الأسلوب والأسلوبيات
الأسلوب
ترجع كلمة الأسلوب style في العربية إلى الطريق الممتد أو السطر من النخل، وفي اللغات الأوربية المختلفة إلى كلمة stylus اللاتينية التي تعني قضيب الحديد المدبب الرأس الذي كان القدماء يستخدمونه للكتابة على الألواح المشمّعة. وهي تشير عند استخدامها في سياق متصل بسلوك إنساني ما، إلى القسمات المحدّدة التي تطبع هذا السلوك بطابع يمنحه هويته الخاصة. وهكذا يمكن الحديث عن أسلوب غلين غولد Glenn Gould في العزف على آلة البيانو بمعنى جملة الخصائص والسمات التي تحدد هوية هذا العزف، وتجعله متميزاً من عزف سواه من مشهوري العازفين على هذه الآلة الموسيقية. وكذا الشأن عند الحديث عن أسلوب فلان في الإدارة، أو في الحديث، أو في كرة المضرب، أو في إدارة الندوات، أو في المحاضرة، أو في غير ذلك من النشاطات الإنسانية، إذ المقصود بكلمة «أسلوب» هنا اختزال الخصائص المميزة لهذا النشاط أو ذاك، ومن ثم نسبتها إلى ممارسه بغرض مساعدة المخاطب في عملية إدراك هذه الخصائص. ويمكن القول إن الأسلوب سمة أصلية من سمات تفكير الفرد، أو طريقة في كتابة جنس أدبي، أو طريقة في الكتابة شاعت في عصر أدبي معين.
والممارسة اللغوية، بوصفها نشاطاً إنسانياً، غالباً ما تتسم بخصائص معينة، وصفات محددة، وطوابع مميزة تحدد هويتها. وعندما تضاف كلمة «أسلوب» إلى ممارسة لغوية ما، أو إلى ممارس لغوي ما، فإنما يقصد بها الخصائص اللغوية المميزة لهذه الممارسة (المتمثلة بنص ما، أو بمجموعة من النصوص) التي يقوم بها فرد ما (المعري مثلاً)، أو فئة ما (المتصوفة أو مجموعة معينة من رجال الدين)، أو أمة ما (الألمانية)، في مكان ما (شمال إنكلترة)، وفي زمان ما (العصور الوسطى) وهكذا. إنها تعني ما يحدد هوية هذه الممارسة اللغوية في سياق معين، أو هي الطريقة التي تستخدم بها اللغة من جانب الممارس في أثناء أدائه لوظيفة من وظائفها في حياته.
والأسلوب بهذا المعنى مؤسس على الاختيار الذي يقوم به ممارس اللغة، ومجاله الكلام parole وليس النظام اللغوي Langue. فمستخدم اللغة عندما يمارس أي نشاط لغوي إنما يصدر عن هذا النظام اللغوي المتاح لجميع مكتسبي اللغة، يوظفه بطريقته الخاصة لأداء وظائف مختلفة. ويتأتى له ذلك باختيارات ممكنة في هذا النظام يعمد إليها على مختلف المستويات اللغوية (المستوى المعجمي، والصوتي، والفونولوجي، والصرفي، والنحوي، والدلالي، والإنشائي)، وتؤلف في مجموعها ما يمكن أن يدعى بالأسلوب الخاص به. وقد تميل هذه الاختيارات إلى نوع من التكرار وتؤلف أنساقاً patterns يستطيع دارس الممارسة اللغوية أن يستخرجها ويميز من خلالها هوية صاحبها فينسبها إليه استناداً إلى معرفته بممارسات سابقة له.
