الديكي *
عدد المساهمات : 2 نقاط : 6 تاريخ التسجيل : 05/04/2010
| موضوع: الدكان 2010-08-08, 11:57 | |
| الدكان قصة فصيرة,محمود الديكي الحاج أمين رجل جاوز السبعين ،البلدة كلها تعرفه بالحاج ذلك أنه في ستينات القرن العشرين كان الحجاج ندرة ، أن يكون في القرية حاج فكأنما فيها وليٌ من أولاء الله الصالحين، تعم بركاته أرجاء القرية والقرى المجاورة، أما كونه أميناً فقد عرف بذلك في المنطقة بأسرها، وأنا لا أجزم بصدق المقولة العربية: لكلٍّ من اسمه نصيب ،فقد سمعت ممن لا يوثق بكلامه أن الحاج كانت له بعض صولات وجولات في ما لا يتفق مع اسمه. مات الحاج أمين ميتة طبيعية وأورث دكانه ابنه الوحيد الذي كان يكنيه (أبو فداء) وسر التكنية ذهب مع الحاج لم يخبر به أحداً، كانت دكان الحاج أمين تبيع كل شيء ابتداءً من فتلة القنديل وحتى أجهزة الراديو والمصباح الذي يعمل على البطارية ، لقد كانت الدكان الوحيدة في المنطقة في ذلك الزمان وهي توازي ما نسميه اليوم أسواق (المول )ولعلها تفوقها أهمية، تولي الابن الدكان وأولاها عناية تفوق عناية والده،فوسعها وأدخل عليها تحسينات كثيرة، ومما تميز به عن والده دقته ومعرفته كل شاردة أو واردة للدكان ،إلى درجة أن أهل القرية يتندرون حول ذلك بقولهم: إنه يعرف عدد أعواد الثقاب في كل علبة ثقاب، ولو أن أحد العاملين في الدكان سوَلت له نفسه استعمال عود ثقاب لتنظيف أسنانه لحل به الويل، ومع ذلك لم يكن بخيلاً إنما مقتضى الدقة يوجب الحرص على كل شيء. وفضلاً عن دقته, كان ذا شوكة في المنطقة على الرغم من أنه كما يقال "مقطوعٍ من شجرة" إذ ليس له أخوة أو أعمام إنما تحصلت له العزوة من شباب القرية الذين كان يغدق عليهم من خيره دون حدود، بذلك أمن شرهم واستعملهم على من سواهم، ولم يكن ليجزل العطاء لأحدهم فيوغر صدور من سواه عليه. سارت حال المصلحة على خير وجه سنوات، وفي أحد الأيام وجد غلة الدكان قد نقصت قروشاً، وقد كان أمراً مريباً لم يشأ أن يخبر به أحدا، فالحكمة وحسن سياسة الأمور تقتضي ذلك. ذلك أنه إن أشاع الأمر فمخون لعامليه أو عصبته من شباب القرية ،وجاعلٌ هيبته بين أهل المنطقة أقل "فجحد الأمر وجعل السم في كبده" والأمر كما يقولون: "إن كبته يسطح أو أعلنته يفضح".غير أن الأمر تكرر، قروش تختفي كل أسبوع، ثم أصبحت كل يوم، وبعد عام أصبح الأمر بالدنانير، دنانير تختفي ولا يعرف سرَّ اختفائها ولا يستطيع اتهام أحد، فالعاملون في الدكان موضع ثقته وقد ورثهم كما ورث الدكان عن والده وحفظه لهم جزء من حفظه لعهد والده، فازداد ضيقه وتوتره وأصبح يعامل الجميع بشيءٍ من النزق والعصبية دون أن يشعر بذلك ثم أصبح يخبط خبط عشواء فاقداً الاتجاه، وقد أسر لبعض مقربيه بالمشكلة وأوشك الأمر أن يفلت من يده، حيث ساءت علاقته مع الكثيرين وصنف الناس بين خائن ومتواطئ وغادرٍ. ولم يعرف أحد سرّ تحوله. مضت سنوات عشر انشغل بمشكلة الدكان عن نفسه فلم يتزوج وقد حثه من يهمه أمره على الزواج عله يقلل توتره غير أنه رفض فوقت الزواج لم يحن بعد، وفي يوم ذهب إلى الدكان بعد صلاة الفجر فوجد الخزنة مسروقة بكاملها دون أي أثر للسارق، كل شيء على حاله، الباب مغلق لم يخلع السارق باباً ولم يكسر شباكاً، وكان المدهش في الأمر أن السارق قد وضع النقود على الطاولة وأخذ الخزنة فارغة ولم يأخذ سوى دينارٍ واحدٍ كعادته. إذن هي رسالة واضحة، وكان عليَّ أن أفهمها منذ زمن وقد فهمتها الآن، سأرحل نعم سأرحل.ذات صباح استفاقت القرية على دكانٍ مغلق وبيت هجره أهل، فقد رحل الرجل إلى بلدة مجاورة عاقداً العزم على ألا يبرح القرية بروحه وأن يبق يبقيَ فيها العيون حتى يعرف خبر سارقه، وقد لحق به بعض شبان القرية.حاول وجهاء البلدة معرفة سبب رحيله غير أنه ما زاد على قوله: إنني معكم بروحي وقلبي ولم أر منكم ما يخبث النفس و والله إنكم أهلي، وإن بلدة تضم جسد أبي لمن أحب بقاع الأرض إلى نفسي غير أن مقتضيات العمل استوجبت ذلك، وإن في نفس يعقوب حاجة لابد أن تعرفوها ولو بعد حين.سارت الأمور على خير ما يرام أشهراً ،وتوسعت تجارة أبي الفداء إلى أن "عادت حليمة لعادتها القديمة" بدأت الغلة تنقص قروشاً فدنانير إلى أن سرقت الخزنة فارغة بعد أن أفرغت من النقود وتركت على الطاولة ،تماما كالذي جرى في المرة السابقة، ازداد ذعر الرجل وقرر الرحيل إلى المدينة، لعل غريمه يريد منه أن يغادر المنطقة كلها. كان أبو الفداء قد عقد النية في المرة الأولى على استقصاء أمر غريمه غير أن الغريم لم يمنحه الفرصة الكافية ،وفي الرحيل الثاني كان أبو الفداء قد عزم على الانتقام من غريمه فكان يفتح الدكان نهاراً ويعود للقرية ليلاً، يستقصي الأخبار ولا يبالي إن هو أحرق حقلاً هنا أو قتل حماراً لرجل يظن فيه السوء، ازداد عداؤه لأهل القرى وأصبحت غالبيتهم في نظره خوناً ناكثين للعهود والمواثيق لا يرعون إلاّ ولا ذمة.ذات ليلة ذهب إلى قريته، زار أحد وجهاء القرية وبعد أن تناول العشاء مع بعض وجهاء القرية وتسامروا حتى منتصف الليل قرر العودة إلى المدينة، تمسك به مضيفه محاولاً أن يثنيه فـ"الصباح رباح" غير أنه أصر على العودة لأن مشاغله لا تسمح له بالمبيت، وصل المدينة التي لم تكن بالبعيدة قبيل الفجر، وفي الحال ذهب إلى الدكان قبل أن يدخل بيته، ولهول ما شاهد أغمي عليه، ولم يكن في المكان من يوقظه إلى أن استفاق بنفسه، استفاق على مشهد مرعب:باب الدكان مخلوع، الشبابيك مكسرة، جميع الأشياء القابلة للكسر في الدكان محطمة، الحبوب خلطت مع بعضها البعض، الزيوت.. عالمٌ من الدمار والفوضى والخراب، والخزنة مفتوحة لم تنقص سوى دينار واحد. و حين بدأ الناس يذهبون إلى أعمالهم لاحظوا المشهد وبدؤوا يتجمعون حوله، يسألونه عما جرى وهو لائذ بصمته لا يعرف ما يجيب، وصلت