التقيت بصديق لي لم أره منذ مدة ليست بالقصيرة ، كان قد درس معي بالسلك الإعدادي ، كان لقاء حميميا حارا، تبادلنا فيه أسئلة كثيرة عن الحال والمآل وتخلل كلامنا بعض الذكريات بالمؤسسة التي كنا ندرس بها وتذكرنا بعض الوجوه لتلاميذ كانوا يشاركوننا المسرات والملذات التي جلها لعب ومصادمات مفتعلة وفخاخ منصوبة للإيقاع ببعضهم في براثن أساتذة ممن كنا نعدهم قساة ـ طيب الله ذكراهم ـ إلى أن ساقنا الحديث إلى الكلام عن السكنى وما يتعلق بها من قروض وموقع واتساع وضيق وقرب وبعد هواء وضياء وجار. ما كاد صاحبي يسمع لفظ الجار ، حتى ثارت ثائرته وانفجر ساخطا ومستنكرا ما فعله جاره مؤخرا ، حيث قام بعمل لا يمكن غفراه له بأي حال من الأحوال ولا التجاوز عنه ، بَلْه نسيانه وإقباره . قلت : ما الذي فعله بك جارُك حتى أثار حفيظَتك بمثل هذه الشدة فانقلبت إلى بحر زاخر وموج هادر وأنت الإنسان الهادئ الوديع ! قال : لقد عمد إلى شجرة بجانب الدار التي نتشارك سكناها، والتي تصفي الهواء الداخل من النافذة من الغبار والأتربة وتظلل حائطي أيام الحر فضلا عن الروائح الزكية المنبعثة منها في فصل الربيع ، فقطعها بحجة أنها تحجب عنه الضوء ؛ وإنني أمام هذا الفعل الأرعن واللامسؤول والذي لا يمكنني قبوله بأي حال من الأحوال أوتحت أي ذريعة من الذرائع ، قررت أن أعرض سُكناي للبيع ومن ثَمّ البحث عن منزل آخر تحيط به الأشجار والخضرة ، ثم عقّب قائلا: " الدار التي بلا شجر يجب أن تهْجر "
وافقته الرأي واستحسنت قراره ودعوت له بتيسير الأمور ، بعدها ودع كل واحد منا صاحبه ، وانصرف إلى الوجهة التي هو مولِّيها .
وأنا أجوب شوارع المدينة وأزقتها لاحظت أن الكثرة الكاثرة من المنازل والشقق ليس بها ولا من حولها شجر ولا نبت أخضر، وتبين لي أنه يستحيل غرس شجرة واستنباتها بشقة معلقة في الفضاء بالدور الرابع أو العاشر أو غرسها بدرب من دروب المدينة العتيقة والتي لا تتسع لأكثر من شخصين وإن اتسعت بالكاد فلعربة مدفوعة باليد ،وهي وسيلة النقل الشائعة في مثل هذه المسالك دون الحمير والبغال وظهور الحمالين من الرجال .
تصورت دروب وأزقة مدن العالم الضيقة على هذا النحو ، وتخيلت ناطحات السحاب بالعواصم العالمية مثل نيويورك وطوكيو وشنغهاي وشيكاكو وبرج خليفة وكل بنايات العالم التي تناطح السحاب وقلت في نفسي، لو وجب هجران المنازل لانعدام الشجر بها أو حولها لهجر جل سكان العالم المتقدم والنامي على حد سواء سكناهم واتجهوا نحو غابات الأمزون وأدغال أفريقيا يلتمسون سكنا به هواء صافيا وجدارا ظليلا وروائح زكية مصدرها الأشجار الوفيرة .
لاشك أن صاحبي كان مخطئا في تقديره ، وأنا الآخر كنت مخطئا في مجاراته وموافقته على رأيه ، لكن هل يمكن العيش داخل المدن بدون شجر يمدنا بالخضرة والمنظر الجميل ويصفي الهواء ويأوي الطيور والعصافير ، يذكرنا بانتمائنا للطبيعة ويكون امتدادا لجميل فضلها علينا ، طبعا لا يمكن الاستغناء عن الشجرة ، فإن لم تكن الأشجار داخل البيوت وحولها فعلى الأقل أن يستحدث الإنسان حدائق ومتنزهات في فضاءات المدن تكون ملاذا للذين يعشقون الخضرة والظلال وحفيف الأشجار وزقزقة الطيور ويستحدث بفضلها بعض المساواة بين الأغنياء الذين لهم دور واسعة تحيط بها جنان يانعة ومخضرة ، وبين أولئك الذين يسكنون دورا بالأحياء القديمة وكذلك الذين يعيشون في شقق معلقة عالية ، وأظن أنه كان من الأنسب لي ولصديقي القول :" المدينة التي ليس بها حدائق وشجر ينبغي أن تهجر" .
حسن ستيتو