وظيفة الادب بين النفعية والجمالية
مدخل
مازالت فوضى العروض النقدية على الساحة العربية والانغماس غير المنهجى فى الحداثة الغربية تفرض على الساحة الادبية رؤى منبتة المنشا وغير معروفة الهوية فتفاجئ كل يوم نتيار جديد فى الادب لا ضابط له ولا اصول منهجية لانه يخرج من لا قاعدة ادبية او تراثية عربية وانما يخرج من انبهار بنص غربى وهذه دليل على الفراغ الثقافى وتحول نقادنا الى مجرد مترجمين للنظريات الغربية ويسير خلفهم كثير من المهمشين ثقافيا وغير المبدعين واشباه المثقفين الذى ملأوا الساحة الادبية فاصابوها بالعطب والفساد الابداعى وفى كل يوم يخرج علينا صوت جديد ينادى برؤية معينة فى الادب ويجزم انها المنجز النهائى للابداع واخر هذه الاصوات ما يرتفع الان مطالبا بعودة الابداع الى نظرية الفن للفن وان القيمة الجمالية تكمن فى جماليات النص اللغوية دون النظر فى المعنى فالماعنى مطروحة فى الطريق وان حصر النص فى قيمة نفعية معينة يقتل الابداع ويجعل النص احادى الرؤية فى حين ان القيم الجمالية تنمح النص الكونية والخلود وهذا ما يجلعنا ننطلق فى البداع دون التقيد بقيم الدين او السياسة فقيم الدين تكمن فى التشريع وقيم السياسة تكمن فى النظريات السياسية بينما الابداع لا يمكن وضعه فى مقاييس هندسية تقضى على جمالياته وهذا حق اريد به باطل وم ثم كان هذا المقال
لقد ارتبطت بالأدب منذ القدم ظاهرتان احتلتا مركز الصدارة عبر تاريخ الأدب الانسانى هما النفعية والجمالية أو العليم والمتعة ولقد كانت هاتان الظاهرتان تسيران متوازيتين في وقت من الأوقات بيد أن الوظيفة النفعية كانت تتقدم على الجمالية وبخاصة في العصور التي كانت تمجد العقل بوصفه لب الإبداع وجوهره وهى العصور التي مثلتها الكلاسيكية في الأدب الغربي وطلائع التفكير النقدي العربي حتى القرن السادس الهجري وقد استمر هذا التنازع بين هاتين الوظيفتين إلى الوقت الحاضر ليكشف الواقع الادبى على اتساع مساحته سيادة الوظيفة التعليمية التي تحمل الأدب مهمات الكشف عن حقائق الكون والطبيعة الإنسانية وماهية الوجود الانسانى وسط تناقضات الحضارة المعاصرة واشكالياتها المختلفة ولقد اثبت هذا النمط من الأدب ذي النزعة الإنسانية فاعليته وجدواه بما يتمتع به من قيم على الصعيد الاخلاقى ومعايير القيم الفنية الرفيعة في الوقت الذي بلحظ فيه أن الأدب الذي يلقى بكل ثقله الابداعى على الوظيفة الجمالية الاقناعية متجاهلا سمو التجربة الانسانية وقيمها العليا لم يتمتع إلا بقيمة تاريخية بوصفه مرحلة من مراحل التطور الادبى لا غير ولعل هذه الحقيقة هي التي تفسر اضمحلال التجارب الشعرية التي ابتدعتها حركة الفن للفن أو ما يسمى "البر ناسية" التي تمخضت عن تجارب إبداعية لا تعتد بها من الناحية الموضوعية وكذلك ما يتعلق بالمنجز الروائي للواقعية الكلاسيكية والمنجز الشعري للحركات الرمزية والدادائية والسريالية مقارنة بالتجارب الشعرية التي عبرت عنها حركة الحداثة الشعرية في الغرب في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ممثلة في أعمال ت.س. اليوت وايديث سيتول ووليم تبلر بلتيس وغيرهم وهذه الحركة الحداثية الغربية قد أفادت من الإرث الفني كالتقنيات التعبيرية والأساليب الشعرية للحركات السابقة مثل استخدام الرمز والأسطورة وتوظيفها في صلب التجربة الإبداعية إلا أنها تميزت عن تلك الحركات السابقة بتعبيرها عن موضوعات إنسانية ذات قيمة كبرى ولذا فهي زاوجت بين وظيفتي الشعر : الإمتاع والمنفعة وهذا ما أضفى عليها أهمية متفردة مقارنة بالتجارب الشعرية للرمزية والسريالية التي تميزت بنزعتها الذاتية المطلقة ومواقفها الهروبية المنكسرة التي عبرت عن وعى فردى متأزم لا يرى وسيلة لحل تناقضاته مع الواقع الفاسد سوى الاحتماء بعوالم اللاشعورو الضبابية الغامضة واللجوء إلى الأحلام والهلوسة
