والحنو والمداعبة ،فالرجل في بعض الدول الصناعية المتقدمة لا يحظى برؤية أبنائه والجلوس إليهم والإطلاع على أحوالهم والأنس معهم إلا في يوم الأحد، يوم العطلة الأسبوعية وأحيانا في بعض المناسبات أو الأعياد وهي قليلة طبعا إن تسنى له الإحتفاء بها ولم يمنعه شغله عن ذلك وأمِن تقريع مطارق عقارب الساعة ووخز الزمان الإداري له.[/rtl]
[rtl]نعم لقد أهمل الإنسان المعاصر اليوم أمورا كثيرة تحتاج منه إلى الالتفات والرعاية وأغلبها نفسي عاطفي وعلائقي حميمي مما انعكس سلبا عليه ، فأصبح يضيق ذرعا بحياته هاته رغم مكاسبه المادية الوفيرة ، يعاني من الاضطراب النفسي الذي يصاحبه الاكتئاب والأرق الدائم مما يلجئه إلى تناول الأقراص المهدئة والمنومة علَّ وعسى أن يجد الراحة ، ومنهم من يضع حدا نهائيا لهذا الشقاء الدائم واللهاث الذي لا ينقطع ، فيلقي بنفسه من مكان شاهق أو يتجرع سما لينعم بالراحة الأبدية كما يظن .[/rtl]
[rtl]كان من الممكن أن يسترشد الإنسان بالحكمة في تعامله مع الزمان فيضع شعارا بجانب الساعات العامة كقولنا ‘‘ لك الساعة التي أنت فيها ’’ ليعلم كل متطلع لهذه الساعة ، أن الزمان هو في حقيقته ساعات وساعات وليس ساعة واحدة وكل ساعة هي مخصوصة بالحالة التي يعيشها الشخص المفرد في حينه ، وقد تمتد حالته لساعة أو ليوم أو لأيام أو أقل أو أكثر حسب وعائها الزمني والإحداثيات التي يعيشها ، بحيث يتماهى الزمان في الحالة والحدث ، لا أن تتماهى الحالة في الزمان كما هو مشاهد اليوم. فإذا كانت الحالة التي يعيشها الشخص تتطلب الجد والعمل والكدح والإسراع ، فعليه بذلك ولا يدخر وسعا في تحقيق ذلك وأدائه على أحسن وجه مع تتحري الدقة والجودة وجمال الصنعة والتقيد بدقات الساعة بالدقيقة والثانية ، ولو امتد العمل لساعات أو لأيام ؛ وإن كانت الحالة تقتضي الاستجمام والراحة واللهو واللعب والترفيه فعليه أن يلهو ويلعب ويغتنم من الوقت كل دقيقة وكل ثانية في الترويح على نفسه ، ولا يتوجس شيئا كما يفعل الكثير من الناس في مجتمعنا ، يقحمون المأساة في الملهاة ويقولون ‘‘ الله يخرج هذا الضحك على خير ’’، أما إذا كانت الحالة تقتضي اليقظة والاحتراس فليقم الشخص بالمهمة بحسب ما تقتضيه بدون تراخ وهكذا في جميع الحالات التي يعيشها الإنسان كبيرا وصغيرا ذكرا أو أنثى وبحسب العمل الذي يقوم به ، فلا يختلط الأمر على الناس ويلتبس الجد عليهم بالهزل والعمل بالكسل والاستجمام بالكدح . فإذا تم هذا التمييز بين ساعة وساعة يمكن أن نتوجه إلى أعمالنا وكلنا حماسة ورغبة في أداء الواجب ، كما نغادر مقراتنا ونحن سعداء حيث قضينا ساعاتنا بما تقتضيه من الجد والحزم، ونرتاح في الوقت الذي تقتضيه ساعة الراحة ونحن راضون عن أنفسنا ، نلهوا ونحن غير خائفين من أن ينقلب سرورنا إلى ضده ، لأننا نتعامل مع الزمان بحسب الساعة التي نحن فيها. وكم كان امرؤ القيس حكيما عندما بلغه مقتل أبيه ، وعليه واجب أخذ الثأر من قاتليه والحالة التي كان عليها أنه كان يعاقر الخمر مع ندمائه فقال قولته الشهيرة ‘‘ اليوم خمر وغدا أمر ’’[/rtl]
[rtl]فالمشكل إذن بالنسبة للإنسان المعاصر وخاصة في الدول المتقدمة أنه يتعامل مع الزمان في إطلاقه ، فهيمن عليه هاجس مغبة ضياعه أو انفلاته ،وأصبح الزمان بالنسبة إليه مثل سيف أقليدس مسلط علي رقبته في كل حين،أو مثل جلاد غليظ القلب يحمل كرباجا يحذوه به في البيت وفي الشارع ، في يقظته وفي ساعة هجوعه، فترى الإنسان يسير خائفا مفزوعا أقرب إلى الهرولة منه إلى السير القصد الذي أمر به الإسلام مستعينا بالوسائط السريعة كالسيارات السريعة والقطارات السريعة والطرق السيارة وسبل نقل الأموال السريعة والتكنولوجيا السريعة وأصبحت السرعة علامة مميزة لكل ما هو عصري ، يجذر بإنسان اليوم اقتناء كل ما هو سريع ليلحق بالركب ! وإلا سيُنعت بالمتخلف الذي يعيش خارج العصر ، حتى إن من بين علماء الاجتماع من ذهب في تمييزه بين الإنسان الحضاري والإنسان غير الحضاري أن الإنسان الحضاري تراه سريع المشي عكس الإنسان غير المتحضرالبطيء الخطى . لكنهم أغفلوا أن يضيفوا وسريع الأكل وسريع اللبس وسريع الاستحمام وسريع الكسب وسريع الإنفاق وسريع الحب وسريع البغض ، وسريع الزواج وسريع الطلاق وسريع الانضباط وسريع الانفلات ، وسريع اشعال الحروب وسريع ايقافها عندما يشاء وسريع اللعب بالأسواق المالية والعملات يرفعها في اليوم ألف مرة ويخفضها ألفا أخرى !! وسريع البناء وسريع الهدم .وسريع.وسريع....إنه الإنسان الذي أسرع في كل شيء حتى في وضع حد لحياته ! [/rtl]
[rtl]حقا إنه كائن غريب السرعة ![/rtl]
[rtl] ذ: حسن ستيتو[/rtl]