الشرطة والمباحث، صوروا، حققوا، ثم قيدت القضية ضد مجهول ليرحل رحيله الثالث، هذه المرة صوب المجهول، طالت الرحلة وطال العذاب، فقد الرجل صوابه وأصبح يخبط خبط عشواء، ينتقم أحياناً من الأصدقاء والمقربين، وكان دائماً حوله رجالٌ يزينون له كل فعلٍ مشين وبعد سنوات من رحيله الأخير وصلته الرسالة الآتية:"ابن الحاج أمين، عليك العودة صاغراً إلى قريتك، وإلا أتبعناك عظام والدك"لقد رحلت بإرادتي وقد كنت منتصراً، نعم منتصر على ضعفي وتمسكي بذكريات طفولتي، إن الفراق صعب ولكنني كنت قادراً عليه وبذلك تجلى انتصاري، تحديت السارق وفي ذلك انتصار، كتمت الأمر في نفسي وفي ذلك شموخ وانتصار... كيف سأعود صاغراً؟! سأجعل من عودتي انتصاراً، سأجعل الجميع يعتبرون عودتي تحدياً لمواجهة غريمي، سيجتمعون حولي، سيضعون لي أقواس نصر... وفعلاً عاد الرجل منتصراً، واستقبله أهل القرى بكل الفرح والحنين والعشق لأيامٍ مضت، عاد ولم يفتح الدكان القديم وتحت إصرار أهل القرية والقرى المجاورة أعاد فتح الدكان، وفي هذه المرة لم يكن السارق متخفياً جاء في وضح النهار وعاث في الدكان فساداً مما اضطر الرجل للاختباء في المستودع ولم يفلح كل أهل القرى في درء الخطر عنه، منع عنه الطعام والماء، وكان يصرخ إننا بعون الله لمن الصابرين، والناس يرددون من بعيد، إنك لمن المنتصرين، دخل ابن الحاج أمين في كوارة الطحين، وكان من المنتصرين، ألقى القبض عليه، غير أنه ما زال شامخ الرأس ومن المنتصرين، خلعوا حذاءه، ضربوه على قفاه، وما زال يصرخ، إنني من المنتصرين، أجبروه على خلع جميع ملابسه، غير أنه لم يدع شموخه وكبرياءه، متذكراً دائماً أقدس مقدسات الأعرابي عقاله وشاربه وما دام أنهما لم يمسا فإنه شامخٌ كالطود لا تهزه ريح، إلا أن غريمه لم يعطه فرصة الشموخ بشاربه فحلق له جانباً وترك الآخر، ولم يقف الأمر عند حدِّ الشارب، فقد تجاوز الغريم كل الحدود – ومارس معه من الموبقات ما يندى له الجبين ذاك إن كان ثمة جبين يندى، والناس من حوله يهتفون:إنك لمن المنصورينوحين أصبحت إهانة الرجل عبئاً على غريمه قرر التخلص منه إلى أبد الآبدين.وما زال الناس يهتفون:منصورين .. منصورين .. كتبت بتاريخ:7/7/2008 |
|
د محمد محمد يونس علي عضو شرف
البلد : ليبيا وبلاد العرب: أوطاني عدد المساهمات : 801 نقاط : 1529 تاريخ التسجيل : 25/12/2009 المهنة : أستاذ اللسانيات المشارك
| موضوع: رد: الدكان 2010-08-09, 12:01 | |
| مرحبا بك د محمود هذه القصة الثانية من روائعك القصصية ما كنت أعرف أنك قصاص موهوب في انتظار المزيد تحياتي لك |
|
غالية الذرعاني مشرف منتدى
وسام النشاط : وسام المبدع : البلد : ليبيا عدد المساهمات : 268 نقاط : 511 تاريخ التسجيل : 29/04/2010 المهنة : معلمة
| موضوع: رد: الدكان 2010-09-06, 12:50 | |
| سرد مشوق وجميل ينضح بأوجاع الزمن الرديء |
|