النفعية والجمالية فى الشعر العربي الحديث
لقد مر المشهد الشعري العربي بتغيرات معروفه فرضتها عليه ضرورات التطور التاريخي ومتغيرات العصر مهدت لها حركة الإحياء والبعث في مصر والعراق وسوريا ولبنان وغيرها من أقطار الوطن العربي التي مثلت امتدادا طبيعيا للموروث الشعري العربي بعدما أصاب واقع الشعر من تخلف وانحطاط جراء ما تعرض له الوطن العربي طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين من مظاهر الغزو والاحتلال ومن هنا فقد اقترنت حركة الإحياء الشعري بنهضة فكرية وحضارية شاملة عبرت من حس قومي وانسانى واضحين شهدها الوطن العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر أو قبل ذلك بقليل , وبلغت أوجها في نهايته وكان من ابرز ملامحها العودة إلى التراث العربي والحضارة الإسلامية وقيمتها العليا لا استلهام مضامينها الانسانية .بغية اعادة تكوين ألامه وتأسيس نهضتها الحديثة.
وقد عبر الشعر العربي الحديث- عبر ما سمى حركة الاحياء – عن تلك الروح العربية الإسلامية الطامحة إلى التحرر والنهوض , ولذلك فقد اتسمت تلك الحركة بطابعها السياسى الذى اتخذ وظيفة التحريض واستنهاض نوازع الثروة التصدى للاحتلال الاستعمارى فضلا عن تناوله الموضوعات الاجتماعية بهدف تعميق وعى المجتمع بخطورة التخلف الاجتماعى وغياب القيم هكذا كان شعر احمد شوقى وحافظ ابراهيم السياسى والاجتماعى فى مصر وشعر الرصافى والزهاوى والصافى والنجفى فى العراق ورشيد سليم الخورى فى لبنان . وفى ضوء ما تقدم يتضح أن وظيفة الادب مرتبطه بالموقف الفكرى والفلسفى الذى يتبناه الاديب والذى يشكل حجز الزاوية التى تتبلور فى اطارها رؤيته للحياة . وهذا يعنى ان حركة الاحياء قد عبرت عن تبنى شعراء تلك الحركة الوظيفية الاخلاقية للادب فى اطارجماليات الشعر العربى التراثى وقد تزامنت مع تلك الحركة فى مطلع القرن العشرين حركة شعرية جديدة افترقت عنها فى نظرتها الى الادب وغايته مرجحة الوظيفة الجمالية الخالصة على الوظيفة الايصالية النفعية نظرا لانها تبنت نظرية ادبية ذات ملامح ومنطلقات فكرية خاصة ونعنى بها حركة جماعة الديوان بزعامة عباس العقاد وعبد الرحمن شكرى والمازنى وقد كان للعقاد الاثر العظيم فى صياغة بيانات تلك الحركة وبلورة اسسها النظرية على الصعيد الابداعى والنقدى والملاحظ ان تلك الجماعة كانت تدين فى اغلب افكارها الى منظرى الحركة الرومانتيكية الانجليزية امثال " هازليت " وقد اكدت جماعة الديوان على التجربة الفردية ونسبية الذوق والمعرفة فضلا عن ايمانها بضرورة تمركز التجربة الشعرية حول الجانب الوجدانى العاطفى من الحياة الانسانية دون التماس المباشر مع الواقع الاجتماعى ومن هنا كان هجوم العقاد العنيف ضد احمد شوقى بوصفه ممثلا للعقيدة التقلليدية بحجة انغماس تلك القصيدة فى العالم الموضوعى والاهتمام المكثف بالقضايا الاجتماعية والسياسية .
