أ.د. صبري مسلم
رئيس قسم اللغة العربية، كلية الآداب - جامعة ذمار..
لا ريب في أن المصطلح الجديد يغري الباحث ويستثير فضوله ويتحدى ما يعرفه متجاوزاً دائرة الرتيب والمكرور، وحين تناهت الى أسماعنا أصداء الأسلوبية Stylistics في الغرب الأوروبي فإن جمعاً من الباحثين بشروا بها بوصفها ظاهرة جديدة تحتضن كثيراً من التناقضات التي انطوت عليها بعض المناهج النقدية التي انحازت إما الى الأطر الخارجية للنص او أناه تعبدت في محراب النص وأنكرت ما سواه وبطريقة غير مرنة لا تتناسب مع السجية الرقيقة للكائن الإبداعي.
بيد أن الباحثين ممن رصدوا ظاهرة الأسلوبية اختلفوا في أسلوب تلقيها من مظانها الأوروبية، فمنهم من انشغل بجذرها العربي، محاولا جهده إثبات أن بعضا من علمائنا الأقدمين أسسوا لها، ومن الباحثين من اهتم بقطبها النظري في الغرب الأوروبي سواء أكان ذلك على صعيد جذورها هناك أم غزارة التعريفات والتوصيفات التي حاولت حدها والإلمام بعالمها، ومنهم من حاول أن يفيد منها في مجال التطبيق وعكسها على نصوص إبداعية متنوعة.
ومن خلال الكتب العربية المؤلفة عن الأسلوبية او المترجمة نلمس الفرق الواضح في رؤية الباحثين لها، إذ ينهج بعضهم نهج التبسيط وسهولة المأخذ ووضوح التناول في حين يدخلها بعضهم في دائرة الرموز والمعادلات الرياضية والرسوم البيانية، والأسلوبية بسجيتها تحتمل الوجهين كليهما، وتعتمد الرؤية إليها على زاوية النظر وبؤرة التناول، فإذا توغل الباحث في قطبها اللغوي واجتاز دهاليز علم اللغة فإن المسألة لا تخلو من التعقيد، وينطبق هذا على الإنجازات البلاغية المعاصرة ومحاولات تمزيق الأثواب القديمة للبلاغة وإظهارها في إهاب جديد، وهي مهمة شاقة على أية حال، وربما بدأ الرافد الثالث للأسلوبية أدنى قطافاً وأعني به المتعلق بالنقد الأدبي وعالمه المتسع وخصب الأرض التي يقف عليها الدارس حين يتعمق مباحثه ويتوغل الى مفاصله.
وربما بدت الصعوبة في أن يلم الباحث الفرد بهذه الروافد الثلاثة جميعا وأعني بها البلاغة وعلم اللغة والنقد الأدبي، وهذه بلا ريب ميزة للأسلوبية ولكنها عبء عليها ايضا، لأن الباحثين عامة غالباً ما يتقن أحدهم وجهاً واحداً من وجوهها الثلاثة وينطلق منه ويتشرنق به، ويثبت تماما أنه عالم بهذا الوجه، بيد أن الوجهين الآخرين يلمحهما بوجه عام دون تعمق مما يفقد البحث توازنه، ويخيل للقارئ حينذاك أن الأسلوبية إنما تعني الجانب الذي تلبث عنده الباحث باقتدار دون سواه.
ومن المؤكد ان المصطلح الجديد (الأسلوبية) والتعريفات الأخرى المتعلقة به وما أثارته من مباحث تجدد عزم الباحثين على اجتياز هذه العتبات وتجبرهم على أن يطلعوا على إنجازات سواهم من التخصصات المقاربة، وأن التوغل في تخصص واحد والاقتصار عليه هو ضرب من الأمية الفكرية او لنقل إنه الانغلاق عينه، إن الأسلوبية هنا تظهر بمعنى أو بآخر وكأنها دعوة الى قدر من الموسوعية وإن كان في إطار اللغة والبلاغة والمنجز النقدي سوية وهي موسوعية محدودة على أية حال، لأن هذا العصر يفرز في كل لحظة عشرات الإصدارات ومن خلال الكتاب والمجلة والصحيفة او عبر الوسائط المبتكرة ولاسيما شبكة الانترنت السحرية التي تهيئ للباحث سرعة الوصول الى المعلومة بحيث لا تبدو المعلومة مهمة في حد ذاتها بل في طريقة استثمارها وأسلوب الإفادة منها، وفي إطار النسيج الذي ينجزه الباحث بعيداً عن اجترار السائد والبدهي والمكرور.
