قال تعالى: ‘‘ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ’’ حيث طلب إبليس من الله عز وجل أن يُمد في عمره إلى أن يٌبعث جميع ولَد آدم عليه السلام أي إلى أن يولدوا جميعا ولا يبقى فيهم من أحد كُتب عليه الوجود في الأرض ، وهو يعلم(إبليس) أن جميع نسل آدم مخلوق على شاكلة أبيهم ، فالخلق الأول لآدم هو خلق للناس أجمعين من أولهم إلى آخرهم فيما يستقبل من الزمان. كل فرد سيولد في زمن ومكان معين وهو ما كُنِّيَ عنه بالبعث ، الذي سيأتي بعد الخلق الأول في الأزل ؛ قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " يعني أنه تعالى خلقنا من قبل أن نوجد على ظهر البسيطة ، خَلقنا بخلق آدم عليه السلام " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " باعتباره هو الذات الجامعة للخلق البشري ، فكلنا على شاكلة آدم عليه السلام ومنحشرون في هذه الذات لذلك قال تعالى : " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بصيغة الجمع ، إذن فلقد خلَقنا الله تعالى جميعا وصورنا ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم ، و من ثَم فالملائكة كانوا يرون في هذا الخلق الجديد ( آدم ) أنه ليس فردا بل متعددا أي أنه مجموعات بشرية ستتعاقب على سكنى الأرض على مدار أعمار وأعمار ودهور وحقب لا يعلمها إلا الله سبحانه عالم الغيب والشهادة ؛ كذلك لمَا أُمر الله تعالى إبليس بالسجود رأى هذا الأخير في آدم الخلق البشري كله من أوله إلى آخره ، فلما سجد الملائكة سجدوا لجميع الخلق من بني آدم وإن كانوا قد أخطأوا التقدير حيث ظنوا أن هذا الخلق سيفسدون في الأرض ولم يروا فيهم إلا الجانب السلبي، لكن لما أطلعهم الله على ما سيتمتع به هذا الكائن من قدرات عظيمة جدا مستمدة من إمداد الله له من بعض قدرته ليكون خليفة في الأرض وسيكون له من القدرات الخارقة مالا حصر له ولا عد وأنه سيقوم بما لا يستطيعونه ، عندئذ أسلموا القياد لله تعالى وسبحوه واستغفروه وسجدوا تقديرا واحتراما لقدرة الله في هذا المخلوق الخارق .. أما إبليس فلقد رأى هو الآخر مثل ما رأت الملائكة لكنه وعلم ما علمته لكنه تملكه الحسد وظن أن هذا الإمتياز الذي امتاز به آدم هو في حقيقته حيف طاله . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . وكان ينبغي في اعتقاده أن يكون هذا التمييز والتفضيل من حقه باعتباره خلق من نار وهي مادة لطيفة ،والإنسان مخلوق من تراب وهو مادة ثخينة ووضيعة .
بحسب ما ذُكر آنفا يكون سجود الملائكة لآدم في حقيقته سجود لآدم ولنسل آدم أجمعين في الخلق الأول . أي الخلق المفترض الحقيقي الأول والممثل في آدم ولما رفض إبليس السجود فإنما رفض السجود لآدم ولجميع أبناء آدم في الخَلق الأول المفترض الحقيقي ، وعليه فإبليس لما طلب الإنظار والإمداد في العمر إلى يوم البعث ، أي طلب أن يطيل الله في عمره إلى اليوم الذي يبعث فيه جميع أبناء آدم من أولهم إلى آخرهم أي إلى أن يوجد على الأرض آخر ولد من ولْد آدم و يبعث من العالم الحقيقي المفترض إلى العالم الحقيقي الوجودي المجسم يعني أن يوجد على الأرض .