ولم تكن جماعة (ابولو) بزعامة الدكتور احمد زكى ابى شادى لتختلف – من حيث المنطلقات النظرية فى الشعر والنقد – عن اطروحات سابقتها, اذا كانت الذات وهمومها محور تجاربها الشعرية الى جانب التهويم فى عالم الخيال والاحلام مع اغفال ملحوظ للعالم الخارجى وتناقضاته التاريخية , ومن هنا فقد وسمت هاتان الحركتان بالرومنسية الغربية التى اتسمت بالانطواء على الذات ومناجاة الطبيعة والغرق فى عوالم الخيال والهروبيه والشكوى . ومهما يكن من امر فان هاتين الحركتين لم يتمخض منجزهما الشعرى عن اعمال شعرية يعتد بها , للاسباب المذكورة ولعدم انسجامه مع ظروف المرحلة التاريخية التى كانت تكتنف الامة العربية وما شهدته من مظاهر تردى الاوضاع السياسية والاقتصادية , وما صحبها من تخلف وبؤس اجتماعى . ولذا فان تناقضات الواقع العربى التى شرعت فى التفاهم – ابان الحرب العالمية الثانية وبعدها – قد ساهمت فى بلورة اتجاه شعرى جديد انطلقت شرارته من العراق لتعلم اقطار الوطن العربى ,واعنى بها حركة (الشعر الحر) التى ظهرت بواكيرها الشعرية على يد الشاعرين العراقيين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة فى عام 1947 وقد نقلت تلك الحركة اهتمام الشعرمن ذاتيته الهشه وفرديته المغلقة الى رحاب العالم الخارجى حيث يعم الظلام الاجتماعى والفساد السياسى وغياب الحريات وقد اتسمت تلك الحركة فى منطلقاتها الاساسية على يد بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتى – بنزعتها الثورية التحريضية ودعوتها الى التغير الجزرى , مولية قضايا التحرر والتقدم الانسانى عنايتها القصوى وقد حدد السياب ملامح تلك الحركة بوصفها رد فعل ضد "الميوعة الرومانتيكية" التى تجاهلت مشكلات الانسان العربى الوجودية ومعاناته السياسية والاجتماعية ومن هنا تنبثق اهمية حركة الشعر الحر التى توظفت طاقاتها الابداعية وما افادتة من انفتاحها على حركة الشعر العالمى المعاصر وبخاصة الشعر الانكليزى لبلورة نموذج شعرى عربى جديد محايث لحجم الازمة التاريخية التى يعيشها الانسان العربى ولذا فان اهمية تلك الحركة لا تنحصر فى موضوعاتها الانسانية وسمو الغايات التى كانت تتطلع اليها فحسب وانما فى حجم التغيرات التي احدثتها فى بنية القصيدة الكلية سواء على مستوى اللغة ام فى مجال التقنيات الاسلوبية كاستخدام الاسطورة والرمز والبناء الدرامى والقصصى فضلا عن بنيتها العروضية الموسيقية .
