ملايين من المسلمين يمتنعون عن الالتزام بالإسلام أو يؤجلون الالتزام به. والغريب أنه عادة ما يحدث الامتناع عن حسن نية. إذ
تراهم يجادلون من يدعوهم إلى إقامة الصلاة مثلا بدعوى أنهم يخافون سوء العاقبة من
أداء هذا المنسك مع تركهم لمنسك آخر. أو ترى الزاني منهم أو شارب الخمر أو آكل مال
اليتيم أو المقترف لأية كبيرة أخرى يتذرع بصنيعه لكي يتهرب من أداء الواجبات
الدينية، غير عابئ بإمكانية النهي الذاتي والتوبة والصلاح.
وواضح أن المسلم، في مثل هذه الحالات العديدة والمتكررة، واقع تحت وطأة
الآية الكريمة " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
(سورة البقرة الآية 85). وهذا دليل على أية حال على إخلاصٍ مبدئيٍّ لدى المسلم
لدينه، إن كان سلوكه جيد أم مشين. وإذا حصل لديه
ابتعاد عن الدين (الامتناع عن الممارسة) فعادةً ما يكون مردّه الرغبة في
تطبيق كل الكتاب، وعادة ما يكون سببه الجهل المنهجي لا الكفر بالدين.
وعلما بأنّ غالبية المسلمين يتهرّبون من الدين، هكذا، خشية أن يقعوا في فخ
الإيمان بالبعض والكفر بالبعض الآخر، وما دامت مسألة المنهاج المنقذ من هذا الضلال
هي بيت القصيد، فلسائل أن يسأل عمّ إذا وفر الفكر الديني الإنساني المعاصر الوسائل
الكفيلة بأن يعود المسلم إلى دينه. والجواب عندي كان وسيكون دوما بالنفي، في هذه
القضية.
كما أن تداعيات قضية تهرب المسلمين من دينهم تبقى مجسمة عندي في ما أسميه "الاحتباس
التواصلي"، حيث أنّ الالتزام بالدين معطَّل بواسطة العائق المنهجي. والأخطر
في هذا التعطيل هو أن على قدر تأخرِ الحل في التشكل على قدر ما يتم اختزال
الالتزام بالدين في الالتزام بالتنفيذ الراديكالي للمناسك. وهذا المنعرج يبرهن على
أنّ التهرّب من الدين لم يعُد مشكلة تخص أولئك الذين يسكنهم هاجس التخوف والخشية
فحسب، بل تحوّل أيضا إلى أولئك "الملتزمين" حيث أنهم ربما وقعوا في فخ
من صنف آخر، فخ تأويل خشية إخوانهم في الدين على أنها ريبة وشك بخصوص الدين، لا
سمح الله. لذا فلا كان التهرّب حلاّ ولا كان التقرّب المنفعل حلاّ.
بينما عودة المسلم إلى دينه
عندي، والالتزام الذي أقصده إنما هو التزام بعقيدة التوحيد وترجمتها في الوجدان وفي الفكر وفي العلم وفي
المعرفة وفي الحياة كافة. وذلك لأني أؤمن بأنّ الإسلام حياة.
ثم بما أني أؤمن بأنّ اللغة، مثل الإسلام، هي أيضا حياة، فالمعادلة
المنهجية هي أنّ الإسلام لغة، وبالتالي فهو يشتغل مثلما تشتغل اللغة، ويمكن أن
يلجأ المسلمون إلى علوم اللغة ليحلّوا بها مشكلة واقعة، لا في الدين نفسه، بل في
العلاقة بين المسلم ودينه. والمشكلة التي نحن بصدد تفكيكها ، مشكلة الاحتباس
التواصلي وما يحتويه من تراجع المسلم عن دينه، تقع بالضبط في هذه البوتقة. فما هو الحل إذن؟
كل الألسنيين يعلمون "الوظيفية" في علم اللغة. وهي باختصار شديد
مقاربة مبنية على نظرية "النحو التوظيفي" تؤكد على أنه يستحيل رصد "خصائص"
اللغة إذا لم يتمّ ربط تركيبة اللغة وبنيتها بـ"وظيفة" "التواصل".
وهذا لعَمري سهل التطبيق في مجال علاقة المسلم (كمتكلم للغة الدين) بالدين
(باعتباره لغة). بل إن تطبيقه أيسر في هذا المجال من تطبيقه في مجاله الأصلي، مجال
اللغة نفسها، كما سنرى.
إنّ اليسر في تنفيذ المقاربة "الوظيفية" في مجال التديّن (علاقة
المسلم بدينه) يظهر لمّا نعلم أنّ خصائص الإسلام معروفة للقاصي وللداني ولا
تستدعي"رصدا" مثلما يكون رصد الخاصية غير المعروفة (مثلما هو الشأن في
اللغة عموما) (2. وخصائص الإسلام ستّة مع خمسة، أركان الإيمان وأركان
الدين. الإيمان بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر،
خيرِه وشرِّه، من جهة، والشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه
سبيلا، من الجهة الأخرى. والوَصل بين المجموعتين يتطلب البراعة في التواصل، وما
النجاح في الوصل إلاّ نجاح في التواصل.
