الديموقراطية أولا أم الدمقرطة ؟
الديمقراطية في مفهومها العام تتمثل في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وأن يكون الحُكم للأغلبية مع سيادة أجواء الحريات المختلفة وحفظ الحقوق وأداء الواجبات والمساواة بين أطياف المجتمع وتفعيل القانون بدون محاباة ..
أما الدمقرطة فهي التنزيل العملي لمبادئ الديمقراطية وتجسيدها في أداء المؤسسات العمومية على وجه الخصوص، والديمقراطية والدمقرطة وجهان لعملة واحدة ،ولا يمكن لأحد الشقين أن يؤدي وظيفته في غياب الشق الآخر ، ومما نلاحظه في كثير من الدول المتعثرة أنها تنادي بالديمقراطية وتضع لها الدساتير وتؤطرها بنصوص قانونية و بمقولات حقوقية وتنشرها عبر وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وتبني صروحا من الأمل والرؤى الوردية في العاجل والآجل وتظن أنها بالفعل تسير على الدرب الصحيح وأنها قد أمسكت بالمفتاح السحري الذي يجعل منها أمة متقدمة وقوية وغنية ومحترمة ، لكننا عندما نبحث عن هذه المبادئ ونقارنها بحقيقة تنزيلها ومدى الالتزام بها ودرجة تفعيلها في المؤسسات العمومية لتلك الدول نجد أنها لازالت تسير على النمط القديم وأن الأمراض التي كانت مستشرية بمؤسساتها لا زالت متوطنة فيها ، إن لم نقل أنها قد ازدادت استفحالا، ظاهرة سافرة في تحد لكل المتغيرات، تسودها معايير الزبونية والبطء الإداري والتعقيدات الإجرائية في تصفية الملفات ، وإرغام المواطنين على أداء الرشاوى ، والبيروقراطية المقيتة ، وتأخر الموظفين المتعمد عن الالتحاق بمقرات أعمالهم ومغادرتهم لها قبل الوقت القانوني مع إهدار الوقت. إنها السلبيات التي لازالت شائعة في الإدارات العامة لكثير من الدول وخاصة دول العالم الثالث.
وإني لأتساءل عن السبب في هذا التعثر، والعلة التي جعلت الإنسان في مثل هذه البلاد لا يرغب في تطبيق مبادئ الديمقراطية ، هل يكمن السبب في اختياره الظرف الزماني غير المناسب لكون إنسان تلك الشعوب لا يزال غير مؤهل زمنيا لتطبيق مبادئ الديمقراطية ، أم أنهم أخطأوا في التقديم والتأخير، بمعنى هل أنهم قدموا ما يجب تأخيره وأخروا ما يجب تقديمه ؟ أي هل كان عليهم أن يقدموا الدمقرطة ـ إصلاح الإدارة ودمقرطتها ـ أولا ثم يأتون بعدها بالديمقراطية ، لأن الإدارات والمؤسسات العامة هي الأداة التي يتم بها نشر الديمقراطية وهي ركيزتها التي تستند عليا لكي تتجذر وتترسخ وتشيع بين الناس و هي التي تجعل الناس يلامسونها قبل أن يؤمنوا بها ، وبحسب هذا المعطى كان على مثل هذه الدول أن تنشر مفاهيم الديمقراطية في المؤسسات العمومية الإدارية أولا أي تمقرط الإدارات بتدريب موظفيها على كيفية التعامل بمقتضى شروط الديموقراطية والالتزام بمبادئها ، ثم بعد ذلك تطرح (الديمقراطية) بالشكل العام على مستوى البلد فتدخل بالتالي في نسيج ثقافته وعاداته وعلاقاته الاجتماعية ويكون الأساس قد وُضع ووضعت معه البنية التحتية لبناء مجتمع ديمقراطي ناهض، فيجد الإنسان الذي اتخذ الديمقراطية خيارا وبديلا ورفع شعارها معتقدا بجدواها ، يجد لها صدى في الحياة العملية وخاصة لما يلتجئ إلى إدارة تابعة للقطاع العام فيلمس مدى تغلغل هذه المبادئ في مكاتبها وأروقتها ومدى التزام الموظفين بهذه المبادئ.
عندئذ سيطمئن الإنسان بهذه البلدان إلى حسن اختياره ويلتزم بالمبادئ التي اختارها كبديل لما كان عليه الحال في السابق أيام الفوضى الإجتماعية والتسيب اللا مسؤول.
لكن نجد الكثير من البلدان قدمت خيار الديمقراطية على الدمقرطة فبنت الصرح مقلوبا ذلك أنها أهملت الموظف الذي سيطبق هذه المبادئ وينزلها على أرض الواقع ، وما دامت قد اختارت هذا الخيار عن وعي أم عن غير وعي ، فعليها أن تنتظر زمنا قد يطول إلى حين ذهاب الموظفين الحاليين الذين لم يتمقرطوا واستعصى عليهم التغيير و استصعبوا التكيف مع الظروف الجديدة ،أقول عليهم أن ينتظروا حتى يُحال هؤلاء على التقاعد ليخلفهم خلف نشأ في ظلال المناداة بالديمقراطية عبر المدرسة ووسائل الإعلام المختلفة ، طبعا إذا لم ينهج الجيل القديم غير المتمقرط عملية النسخ والتفريخ ويخلّق لنفسه نسخا طبق الأصل كما وقع في بعض البلدان التي خرجت شعوبها تنادي بالديمقراطية وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية لكنها اصطدمت بجيل مستنسخ عن النظام الذي أسقطوه فكان أكثر مكرا وخبثا ونكاية وتخلفا من الجيل الذي سبقه والذي تعلم على يديه أصول الجور والظلم والتعسف والاستغلال ...جيل أشد من سابقه بيروقراطية وأكثر بغضا للديمقراطية وكاره لسلوك الدمقرطة ، شعاره أنا ومن بعدي الطوفان.
حسن ستيتو