ان ما يمكن استخلاصه من مسيرة الشعر العربى والغربى الارتقائية ان الشعر موقف عقلى انفعالى ازاء الحياة ومن ثم فهو لا يتجرد من وظيفته التعليمية على الرغم من تصاعد بعض الاصوات التى لاترى فى الشعر الا نوعا من النشاط الذهنى العفوى الذى تعوزه القصيدة او الجدية الرفيعة لتنحصر وظيفتة القصوى وغايته النهائية فى اثارة المتعة اللفظية العابرة او لا تتعدى عملية خلق اشكال لغوية ليس لها من اهمية سوى احداث اثر حى لا يورث الا المتعة الانية الزائلة اما الناقد فانه ليس اكثر من قارئ ينشئ كتابة ثانية على الكتابة الاولى او ينشئ نصا على نص ولذا فانه يشق طريقا امام ابدالات غير متوقعة او انه يلعب لعبة المرايا اللامتناهية ان التفوه اللفظى سواء اكان شفاهيا ام كتابيا لا يخرج عن كونه سلوكا وموقفا ورؤية للحياة والوجود الانسانى واذا كانت بعض الذوات فى كل عصر من العصور يتحدد موقفها الوجودى بتركيز نشاطها الحيوى حول غاياتها الفردية / الانانية فتعلق تخليها عن مسؤوليتها الانسانية ازاء الاخرين او الانفصال عنها ومن ثم فان اشكالية القيم مرتبطة باشكالية فلسفية ايديولوجية خالصة ومن ثم فان تبنى نظرية ادبية ما لا يفسر الا بكونه تبريرا للموقف الفلسفى المذكور الذى يبرر هو الاخر تباين القيم والمعايير وما ينجم عنه من تباين فى الاحكام واذا كانت ميادين المعرفة الانسانية قد شهدت عبر تاريخها الموغل فى القدم اختلافات فى وجهات النظر والاراء التى تصل احيانا الى حد التناقض فان ميدان الادب هو اشد تلك الميادين اختلافا فى الرأى وتباينا فى المواقف ذلك ان الادب مرتبط بالذوق والحساسية الجمالية وعلى الرغم من ذلك فان الذوق والجمال لا يمكن ان يندرجا فى اطار ارتباطهما بمصادرهما الحسية وهذا مكمن الوهم الذى تسقط فيه بعض النظريات الجمالية فى تفسيرها للاثر الادبى حين تفسر الاحساس بالجمال الادبى او شعرية النص بانه ادراك ذوقى فردى مما يجرد ذلك الاثر من طابعه العقلى الكلى بسبب اعتماد مصطلح الذوق بوصفه مفهوما عاما يفسر الاثر الشعرى دون التمييز النوعى بين الاستجابتين فالذائقة الحسية مرتبطة بالطبيعة الحسية العصبية الخالصة الى تؤلف الية الاستجابة الذوقية الجمالية للادب فهى ذات طبيعة عقلية مجردة وان تدخلت فى عملية استقبالها المنظومة العصبية للحواس وهذا يعنى ان الاستجابة الذوقية ذات الطبيعة الحسية انما هى استجابة جزئية يسهم فيها عضو الحس الذى يستقبل الاثر الفنى والادبى خاصة انما هو استجابة كلية يساهم فيها الكيان الانسانى برمته اى انه استجابة تتفاعل فيها الروح والحواس انها تلك الهزة الكلية التى تجتاح الكيان الانسانى بكل ما فيه من احاسيس وانفعالات وادراكات ذهنية و ان مما لا شك فيه ان الاستجابة الجمالية توحى بارتباطها بالقدرات الذهنية اكثر من ارتباطها بالحواس بصفتها اجهزة استقبال ذات طبيعة عصبية فالتجارب الواقعية لتلك الاستجابات تؤكد تشابه الناس جميعا فى استجاباتهم للحرارة والبرودة والاصوات الطبيعية الصاخبة والهامسة والاصوات الجميلة والقبيحة او فى تذوقهم لقطعة من السكر اما تذوق النص الشعرى فلا شك فى انه استجابة مجموعة من الافراد له ستبدو متباينة وليس تفسير ذلك الا ان الاستجابات الحسية