وعبر عشرات التعريفات للأسلوبية فإن التعريف المتضمن فرادة السمات وخصوصية الهوية يستأثر حقاً بالاهتمام، ويقترب تماما من ملامح الأسلوبية وطبيعة توجهها، فالأسلوب هو الإنسان نفسه على حد تعبير (الكونت بوفون)، والأسلوب هو مجموعة من عناصر اللغة المؤثرة عاطفيا على المستمع او القارئ كما عرفه (شارل بالي)، ويرى (رولان بارت) أن الأسلوب ذو طبيعة كالبذور يستزرعها الكاتب في نفس المتلقي- ويحصي الدكتور صلاح فضل في كتابه علم الأسلوب ما يزيد على ثلاثين تعريفاً للأسلوب بيد إنه يرجح أن الأسلوب هو محصلة مجموعة من الاختيارات المقصودة بين عناصر اللغة القابلة للتبادل، بمعنى ان الأسلوب المختص بكاتب معين دون سواه هو انتقاء ذلك الكاتب لتركيبات خاصة او جمل معينة او مفردات دون سواها مما يكشف عن مزاج الكاتب ورؤيته وأسلوب تفكيره.
والأسلوب Style ليس رديفا للأسلوبية وإنما هو جذرها وإذا قلنا علم الأسلوب فإننا نقترب من الأسلوبية حد الترادف لأن الأسلوبية في بعض وجوهها متأثرة بالمنطق العلمي والنسق المنهجي، وهما من معطيات هذا العصر الذي يهيمن فيه العلم على كل شيء، ومن ذلك إنه يخضع الأسلوب للرؤية المنهجية، ولذلك يرى الناقد الفرنسي (بيرجيرو) أن الأسلوب هو مظهر القول الذي ينجم عن اختيار وسائل التعبير، وهذه عودة لصلة الأسلوب بالانتقاء حصراً مع أن الانتقاء مما يميز الفنون عامة، فهي اي الفنون رؤى وزوايا نظر، وينطبق هذا على الأسلوب جذر الأسلوبية ومنطلقها وركيزتها وإذا قلنا إن الأسلوبية تعنى بتقنية الكتابة وآليتها وبالصياغة والنظم والتنسيق لم نبتعد عن الصواب، إنها مجموعة من العناصر والوجوه، وتأتي التعريفات المتعددة الغزيرة كي تركز على أن أحد هذه العناصر او الوجوه، فهي اي التعريفات في مجموعها صحيحة، ومن خلال مجموع هذه التعريفات يبرز الكيان الكامل للأسلوبية.
ولأن الأسلوبية تشتغل في موقع وسط بين محطتين هما اللغة والأدب فإنها موصولة بهما ومرتبطة بحضورهما معاً، وأما صلة الأسلوبية بالألسنية فإنها صلة الكل بالجزء، وإذا كانت البنيوية تجب الحبل السري الذي يربط العمل الإبداعي بمؤلفه فإن الأسلوبية لا تنكر الصلة بين الإبداع والمبدع، وهي تفيد من التأثير النفسي الذي يوحي به العمل الإبداعي حين يمارس فعله على القارئ او المتلقي عامة، ومن المعروف ان هذا مما تنكره البنوية ولا تعترف به إذ تعده من أطر النص التي تضيق الخناق عليه وتلغيه، وإذا كانت ثمة رؤية للبلاغة على أنها الإهاب الجديد للأسلوبية فإن في البلاغة جانبا أدبيا وآخر لغويا، وفي البلاغة العربية تنتمي مباحث البديع والبيان الى الأدب بوجه عام، في حين ترتكز معظم مباحث علم المعاني الى اللغة وإلى الجانب الدلالي منها تحديداً، وعلى وجه العموم فإن البلاغة رافد مهم من روافد الأسلوبية، وهي على هذا الأساس ليست قسيما لها او مرادفا تقتصر عليه الأسلوبية.