وعليه فعداوة إبليس ثابتة للإنسان ، مجموع الإنسان منذ أن كان في الأزل الأول . وينتظر بعثتك وولادتك وبيده منخاس ، وأول ما يخرج الإنسان من بطن أمه يوخزه بمنخاسه فيصرخ الوليد صرخته الأولى ، وتلكم هي أول تجربة للإنسان مع إبليس وقبيله ، ينتظر مجيئك ليوخزك وليُغويك ، ولينزغك ، وليعِدك غرورا ، وينسيك تقواك ، ويقعد لك صراطك المستقيم ، ويمنيك ويخوفك الفقر فلا تنفق ، ويزين لك معصيتك فتقبل عليها ،ويكسلك عن العبادة ، ويستفزك و... فهو لن يترك وسيلة من الوسائل ليضلك بها إلا استغلها على أحسن ما يكون الاستغلال والمكر والخديعة ، لقد أعلن عليك الحرب وتعهد بأن يأتيك من على يمينك وعلى شمالك ومن أمامك ومن خلفك ومن تحتك ، سيأتيك من جميع الجهات ، ذلك لأن الإنسان سيحيط نفسه في الأرض بأشياء كثيرة مما سيصنع ويبتكر لنفسه مما هو مادي وغير مادي من صنائع وأدوات وحاجيات و...ومن فلسفات وأفكار ونظم، وكل شيء صنعه الإنسان سيجتهد فيه الشيطان ليكون له حظا فيه ، يعني أنه سيحاول أن يجد لنفسه منفذا ينفذ منه إليك ، من ذلك الشيء، مهما بدا لك تافها أو حصينا أو مستبعدا ، ولقد سبق له أن كذَب على أبوينا آدم وحواء عندما قال لهما : " هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يفنى" بل "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" .
والمُلك كما نعلم لا يكون إلا بمملكة لها حدود وفيها رعايا وأنظمة وحكومات وممتلكات وتراتبية اجتماعية وحاجيات وكماليات ...إلخ وكان هدف إبليس من ذلك هو ليُنزل الإنسان من السماء إلى الأرض ليكثّر من الأشياء والممتلكات التي سيصنعها وتكون له منفدا يمارس من خلاله الغواية وطريقا للانتقام والتشفي في خصمه ، أما لماذا لا يأتي الشيطان الإنسان من فوق فلأن العلا لله وحده والتمكين للإنسان هو في الأرض فحسب وليس له حق التصرف فيما علا فوق الأرض من السماوات ، والمقصود بالأرض هذا الجرم الذي يعيش فيه الإنسان ويدخل ضمنه الغلاف الجوي لأنه غلافها يحوطها ويحفظها ويدور بدورانها ، أما ماعدا ذلك فليس في مقدور الإنسان تملكه أو التصرف فيه ولا النفاد منه إلا بسلطان.
لقد أعلن إبليس اللعين عليك الحرب أيها الإنسان فردا فردا ، وواحدا واحدا ، ذكرا وأنثى منذ أن خلقك الله في الأزل في العالم الحقيقي الافتراضي ، وطلب البقاء حيا ينتظر خرجوك أي بعْثَكَ من صلب آبائك. لأنك آدمي من تراب وكنت أنت السبب في شقائه كما ظن ويظن.
قال تعالى محذرا بني آدم من الشيطان : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف الآية 26 فمن أطاع إبليس من البشر فلسوف ينزع عنه لباسه وسيُري البشر سوءات بعضهم البعض ، وسيجعل الضالين من الخلق يستمرؤون ذلك، وبعد إيلافهم يجتهدون هم أنفسهم في نزع لباس بعضهم البعض بطرق شتى وتحت مسميات شتى وتحت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان مثل : ( آخر صيحة في عالم الموضة ـ آخر صرعة في مجال كذا ، آخر ما جاد به علم الفن ...وهلم جرا ) وطبعا سيستتبع ذلك نزع لباس التقوى، ويتعرى الإنسان من كل القيم والفضائل صغيرها وكبيرها ،وسيكشف الإنسان عن عورته من تلقاء نفسه وبدون حرج ، فترى الحفاة العراة يتطاولون في البنيان ، والتطاول الوارد في الحديث الصحيح المشهور ، ينبئ على أنهم ـ أي العراة ـ راضون بما يفعلون ومفاخرون به ، وتعريهم ليس من حاجة أوفقر أوخصاص وإنما من رغبة في إظهار التطاول على القيم والخروج عن المألوف ولإظهار جماليات الجسم الذي سيصبح هو الآخر متشيّئا ينظر إليه الإنسان كشيء مادي لا يختلف عن باقي الأشياء الأخرى المعروضة في واجهات المتاجر ويخضع لمنطقها أي منطق الأخذ والعطاء والبيع والشراء والإيجار و.. فلا قدسية له تحفظه من أي فعل يشاؤه الإنسان به ،وسيتقدم العلم المادي إلى الحد الذي لا يستطيع معه الإنسان إخفاء جسمه تحت ملابس معينة فالعدسات المتطورة تظهر الأجسام عارية لكل من أراد ذلك بحكم التقدم في مجال صناعة الزجاج وتوظيف أنواع الأشعة الكاشفة تحت الحمراء وفوق البنفسجية وما إليها فلا يمكن للباس أن يحمي صاحبه من نظر المتطفلين ممن يتوفرون على مثل هذه الوسائط ، التي ستصبح في مكنة أي إنسان أراد اقتناءها ، فهي من الأشياء المتيسرة عندئذ كما تيسر الهاتف النقال اليوم للناس جميعا ، كما أن طب التجميل سيشهد تقدما كبيرا يمكّن الإنسان من أن يغير من خلقه ويعدله بحسب رغبته وبحسب تصوره الجمالي لذاته ولذلك فهو سيطاول بهذا الشيء( الجسم الجميل في اعتقاده ) الناس في البنيان وبين مسالك البنايات الفخمة التي هي الأخرى ستشهد تطورا كبيرا جدا وستتغير معالم المدن وستصبح أكثر تقدما ونظافة ، وأزقتها ودروبه وممراتها مبلطة على أحسن ما يكون التبليط ، ليس بها ما يؤذي الرِجل من حجر أو زجاج أو شوك ونحوه ، بحيث تغري الإنسان بأن يمشي حافيا عليها ، ولسوف يفعل !