مرتبطة باليات الاستقبال العصبى الحسى وهى منظومات عصبية ذات طبيعة غريزية يتمتع بها الانسان فى كل زمان ومكان وهى تمثل استجابة نمطية آلية شأنها شأن الانعكاسات العصبية البسيطة المرتبطة بالجهاز العصبى المحيطى " اللا ارادى" ولذا فهى لا علاقة لها بالدربة والمران والنشاط العقلى الراقى اما عملية " التذوق " الادبى فانها ذات طبيعة ذهنية تعتمد اعتمادا كليا على الفهم والتفسير واية ذلك ان الاستجابة الجمالية للادب تتعطل تماما اذا كان النص مكتوبا بلغة غير مفهومة الامر الذى يعوق عملية التوصيل برمتها فضلا عن ان عملية التذوق الادبى تعتمد من ناحية اخرى على عميلتي التدريب والتثقيف والتربية الفنية بشكل عام تلك العوامل التى تشحذ الذائقة الادبية وتنمح العقل القدرة على الفهم والتفسير ومن ثم التمييز بين النصوص ومستواياتها الجمالية واذا كان الافراد يتباينون فى تلك الجوانب فان استجاباتهم لنص من النصوص سوف تختلف نسبيا مما يجعل احكامهم متباينة بالنسبة نفسها
ان الابداع الادبى يعتمد اعتمادا كبيرا على نشاط المخيلة اذ يعمل الحافز الموضوعى على تنبيه الذهن فتثار بعض الافكار المرتبطة بذلك الحافز فتستثار العواطف والانفعالات فينشأ الخيال ليصطفى من الصور اشكالا جديدة وينشأ بينها علاقات غير اعتيادية بما يتناسب مع تلك الافكار والانفعالات لتتجسد فى النهاية الصورة الشعرية المفعمة بالمعنى والمشحونه بالانفعالات وهذا ما يحدث عادة فى عملية الانشاء اما عملية التلقى فانها ينبغى ان تمر بالمراحل نفسها وتعتمد على الانشطة الذهنية والانفعالية والخيالية نفسها لكى تتم عملية الاستجابة بشكلها الطبيعى ولذلك فان الاسجابات تتباين تباين المستويات الابداعية للنصوص الشعرية وتباين مستويات القراء وقد عمد " اديسون" الى اعتماد الخيال والعاطفة فى عملية التذوق او التلقى الجمالى الى جانب الافكار بل انه عول على العاطفة وما تثيره من انشطة خيالية تمثل الاساس التكوينى للصور الشعرية فحين يتوجه القراء الى قراءة الشعر عليهم الا يطلبون فى الشعر محض افكار واضحة دقيقة بل ان يبحثوا عن الترابطات العاطفية التى تثيرها الصور الشعرية ومثلما يشترط النص الادبى الابداعى قدرات وملكات معينة فان عملية التلقى هى الاخرى تستلزم قدرات استقبالية مماثلة وبقدر ما تتوافق تلك القدرات عند قراء معينين وتنسجم تتوافق استجاباتهم لنص من النصوص وتتقارب ومن ثم فان اختلاف الاحكام انما هو نتيجة لتباين عمليات التذوق والتلقى وهذا لا يفسر الا على اساس تمتع بعض القراء ببعض مقومات الاستجابة الذوقية واشتراطاتها الاساسية او افتقارهم اليها وفى ضوء تلك الافتراضات يفسر " اديسون" تباين الاستجابات الجمالية للادب والشعر خاصة من مصدرين يصدر عنهما ذلك الاختلاف اما عن اكتمال الخيال عند امرئ اكثر منه عند اخر او عن اختلاف الافكار التى يسبغها قراء مختلفون على الكلمات نفسها