ومجموعة الاختيارات التي يقوم بها أي ممارس (أو مجموعة ممارسي) اللغة قابلة للدرس والتحليل والوصف ومن ثم تحديد الهوية، والتصنيف تحت عنوان الأسلوب الخاص بهذا الممارس. ولكن الغالب في هذه العمليات أن تنصرف إلى النظر في اختيارات المميزين من مستخدمي اللغة، ولاسيما الأدباء. وهذا أمر طبيعي لأن الاختيارات الفردية، التي يلجأ إليها ممارس اللغة من الممكنات في النظام اللغوي، لا تستأثر باهتمام الدارس الأسلوبي إلا عندما تبرز على نحو من الأنحاء بمقارنتها مع الممارسة اللغوية المألوفة في لغة الحياة اليومية من جهة، ومع النظام اللغوي الذي يحكم أية ممارسة لغوية في تلك اللغة. إن استخدام الكاتب يميل إلى الإفادة القصوى من الطاقات الكامنة في هذا النظام، وهو ما يقف في الحقيقة، وراء «أدبية» literariness النص الذي ينتجه، وبالتالي وراء اعتراف المجتمع به وتقديره له، والعناية به حفظاً، ودرساً، ونقلاً، وربما إثابة صاحبه بالطرق المتيسرة في عصره.
الأسلوبيات
الأسلوبيات stylistics هي الدراسة اللغوية للأسلوب الذي يمكن أن يعزى لأي ممارسة لغوية مكتوبة أو منطوقة. ومع ذلك فإن هذه الدراسة غالباً ما تعنى بالممارسات الأدبية المكتوبة، أي بالنصوص التي يقر المجتمع بأدبيتها، ويبوئها مكانتها الفنية الجديرة بها، مع أنها يمكن أن تجد نفسها في موضع تقديم خدماتها في مرافق مختلفة من مرافق المجتمع الحديث.
والعناية بدراسة الأسلوب قديمة قدم مفهوم الأسلوب نفسه، ولكن من الممكن الإقرار مع شارل بالي[ر] Charles Bally بأن اللغة، حتى القرن التاسع عشر، لم تكن تدرس من أجل ذاتها، وإنما من أجل غايات أخرى مثل الصياغة المنطقية للفكر، وما كان يسمى بصحة الأسلوب، وفَهْمِ الكتاب الاتباعيين (الكلاسيكيين) الذين لم يُعدّوا نماذج أدبية فقط، بل نماذج لغوية أيضاً. ويمكن للمرء أن يشير في هذا السياق إلى هوراس[ر] Horace وكتابه «فن الشعر» Ars Poetica، وإلى التأثير الواسع والمديد زمنياً الذي مارسه أنموذج شيشرون[ر] Cicero ثم أنموذج سينيكا[ر] Seneca في الكتابة الأوربية منذ عصر النهضة، وإلى بحوث وليم جونز[ر] William Jones في اللغة السنسكريتية ودراساته اللغوية المقارنة عنها وعن اللغات الأوربية الحديثة، وإلى فرانز بوب[ر] Franz Bopp ودراساته عن السنسكريتية وصلاتها باللغات اللاتينية واليونانية والجرمانية، وإلى دراسات ماكس مولر[ر] Max Muller وغيرها.
ولكن الدراسة الثورة التي كوّنت الانعطاف الحقيقي في تطور اللسانيات[ر]، ومن ثم في الأسلوبيات، كانت محاضرات فرديناند دي سوسور[ر] Ferdinand. de Saussure في اللسانيات العامة التي نشرت بعد وفاته والتي تأسست عليها بحوث شارل بالي، أحد تلامذته، وغيره من أمثال ليو شبتزر Leo Spitzer، وإريك أورباخ Erich Auerbach، وداماسو ألونسو Damaso Alonso، وريتشاردز Richards، وستيفن أولمان Stephen Ullman، وجفري ليتش Geoffrey N. Leech، وروجر فاولر Roger Fowler، وسيمور شاتمان Seymour Chatman، وبيير غيرو Pierre Guiraud، وهاليدي M.A.K.Halliday، والباحث الفنلندي المشهور نيلز إريك إنكفيست Nils Erik Enkvist، وميشيل ريفاتر Michael Riffaterre وغيرهم.