فماذا بقي أن ينجزه المسلم للتخلص من الإعاقة التي طالما منعته من الالتزام
بدينه بدعوى خشيته من أن يُتهمَ بالإيمان ببعض الكتاب وبالكفر بالبعض الآخر، إذا ما
عرف أنّ الأركان كلها تستوجب حسن التواصل حسب المبدأ التوظيفي؟
أولا، ينبغي أن يعي أنّ تلك الخشية،
فضلا عن كونها برهان على التمسك بالإيمان، إنما هي أيضا في الوقت ذاته، ومن
المنظور العملي البرغماتي، من باب سوء الظن بإمكانياته الفعلية لتحقيق الالتزام
بالدين. فالمسلم يظنّ خطأ أنه سيقع لا محالة في خطأ الإيمان بالبعض والكفر البعض،
بينما هو في الحقيقة يؤمن بالكل ولا يعرف كيف يصل البعض بالبعض.
ثانيا، ينبغي عليه أن يصمّم "وظيفة" تواصلية يصبح بمقتضاها
ملتزما بهدف مُعين. وتشكيل الهدف يعتبر بحد ذاته شرطا للاضمحلال المرتقب لسوء ظنه
بإمكانياته الفعلية في مجال تحقيق التدين الصحيح.
ثم الوظيفة التواصلية إلى جانب الوظيفة الأخرى، والواحدة تلو الأخرى، سيكرس
التكامل الإيماني. وهو تكامل يحدث هذه المرة لدى المسلم الفرد من باب أولى وأحرى
(تكامل الأركان مع بعضها البعض والصنف مع الآخر لدى الفرد) في محك العلاقات
المتعددة بين الأفراد في صلب الجماعة و المجموعة والمجتمع. وهو تكامل يُضاف إلى
تكامل آخر إذا اعتبرنا التكامل الإيماني الذي ينبغي أن يحصل أيضا بنِية تكميل
المسلمين بعضهم البعض، كلٌّ حسب ما يختصّ به دون سواه من المسلمين، من فعل إيماني
إيجابي لا يتملكه المسلم الآخر.
في هذا السياق، إنّ غرض تغيير ما بالنفس وحده يحتوي على عدد لا متناهٍ من
إمكانيات للـ"وظائف التواصلية" تبدأ بمراجعة أواصر الأخوة وصلة الرحم،
وتمرّ بتحديد العلاقة بالزمان وبالمكان، وتنتهي بتصحيح النظرة إلى العقيدة كمُطهر
شامل للقلب وكميزان عادل للعقل. كما أنّ فكرة الوحدة بين الشعوب العربية
والإسلامية تشتمل على ترسانة من "الوظائف التواصلية"، شريطة أن لا تخضع
إلى دوغمائية مسبقة بقدر خضوعها إلى سنن التواصل الطبيعي بين أناس لا يتطلعون إلى
ما هو موجود (اللغة والدين وصلة الرحم وغيرها) بل ينطلقون منه لتصميم المشاريع
والبرامج. فالمشاريع والبرامج التربوية والإعلامية والعلمية والاجتماعية
والاقتصادية بين شعوبنا إنما هي "وظائف تواصلية" إذا ما تمّ تحويل
المنظور الذي تُصمم منه، من منظور يشك أصحابُه في إيمانهم إلى منظور يسمح أصحابُه
لأنفسهم بالشك الفكري والمنهجي، الذي يؤدي إلى اليقين في الأداء العملي.
]في ضوء ذلك كله أعتقد أن المسلمين يستحقون مكانة أرقى من تلك التي ثبتتهم
فيها حيرتهم بخصوص ما ثبت من أركان في العقيدة وفي الدين. ويالَيتهم يرتقون بأنفسهم
من تلك الحيرة المولِّدة للشقاء إلى حيرة مولدة للهناء.وليس ذلك بعزيز عليهم مادام
الواقع العالمي يعرض عليهم الآفاق الرحبة ويشير إليهم بأبواب مفتوحة على مصراعيها،
ليحتاروا، لا في العقيدة، بل في اختيار ما ينسجم مع الغايات والأهداف المشتركة لمجتمعاتهم من "وظائف تواصلية" لا تحصى ولا
تعدّ.
محمد الحمّار
*صاحب فكرة "الاجتهاد الثالث" و"أتكلم إسلام"، تونس
الهوامش:
(1) أسميت عملي أيضا
"التحت اجتهاد" و"اجتهاد الأنفاق" قبل أن يستقر رأيي عل "الاجتهاد
الثالث". والتسميتان الأوليتان
تعبران عن موقفي في هذا الموضوع بوضوح: لا الفكر التقليدي ولا الفكر المعاصر يعتبر
أنّ حل مثل هذه المشكلات الدينية ينبغي أن يتم البحث عنه خارج الدين ؛ والحل
بالنسبة لي في علوم التربية الألسنيات. لدي عدة أدبيات في هذا المجال، مثلا
"الإسلام دين وعلم ولغة" أو"في تجديد الفكر
الديني" أو"أخي الإنسان العربي المسلم، تمهل الطريق من هنا"، منشورة في عدة
مواقع.
وهذا لا يمنع المفكر من
اللجوء إلى المقاربات الاستقرائية، وهي التي تعين المسلم على استكشاف المبدأ
والقاعدة من القوانين الموجودة (الأركان). والاستقراء أيضا معمول به في نظرية
النحو التوليدي والتحويلي في الألسنيات.
لدي مقال في هذا الشأن
نشر تحت عدة عناوين منها "التكامل الإيماني أول الطريق لتشييد ثقافة
الرغبة بالنهوض"، موقع 'المتوسط أونلاين
http://www.mutawassetonline.com/culter/3113-2010-04-20-23-56-48.html