ان ضرورة اعتماد النص الادبى على بنية فكرية ودلالية محددة يجعله قابلا للحكم العقلى فى ضوء تراتيب القيم ولما كانت الاحكام والقيم فى حقيقتها ذات طبيعة اخلاقية فان العمل الادبى سيكون فى مستوى انسجام النص مع مقتضيات القيم الجمالية والاخلاقية الا ان ذلك لا يعنى ان يكون ا لمبدع داعية الاختلاف او واعظا كما يتصور بعض النقاد وانما يصبح الادب اسمى قيمة بقدر ما يعبر عن نبل الافكار والعواطف وبقدر ما يتوخى من تصوير جوانب العظمة والرفعة فى الحياة الانسانية وهذه مقولة عقلية درج عليها النقد منذ نشأته حتى الان ولا تعنى العقلية – هنا – سوى المفهوم الكلى للقيم الذى تتفق عليه العقول الصحيحة فى كل مكان وزمان وما تتمتع تلك النماذج الادبية الخالدة التى مازالت اصداؤها تتردد عبر التاريخ الادبى بقيمتها الابدية الا بما عبرت عنه ملامح العظمة والتفرد التى امتازت بها الشخصيات النموذجية التى صورتها وما جسدته من عواطف وانفعالات ومواقف تكشف عن قوة تلك الشخصيات ومواطن ضعفها الانسانى فى احيان اخرى ولا يختلف الامر فى ذلك بين الاعمال المسرحية الخالدة او العظيمة فالادب فى حقيقته ليس شكلا جماليا فارغا وانما هو فكرة سامية او عاطفة نبيلة مجسدة باسلوب جمالى مؤثر وبمعنى اخر ان الادب هو رؤية فنية تحاول الامساك بقوام الحياة وتقدمه باسلوب فنى متميز بتعبير "بيركلى" ومن هنا فان التعويل على الوظيفة الجمالية للادب انما هو موقف متطرف يهدف الى افراغ الادب من محتواه الانسانى ليصبح نشاطا عابثا لا يعبأ من الادب الا بطريقة التعبير ولا فرق فيه ان يكون المعبر عنه حذاء امرأة او سماء مكوكبة بتعبير بعض النقاد الغربيين المعاصرين وهو اعتقاد كرسته حركة الحداثة النقدية الغربية المعاصرة التى نظرت الى الادب عامة بوصفه شكلا لغويا لا يؤدى سوى وظيفة جمالية خالصة تهدف الى تحقيق المتعة الحسية وهى وظيفة اولها الشكلانيون الروس عنايتهم القصوى تجلت فى الوثوقية المتطرفة التى يصرح بها "ايخنياوم" احد زعماء تلك الحركة البارزين بقوله ليس فى العمل الادبى جملة واحدة يمكن ان تكون تعبيرا عن افكار الكاتب او مشاعره ان الادب دائما بناء ولعب باللغة وقد دافعت البنيوية عن ذلك الاعتقاد مركزة على فراغ الشكل الادبى وغياب قصدية المبدع ذلك ان الكاتب لا يفكر الا فى كيفية الكتابة وما ينتجه ليس الا علامات فارغة على الناقد مهمة املا ئها كما يقول " رولان بارت " بل انه يذهب الى ابعد من ذلك حين يقيم تعارضا مطلقا بين الاخلاق / المعنى من حهة وما يسميه " لذة النص" من جهة اخرى بحيث ان احدهما لا يكون الا بالغاء الاخر "لا تستطيع اللذة ان تعيق عودة النص الى الاخلاق والى الحقيقة اعنى الى اخلاق الحقيقة ان هذا الامر غير مباشر انه انزلاقى اذا جاز القول وان نظرية النص من غيره اى من غير اعاقة ارتباط النص بالاخلاق والحقيقة ومن ثم تدميرها ستعود كما كانت نظاما مركزيا وفلسفة للمعنى
ان تلك الاتجاهات النقدية سواء اكانت مسربلة بالجمالية الخالصة او الموضوعية العلمية المزعومة توحى على نحو غير مباشر بالميل الى تكريس مبدأ افراغ الادب من محتواه الانسانى من ناحية وتحييد الثقافة والغاء فاعليتها فى الحياة الانسانية من ناحية اخرى ولذا فهى فى اطارها العام لا تعدو كونها تصعيدا للوعى "الباخوسى" للحياة الذى يختزل الكيان الانسانى فى نشاط غريزى احادى الجانب هو اللذة والمتعة والحسية العابرة اذ يصبح الادب فى ضوء تلك الرؤية مجرد عبث " حضارى " او ترف عقلى لايسمن ولا يغنى من جوع
الرؤية الجمالية والمنطق الصورى