وإننا نرى المحاولات الأولى من إبليس في تعرية الإنسان فكان الكشف للسيقان والتعرية للأفخاذ والتعرية للصدور والأذرع والبطون إلى السراويل الشفافة اللاصقة إلى لباس المسابح والشواطئ وهو(يوطئ) للتعري التام في بعض الأماكن النائية ثم لتكون أماكن قريبة ثم لتصير عمومية في الشوارع والأزقة وفي الأخير تعم الفاحشة جهارا نهارا ويتعرى الإنسان من القيم جميعها ، وآخرها أن يتعرى من لباس التقوى ؛ وتسود السلوكات الشيطانية وتنتقض عرى الدين عُروة عروة حتى لا يبقى منها شيء عندئذ يرفع الله تعالى إليه كتابه المبين لأنه لم يبق من أحد يتلوه ولا من أحد سيعمل به فلقد اتخذ العالم لنفسه لغة جديدة يتكلم بها جميع الناس وهاهي لغة الشات ظهرت للوجود هذه اللغة الجديدة هي من صنع ابليس وحلفائه من قوى الظلام بدعوى عولمة اللغة والفكر والأذواق و..، سيهجر الخلق القرآن الكريم هجرانا لا عودة من بعده ، لأن لغتهم يومئذ تختلف عن لغة القرآن التي أصبحت من اللغات البائدة في عُرفهم وسيأفكون فيه إفكا عظيما ، فكان لزاما أن يرفعه الله إليه لأن الناس أصبحوا ذوي قلوب لا يفقهون بها القرآن وآذان لا يسمعون بها عظاته وبلا بصائر يتبينون بها حقائقه وحِكمه ، وبدل ذلك سيتنزل العمَه يمد الله به البشر في طغيانهم ويزيدهم ضلالة على ضلالتهم فتكثر الفتن وتتلاحق المصائب على الإنسان كقطع الليل المظلم من فعل أيديهم ، ولأنهم على ضلال سيصبح نهارهم ليلا وليلهم ليلا مُدْلهِما " ظلمات بعضها فوق بعض ، حتى إذا وضع أحدهم يده لا يكاد " يعرف في أي موطن قد وضعها هل في الخير أم في الشر، وهل ما يقوم به صواب أم خطأ هل فيه منفعة له أم فيه مفسدة ومضرة ، سيختلط الأمر على الناسلأنه لايس من نور يهتدون به ولا عماء يسترشدون بهم . وهم يومئذ كالأنعام بل هم أضل .
سيستقوي الشيطان على الإنسان ويضعه داخل شرنقة شيطانية يصعب عليه الخروج منها ، " يقول الإنسان يومئذ "أين المفر" سورة القيامة. وطبعا لا مفر.
