قصة قصيـــرة
العـــــــــــــــــــراف
لم يكن ينوي المرور بهذا الطريق ، فلشدّ ما يتضايق من الزحام وكثرة الناس ، خاصة بالطرقات التي يفترش فيها الباعة المتجولون سلعهم ويعرضونها بحيث لا يتركون للمارة إلا حيزا ضيقا يمرون منه ، وهذه إحداها ليس من ممر يعبر منه الناس إلا ممرا يعصر فيه بعضهم بعضا ،يتشاتمون ويمتعظون وفي نفس الوقت يتآزرون ، تنادي النساء على صغارها الذين يتخلفون عنهن خوفا من أن يضلوا ، الكل يحذر من أن تمتد يد غادرة إلى ممتلكاتهم لتسلبها منهم ، انتباههم إلى جيوبهم وعيونهم على السلع المعروضة ومواضع الأقدام ، على كل حال فصاحبنا اليوم على أحسن حال ورائق المزاج لم يتأفف من كل هذا بعد أن تلقى ردا بالإيجاب من إحدى الشركات التي فتحت لها فرعا بالمدينة لحياكة الأثواب المعد ة للتصدير .
ستنكشف الغمة التي جثمت على صدره مذ أفلست الشركة السابقة التي كان يعمل بها جراء الأزمة المالية العالمية التي عصفت بها كما عصفت بغيرها من الشركات الصغيرة وبكثير من بلدان العالم ذات الاقتصاد الهش. نعم ستفرج كربته وكربة أخيه الذي يأويه وزوجته وبنته الصغيرة .
خرج من الزحام وعبر الطريق إلى حيث سيستقل الحافلة إلى البيت ( بيت أخيه )، وهو واقف يترقب إذا برجل ممن يدعون العرافة يلبس لباسا مرقعا وحول عنقه سبحة كبيرة نظمت حباتها كالرقوق النئ في خيط غليظ ، وقف ـ العراف ـ أمامه يهمهم ويغمغم ويدمدم وبين الفينة والأخرى ينطق بصوت كالصارخ من ألم عضة كلب عقور ( حي ـ حي ) ويرفع عينيه إلى السماء كالممسوس ثم يصرخ ( حي ـ حي ) .
لم يلفت إليه الرجل وحاول صرفه بتجاهله إياه ، لكن ( العراف ) أبى إلا أن يمسك بيده ليقرأ حظه ولو لم يتصدق عليه بشيء، وحتى يصرفه بدون مشاكسات وضع قطعة الشكلاطة التي اشتراها هدية لابنته في جيبه ، ثم بسط يده اليمنى قائلا في سريرته :" لسوف يقرأها هذا المعتوه بسرعة ويذهب لحال سبيله ، وكفى الله المؤمنين القتال "، صار العراف يحدق في صفحة يده وهو يغمغم ويتمتم ويدمدم ، وإذا بصوته يعلوا فجأة وهو يردد: " وي ! وي ! وحدوه . متعجبا ومستنكرا في الآن نفسه ، ويحرك رأسه بشكل دائري علامة على هول ما يرى ، قال : " إني أرى يدك يا ولدي ملطخة بالدماء ، وي ! وي ! . ينفث في زوره ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . أمر جلل سيحصل لك يا ولدي . عليك بالصبر والاحتساب . انصرف العراف وهو يردد: وي ، وي ، .. وحدوه ..
تبسم صاحبنا ساخرا وهو ينظر إلى كفه ويقول : " تبًّا لك من قارئ كف غبي ، إنك لا تعلم أنني سأشتغل عما قريب في الشركة الحديثة وسأشتري أضحية العيد الذي اقترب موعده وسأذبحها بنفسي وسأسلخها بيديّ هاتين عوض أخي الذي كان يذبح بدلي ويسلخ ،وستتلطخ طبعا هذه اليد الكسّيبة بالدماء الزكية الطاهرة "كاد أن يقبل يده ممتنا لولا أن الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويرقب بعضهم بعضا ، ففي موقف الحافلة ساعة الزحام لا مجال للرؤيا غير الوجوه الآدمية.
لما وصل إلى البيت أدار المفتاح ودخل الدار وبعد أن سلم وجلس ، نادى على ( منى ) ابنته الصغيرة وهو باسم وعيناه مشرقتان . أجلسها إلى جانبه وأدخل يده في جيبه ليخرج هديته لها التي انتظرتها طويلا ، فإذا بها تخرج ملطخة بالشكلاطة الذائبة ، قام قاصدا الحمام في انكفاء وهرولة تسبقه يده ، وهو يلعن العرافين والعرافات والعِرافة وما جاورها وما متَّ إليها بصلة ، ويلعن حتى المحطة التي وقف بها ليجد ذلك العراف المنحوس الذي كان سببا في إذابة هديته لابنته.
حسن ستيتو