ان تلك الدعوات لم تكن وليدة العصر وانما كانت اصواتها تسمع فى تراثنا التقدى القديم وكان قدامه بن جعفر وحدا من تلك الاصوات الداعية الى فصل الادب او الشعر عن الاخلاق دفاعا عن جمالية الشعر انطلاقا من استراتجية الفصل بين الشكل والمضمون اوبين الفكر والجمال وكائن الفكر بمعزل عن تراتبية القيم فهو يدافع عن جمالية قصيدة امرئ القيس الماجنة ذات المضمون الجنسى المتدنى فى ذلك الموضوع من القصيدة الذى يسرد فيه الشاعر مغامراته الجنسية الفاحشة :
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
.. فألهيتهاعن ذى تمائم محول
ويحتج قدامه فى دفاعه النقدى بذريعة انفصال مادة الشعر عن لغته بتشبيه الشعر بفن الصياغة او النجارة ذلك ان الحكم النقدى ينبغى ان ينصب على عملية تشكيل لمادة وتصويرها لا على المادة نفسها ومن هنا فان جودة المادة او رداءتها لا ترفع من شان عملية التشكيل والتصوير ولاتضع من قيمتها كما يزعم قدامه بمعنى ان الحكم النقدى فى مجال الشعر ينبغى ان يتركز فى الصياغة اللغوية وعنصر التصوير لا فى الفكرة او المعنى وايا كان المعنى او كانت الفكرة فان العبرة فى جماليات الاسلوب وجودة الصياغة والتصوير ومن ثم فهو يستحسن قصيدة امرئ القيس السابقة فحشها ومنافاتها للقيم الأخلاقية , وانا لنلاحظ اصداء تلك الدعوات ماتزال تتردد فى جوانب النظرية النقدية المعاصرة. مبررة الزعم القائل بان العملية النقدية ينبغى ان تتمركز فى طريقة القول الشعرى لا فى القول نفسه .
ان تلك الرؤية النقدية لا تخلو من منطق تبريري هدام تتفاقم اضراره اذا ما تجاوز تطبيقها ميدان الادب الى ميادين الحياة الاخرى كالثقافة والفكر والسياسة لان ذلك من شانه تبرير اية جريمة مهما كانت عند الفصل بين الضحية وطريقة التنفيذ ما دامت العبرة فى (اسلوبية ) التنفيذ وهو منطق. ذرائعى عقيم خال من معيارية القيم . وهو المنطق نفسه الذى استخدم فعلا فى مجال السياسة الدولية واستثمرية بعض الدول العدوانية العالمية ضد الدول الاضعف فيما اطلق عليه دهاقنة السياسة الامريكية (الضربة الجراحية) التى تقوم بها قوات سلاحهم الجوى ضد اهداف انتقائية محددة , واية ذلك ان تدمير (الموضعى) لاهداف بعينها سلوك (مشروع) على خلاف التدمير العشوائى او غير المركز . اما المسوغ القانونى والاخلاقى لـ (موضوع) او محتوى العدوان فمسالة لا اهمية لها ان تلك المنطقة المجردة هى التى استندت اليها فى – مضمار – الادب – استراتيجية الفصل بين الادب والاخلاق وكائن الادب والاخلاق نقيضان يتعذر التقاطهما . فلسنا تجد تفسيرا معقولا او منطقيا لضرورة تجريد الادب او وظيفته الجمالية من معيار القيم , ولماذا لم يمكن لادب العصر الراهن ان يعبر عن روح جماعية متطلعة الى الخير والجمال فى مفهومهما الانسانى الكلى ؟
