تأليف محمد محمد يونس علي
يمكن أن نخلص من خلال مناقشة مشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر أن
المشكلة مشكلة تربوية وحضارية، وأن النهج الحري بأن يتبع للتغيير التربوي والحضاري هو
النهج الرباني في الإصلاح، الذي يعبر عنه قوله تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم" (الرعد: ١١ .)، وقد صاغه مالك بن نبي في قوله: "غيّر نفسك تغير التاريخ". ٨٥
وإيمانا منا بأن التفكير الجيد ليس صفة وراثية، وإنما هو "مهارة يصنعها
التدريب"، ٨٦ فإننا ندعو المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والد ينية أن تعمل على تغيير
العقلية العربية الطفولية بما تتسم به من نزعة تواكلية متمحورة حول الذات، وتفكير سطحي
جزمي، إلى العقلية الراشدة التي تعتمد على الاستقلال الذاتي، وتحركها الروح الجماعية،
ويحكمها التفكير العلمي.
وإنما يكون ذلك بإعداد مناهج علمية مدروسة ت عنى بإكساب الطلاب مهارات
القيادة بما يتطلبه ذلك من تدريبهم على تحديد الأهداف وتعليمهم فقه الأولويات، وتنمية
روح المبادرة، وتعزيز استقلال الشخصية، والروح الفردية، والانتقال في منهج التعليم من
التعليم الحشوي التلقيني التقليدي إلى التفكير الاجتهادي النقدي الإ بداعي، وتقوية روح
التعاون والعمل الجماعي التكاملي، وتدريسهم قيم العدل، والإيثار، والتضحية، والنظام،
وإتقان العمل، واحترام الأفكار دون تقديس الأشخاص، وإشعارهم بأهمية التراكم المعرفي في
بناء النهضة.
إن الفرق بين التخلف والتقدم يمكن أن يلخص في إهمال مهارات ال قيادة، والتفكير
النقدي، والإبداع، أو تنميتها، وليس لنا في هذا الوقت الحرج من عمر الأمة إلا أن نختار
إعمال تلك المهارات، وتنميتها . فإذا وفقنا إلى ذلك، فسنضمن - بعونه تعالى- الحفاظ على
مقومات الأمة، وسنتمكن من الظفر بالقدرة على صنع حضارة حديثة تجمع بين خيري
الماضي والحاضر، وهذا الرأي مبني على الاعتقاد بأن القائد المفكر المبدع -إذا ما نجحنا في
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٩٥
تربيته تربية سليمة - سيختار الطريق التي قادت أسلافه إلى بناء ﻧﻬضة دينية، وعلمية،
وحضارية متميزة، وقادت الأمم المتقدمة إلى ما هم عليه من تفوّق وغلبة.
ولا يمكن أن يكتمل الج هد التربوي نحو التخلص من مشاكل التخلف دون توعية
الأسرة بأهمية التخلص من التربية القسرية التعسفية التي تجرد الطفل من جميع سمات
الاستقلال، وتكبله بعادة الاعتماد على الآخرين، وتضعف ثقته في نفسه . وإذا ما قبلنا
بفكرة أن التقدم هو تخليص الراشدين من مظاهر السلو ك الطفولي (تلك التي سميناها مظاهر
التخلف)، فسيدفعنا ذلك إلى استحسان فكرة التعامل مع الطفل على أنه رجل صغير، كي
يكتسب صفات الإنسان الحضاري في طفولته، فيكون دور الأسرة بذلك عاملا جوهريا في
بناء الشخصية الحضارية التي لا تعاني من مظاهر التخلف المذكورة.
كما أن للسلطة دورا مهما يتمثل في اعتماد مبادئ الشورى والمشاركة التي تصنع
الإنسان الفعّال المبدع المبادر، غير المتردد، القادر على تحمل المسؤولية، الذي يحرص على
القيام بواجباته حرصه على المطالبة بحقوقه بعد أن تخلص من مثالب شخصية الإنسان
المقهور.
أما أزمة اللغة فقد أوضحنا مدى صلتها بمشكلة التخلف، وترتبها عليها، وقد تبين
لنا أن محاولات الإصلاح في مجال تدريس اللغة العربية، ونشرها، والبحث العلمي المتعلق ﺑﻬا،
ستظل مكبلة بعوائق مظاهر التخلف التي ذكرناها، وأن التخلص من مظاهر التخلف ينعكس
إيجابا على وضع اللغة شأﻧﻬا في ذلك ش أن كل العناصر الثقافية، والمكونات الحضارية
للمجتمع، غير أن ذلك لا يعني أن ينتظر القائمون على اللغة العربية من مدرسين وموجهين
وباحثين ومسؤولين إلى أن تحل مشكلة التخلف، بل عليهم أن يكونوا من أول المبادرين
بالإسهام في حلها، وإنما يكون ذلك بإعداد مناهج مطوّرة يأخذ معدوها في حسباﻧﻬم
تشخيص حالة التخلف التي يعاني منها اﻟﻤﺠتمع العربي، ومعرفة أسبابه، وكيفية التغلب عليه،
وكذلك الإعداد الجيد للمدرس الذي يلم بطبيعة الطالب المنتمي إلى هذا اﻟﻤﺠتمع المختلف،
ويدرك مظاهر التخلف، وكيفية علاجها، فضلا عن كونه يلم بطبيعة اللغة، ويملك تصورا
شاملا لطريقة العربية في الدلالة على المعاني الصرفية والنحوية والمعجمية، ويدرك أهمية
وظيفتها التواصلية، ويؤمن بأن تحقيق هذه الوظيفة إنما يكون بالاعتماد على تدريس مهارات
اللغة، وليس بحشو الطلاب بمعارف حول اللغة، وأن التقويم السليم لأداء الطالب إ نما يقاس
بمدى تحقق الأهداف الوظيفية للمقرر المدروس، على أن يكون على رأس تلك الأهداف
قدرة الطالب على الاستعمال السليم للغة قراءة وكتابة ومحادثة واستماعا.