لقد بذل هؤلاء الباحثون جهوداً كبيرة في الدراسة اللغوية للأسلوب في مختلف الممارسات اللغوية، وكان للنصوص الأدبية، بالطبع، نصيب واف. وهو أمر طبيعي، لأن الأدب فن لغوي، وهو إنشاء discourse أداته اللغة يوظفها الكاتب فتؤدي وظائف مختلفة متفاوتة في أهميتها، وتتصدرها الوظيفة الجمالية aesthetic function التي تجعل من هذا الإنشاء إنشاءً أدبياً. وتتحقق هذه الوظيفة من خلال مجموع الاختيارات التي يقوم بها الكاتب والتي تجعل استخدامه للغة استخداماً متميزاً يحمل طابعاً خاصاً تعرف به ممارسته، وتتحدد هويتها من خلاله، أو أسلوباً ينسب إليه. والأسلوبيات هي العلم الذي يمكِّن دارس الأدب من جمع معطيات محددة ودقيقة عن الاختيارات الفردية للأديب في ممارسته اللغوية التي تسمى أدباً، وتفسر جانب مهم من جوانب أدبيته يستند فيه إلى مصطلح واضح ودقيق، ونماذج متطورة في التحليل، وإلى أطر نظرية تحكم ما يقع عليه من أنساق وقسمات لغوية مميزة في هذه الممارسة اللغوية، أو النص الأدبي. وبعبارة أخرى إن الأسلوبيات يمكن أن تكون أداة ممتازة للناقد الأدبي في مقاربته للنص الأدبي تساعده في وضع يده على ما يكمن وراء أدبيته، وبها يكون تقديره لهذا النص قائماً على أساس من الوصف اللغوي الدقيق الذي يوفر أدلة نصية تفسر الوظيفة الجمالية في الأدب. والناقد إذ يعتمد على هذه الأداة يحتفظ باتساق رفيع لفعاليته الفكرية لأنه يصدر في مقاربته للنص عن منهج يستجيب لأداة هذا النص الأدبي وهي اللغة الطبيعية.
والأسلوبيات، فضلاً عن تيسيرها عمل الناقد في شرحه للنص الأدبي وتحليله وتفسيره والحكم عليه، يمكن أن تيسر له شأناً آخر من شؤون هذا النص هو صحة نسبته إلى مؤلفه الحقيقي. فالباحث الأدبي يستطيع بالدراسة الأسلوبية القائمة على استخراج القسمات اللغوية الخاصة بالمؤلف، أن يؤكد، أو ينفي، نسبة نص ما إلى مؤلف ما. وهو أمر شائع اليوم في تحقيق النصوص الحديثة والقديمة على السواء.
ولكن الأسلوبيات لا تكتفي بتقديم خدماتها للناقد والباحث الأدبي فقط، فكثيراً ما يلجأ إليها، ولاسيما الأسلوبيات الإحصائية منها، رجال القضاء والقانون في دراسة الأدلة اللغوية المكتوبة والمنطوقة التي بين أيديهم، وكثيراً ما تتوقف براءة متهم أو إدانته على حصيلة ما تقدمه في تحليلها لهذه الأدلة وموازنتها بممارسته اللغوية الأخرى. ولاعجب في ذلك، لأن الكشف عن غوامض العالم الإنساني ربما كان بحاجة إلى استخدام معطيات دراسة ما يميز هذا العالم من غيره، أي اللغة الإنسانية، موضوع اللسانيات والأسلوبيات.
وقد اقترن مفهوم الأسلوب والأسلوبية عند العرب بالدراسات البلاغية، واتسع هذا المفهوم مع نمو الدراسات النقدية اللغوية، ومع الحديث عن نظرية التخييل الشعري التي استخلصها الباحثون العرب من شرحهم لكتاب «الشعر» Poetics لأرسطو. وثمة إشارات مبكرة إلى اهتمامهم بهذا اللون من البحث يجدها المتأمل عند الجاحظ (ت 255هـ) وعند ابن جني (ت 392هـ) في «الخصائص»، وعند غيرهما وبلغت الدراسات قدراً من النضج في هذا المجال عند عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) في «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، وعند حازم القرطاجني (ت 684هـ) في «منهاج البلغاء وسراج الأدباء»، وعند ابن خلدون (ت808هـ) في «المقدمة».
وأولى الأسلوب والأسلوبية قدراً من الاهتمام باحثون محدثون أمثال أحمد الشايب، وأمين الخولي، وصلاح فضل، وعبدالسلام المسدي، وسعد مصلوح وسواهم.
عبد النبي اصطيف
__________________