ان الاشكالية الاخلاقية – فى مجال الادب – تبصدر عن موقفها من بعض المضامين اودبية – الشاعرية ذات الصلة المباشرة ببعض الميول الغريزية المتندية كالغريزة الجنسية على سبيل الحصر وميدان هذه النزاعات انما هو ميدان فردى لا شان لجماعة به وقد درجت الاتنسانية عبر ارتقائها فى سلم الحضارة على كبح تلك الغريزة والتستر على ما يتعلق بها نظرا لمرجعيتها البدائية الحيوانية التى تتنافى مع قيم الانسانية المتحضرة . ولذا فان اشباع تلك الغريزة هى اختيار فردى فى حدود علاقات خاصة . فما الذى يدعو الفرد الى التكشير عن انيابة الجنسية على الملأ ؟ ان تلك النزاعات والاحاسيس لا تصلح باى حال من الاحوال ان تكون موضوعات يتسدق بها اديب او مثقف فى المحافل العامة واوساط المجتمع بحكم تناقضها مع الزوق الاخلاقى العام فمكمن الاشكالية النقدية التى نحنو بصددها فى كيفية العلاقة بين الرجل والمراة التى تتحدد فى ضوء البنية القيمية والوظيفية اليت تستند اليها نظرة الرجل لنصفه الاخر . وهى اشكالية ذات طبيعة تناقضية يعكسها تاريخ النقد الطويل , فكيف يمكن ان تحل تلك الثنائية (الجنس/الاخلاق)؟ ان حل الاشكالية الابد ان يقوم على تدمير احد طرفى الثنائية. وقد انحازت بعض الاتجاهات النقدية القديمة واغلب الاتجاهات المعاصرة الى تكريث الدافع الجنسى مقابل الغاء القيم وهو انحياز له مرجعياته السيكولوجية العميقة , فالفصل بين لغة النص الادبى ومحتواها فى العملية النقدية ضرب من الوهم و التضليل , ذلك ان الجمال الادبى والشعرى فى المفهوم النقدى الحداثى لا يمكن ان يكون جمالا عائما فى فراغ فالاستجابة لنص من النصوص الشعرية على شاكلة قصيدة امرئ القيس المذكورة او عمر بن ابى ربيعية او نذار قبانى باستثناء اعماله السياسية لايمكن تذوقها اذا لم تكن تلاقى نزعات مماثلةو انماطا شخصية وقيمية متطابقة مع محتوى النص الكامن فى شخصية المبدع فالنص الشعرى مثل الموقف النقدى يمثل عملية اسقاطية لا شعورية لشخصية المبدع وقيمه الجمالية والاخلاقية فهل من الممكن عدم اقامة اى علاقة بين الانان وابداعة ؟ فمن اى قوت يقتات هذا الابداع اذا لم يكن ابداعه صادرا من تلك القيم التى تعمل عند المبدع ان من التعسف والاسفاف الدعوة الى تحرير النص الشعرى من مفهوم القيم وهو موقف لا يختلف فى شئ عن موقف من يدعو الى الغاء الرقابة الاخلاقية عن دور العرض السنمائى للتخذ الاشرطة السنمائية الاباحية سبيلها الى المجتمع ما دامت وظيفة الفن السنمائى تنحصر فى الوظيفة الامتاعية الخالصة .
ان المنطق القيمى الاخلاقى يستلزم استبدال الذى هو خير بالذى هو ادنى وليس العكس فالاخلاق هى جوهر الانسانية وماهيتها المتعالية وان الدافع الجنسى ايا كانت الياة التعبير عنه لايعدو كونه اكثر الجوانب الانسانية انحطاطا واقربها الى البدائية اذا ما استخدم فى غير وظائفه الانسانية المعروفة وان تلك الرؤية النقدية التى تعمد الى اخراج الادب من حيذ المعيارية الاخلاقية انسياقا وراء العملية الذائفة حينا والعابثة حينا اخر لابد ان تتمخض عن احدات خسائر ليست هينة على صعيد الارتقاء الحضارى لان الادب تمظهر اساسى لروح الانسانية المتعالية وتتطلعها نحو السمو والكمال ذلك لاننا يمكن ان تصور الحياة بلا ادب فاحش لكننا لا نستطيع ان نتحمل الحياة بلا قيم ومن ثم فانه فى الامكان التخلى عن ذلك الركام من الادب الردئ لكنه يتعذر علينا التخلى عن معايير القيم الاخلاقية وان المبدع والناقد اذا لم يكن ملتزما للدفاع عن القيم الانسانية وسموها فانها غير مضطر الى ان يجعل ادبه اداة لتهديم القيم واشاعة القبح والرزيلة
معلومات عن الكاتب