سيصبح الناس في ضلال بعيد وسيحيون حياة لا تطاق والشياطين يومئذ أقوياء يأزون البشر أزّا ،وسيستكثر الشياطين من الإنس ويستكثر الإنس من الشياطين ،ويتطاول الإنسان في الأرض ويعتد بنفسه وينسب لذاته القوة المطلقة ولا يشكر ربه ،فهو في ضلال بعيد ، لذلك سيسحب الله تعالى رحمته من على الأرض فتدور على عكس دورانها وتتراءى الشمس للناس وقد طلعت من المغرب إيذانا بأن كل الموازين سوف تنقلب رأسا على عقب ! وتِلكم والله من أكبر الفتن ثم يسحب الله تعالى ضياءه بعد أن سحب نوره ، فيطمس الشمس ويزيل ما بها من سنن وفوائد للناس فيختل توازنها وتتفجر من الداخل وتصبح كبيرة جدا تبتلع جميع الأجرام القريبة إليها ومنها القمر الذي سيصح في بطنها ( وجمع الشمس والقمر) القيامة وتقترب من الأرض فتتزلزل الأخيرة زلزالا عظيما بحكم الجاذبية القوية للشمس يخرج من جوفها كل معدن يتأثر بالمغناطيس الشمسي ويتطاير في السماء وتُهد الجبال هدا وتصبح هباء منبثا وتتفجر البحار ويتبعثر كل شيء، ذلك هو يوم القيامة.
القيامة من فعل قام يقوم ، والقيام يكون بعد سبات وهدوء ووداعة واطمئنان ، فما الذي جعل الأرض تتفجر وتضطرب ، وتمور سماؤها وتُسَجَّر بحارها ويعم البلاء إلى درجة أن تذهل كل مرضعة عما أرضعت،وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ، ألم يكن البشر ودعين مطمئنين يعيشون حياتهم كما عاشوها قبل طاعتهم لإبليس، نعم كانوا كذلك ولكنهم لم يستمروا على الطريقة واختاروا لأنفسهم طريقة إبليسية شيطانية موصوفة بالطغيان والكفر والجحود والإعتداد بالنفس ومضاهاة خلق الله وعدم الشكر على النعم فكثر الفساد والإفساد والظلم والهرج والمرج والقتل بلا سبب وحروب لا يخمد أوارها ، فكان من اللازم اللازب إيقاف كل فضل من الله على مثل هؤلاء البشر . ومن لا يشكر ولا يعترف بفضل الله عليه وجب أن يذوق مرارة فقدان النعم ، فكان حبس القطْر عن الأرض ليذوق الإنسان مرارة الجفاف وندرة المياه ، ثم كان رفع العِلم والحكمة ليذوق الإنسان مرارة الضلالة العمياء والجهالة الجهلاء وليذيق الناسُ بعضهم بأس بعض وينعدم الأمن والسكينة ويصبحان مطلبان عزيزا المنال ،لأن البشر أطاعوا إبليس الذي وفّى بقسمه ، قال تعالى مخبرا عن إبليس وهو يتوعد أبناء آدم : "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " وفي آية أخرى أخبرنا عز وجل بما عزم عليه إبليس قال تعالى : " أرأيت هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا " وها قد قامت القيامة ولقد أقامها الإنسان بنفسه وكان سببا في قيامها لأنه أطاع إبليس ورضي باحتكانه له لذلك قبض الله إليه القليل من الصالحين من عباده المتبقين على الأرض، وترك الفجار أتباع الشيطان يموج بعضهم في بعض وزاد عليهم أن عجل عز وجل بخروج يأجوج ومأجوج بعد أن يأمر سبحانه السد الذي بناه قارون وحبسهم فيه فينهار وينضاف الأشرار إلى الأشرار، فلم يعد يوجد على ظهر البسيطة من يعبد الله ويستغفره ويتوب إليه ، ووقع القول عليهم جميعا حيث لا يلد الإنسان إلا فاجرا كفارا ويتجدد دعاء نوح عليه السلام لكن بصورة أكثر حدة : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" لكن في هذه المرحلة ليس من سبيل لإعادة الخلق من جديد ولا أمل في خميرة صالحة لنسل صالح في المستقبل لذلك كانت القيامة،إنه الوقت المعلوم الذي أنظر الله إبليس إليه .قال تعالى:" فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " ولقد عجّل به الإنسان بكفره للنعم وبعدم فعله للصالحات وإتِباعه لإبليس . لذلك أوقف الله نعمه الظاهرة والباطنة عن خلقه . فلو شكر الإنسان أنعُم الله عليه لأدام الله عليه نعمه بل ويزيده منها وفي الأثر " أديموا النعم بالشكر " والله تعالى خلق النار هامدة خامدة إلى أن يأتي وقت تسعيرها وتأجيج نارها والإنسان هو الذي سيوقدها بأفعاله ويسعرها " وما ربك بظلام للعبيد. قال تعالى :" وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها صالحون" صدق الله العظيم.
تم ، وبالله التوفيق .والله أعلم.