وفي مجال التطبيق يمكن أن تكون الأسلوبية منهجا نقديا يعتمد على مهاد خصب، لذلك فإن معظم الدراسات التي اعتمدت الأسلوبية منهجا اشتغلت وفقا لأنساق او مستويات أو محاور، يستند بعضها الى اللغة، ويعتمد بعضها الآخر على البلاغة، وثمة ماله صلة بمباحث النقد والأدب عامة، ومن خلال بعض الدراسات التي طبقت الأسلوبية على الإبداع الشعري وجدنا مستوى إيقاعيا يشتغل على الوزن والقافية والإيقاع الداخلي، وهناك المستوى المعجمي الدلالي، وثمة مستوى الصورة الشعرية، ويمكن أن يشتق الباحث من هذه المستويات ما يناسب النص الذي يشتغل عليه بحيث يحتضنه المنهج الأسلوبي ومن ثم يتوغل الى أعماقه ويحيط بأسراره، وأدوات الأسلوبية ووسائلها متنوعة وعلى النحو الذي فصلنا فيه إذ تشمل كل مباحث اللغة والأدب بحيث لا تميل الى جهة ما بل تتجه الى النص متوازنة متسقة، وهي في خاتمة المطاف تتلبث عند أسرار النص وخصوصيات صياغته وعوامل فرادته فالأسلوب ومن هذا المنطلق منهج متوازن ومتجدد، وإذا ما قورن بالمناهج النقدية الأخرى فإن المنهج الأسلوبي يتخلص من عيوب المناهج التقليدية كالمنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي والمنهج النفسي وسواها من المناهج التي اتهمت بأنها تتنكر للنص الإبداعي متخذة منه وسيلة لا غاية في حين تحتفي الأسلوبية بالنص دون تطرف كما هو شأن البنيوية وتفيد من صلة المبدع بنصه الإبداعي، وما المانع في ذلك؟ فالأسلوبية إذن تفتح آفاقاً على صعيد المناهج النقدية وتعطي للناقد او الباحث عامة أدوات منهجية مضافة تجدد المنظور النقدي والبلاغي واللغوي على حد سواء.
ونظرا لجذور الأسلوبية فإنها تفيد من المدرسة الكلاسيكية عامة ولا تنكر صلتها بها، وهي في الوقت ذاته لا تتنكر للرومانسية او الواقعية بل تفيد منهما ومن مواقفهما إزاء العمل الإبداعي، ويميز بعضهم بين مدرستين في الأسلوبية، الأولى فرنسية والأخرى المانية، فهي إذن مدرسة أدبية تتخذ من مباحث الأدب وعلم اللغة والبلاغة ركيزة رصينة تقف عليها، وإذا كان الغرب الأوروبي قد سبقنا إليها، فثمة جهود لعلمائنا العرب الأقدمين يمكن أن تصب في جذر علم الأسلوب، ومن ذلك ماذكره الدكتور إبراهيم خليل في كتابه (الأسلوبية ونظرية النص) عن إعجاز الأسلوب القرآني عند الباقلاني ونظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني والتماسك النصي او الوحدة الموضوعية عند حازم القرطاجني، ويمكن أن يجد الدارسون ظواهر أسلوبية متنوعة لدى نقادنا العرب الأقدمين.
ويبدو أن الباحثين والدارسين العرب المعاصرين لم ينتهبوا الى (الأسلوبية) إلا في حدود منتصف القرن السابق، إذ أصدر احمد الشايب كتاباً بعنوان الأسلوب، أعقبه كتاب آخر بالعنوان نفسه (الأسلوب) للباحث محمد كامل جمعة، وتوالت كتب كثيرة في هذا المجال منها (الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني للنقد الأدبي) للدكتور عبدالسلام المسدي، وهناك ترجمات دقيقة لكتب أوروبية في مجال الأسلوبية، فضلاً عن زخم من المقالات والدراسات المنشورة في المجلات والصحف، وما يزال هذا الحقل يعد بالجديد والمبتكر والمتطور من الدراسات الحية النابضة في مجال الأسلوبية.