اعتلت الطريق الموازي للساحل سيارته الرمادية التي كستها قطرات المطر المتلاحقة ..يتكسر عليها أضواء السيارات المقبلة والمدبرة تحت سماء أعلنت عن كشف سترها لتترك المجال لبضع نجيمات تحول بين سحابات صغيرة تحاول أن تلحق بالركب في سماء قاتمة. وابت الأمواج إلا أن تتكسر على الشاطئ الممتد بمحازاة الطريق.
بلغ الصراع أوجه بين خصلات شعره الطويلة وصرير تلك الرياح الباردة المتسللة من شريط ضيق بالنافذة ..لكنها أبدا ما ناهزت صرير الدفق المتلاحق لأنفاسه المتقطعة تحت صدر تكالبت عليه المساحات والزمن والذكرى ..وازيز دمعات احتبست ، تستجمع قواها وتستوحش ذلك المقعد الذي بجانبه .. كم اتسع لها واحتضنها وحملها معه في أسفاره وترحاله الدائم..
مر على تلك الثغرة التي حلمت يوما أن تجمع منها بعض الحصى وتلقيها بمياه البحر مودعة كل منها أمنية لعل الموج يوما يحملها إليها بالبشرى.
توقف هدير المحرك يستمع إلى خطواته المهرولة نحو الثغرة والتي عادت محملة بحشرجة الحصى في معطفه المغمور بمزيج من مياه البحر والمطر..ليعاود مساره المعهود وقد زاحم الطريق معه سبع سنوات مضت في ساعتين.
ما أن شرف على مدخل المرفأ حتى أشهر بطاقتين إحداهما تصريحا للدخول والأخرى لإعتلاء السفن.. لم يتخذ الأمر إلا بضع ثوان أمام الوجوه التي اعتادت دلوفه المتكرر بالمكان..
كانت هناك.. حيث ذلك البهو الذي طالما انتظرته به في رحيله وعودته ..حيث اتكأت على مقعد مكتوفة الأيدي.. مميلة رأسها على مسنده ..ولم تتكلف جهد الاطمئنان على حقائبها في صالة التفتيش ..حيث استجمعت من اليقين بأن أثمن ما يمكن ان تحمله معها هو في داخلها..
استوقف سكونها الطويل ذلك الذي وقف على مقربة تلفحها نظرات حارة ضائقة بالحنين.. ويحرقها ألا ترغب في حمل بعض منها معها .. واعتصمت عيناها عن مبارحته .. في عزم توجهت نحوه .. بينما احتفظ جسدها بذاته حيث كان.
- سأظل على القمر ..كما انا.. أهذا ما كنت تبتغيه؟
- رأيتك دوما تعتلين عرش القمر.. ورأيتنى ممرغ في وحل الأرض.
- لم يسعني يوما.. فقط اردت أرضك..
- وما قيمة أرض تعلوها سماء ليس لي نصيب فيها إلا النظر إليها !!
- كم ناشدتك أن تأخذ بيدي..فقط أن لا تراني فوق القمر..فقط أنزلني عن القمر.
- خشيت استوحاشك لأرضي..
- وأنا أكره أرض الخوف..وليسعني قمري..وتضيق بك أرضك.
- وتلك السنوات الماضية؟؟
- ليس لها مكان بين الأرض والسماء..
دوى الميناء بصافرات السفينة المنذرة بالرحيل .. مع نداءات تستجمع الرحل المتفرقين ..وتشتت اللحظات الآيلة للانعتاق من أغلالها ..والانعتاق فيها..
اقترب..واقترب..أعتقت يداه في كفها تلك الحصوات التي حملها إليها ..ممزوجة بملوحة البحر..ومرارة الذكرى..وأمطار الرحيل..
وابى كبرياؤها أن ينحصر..أفلتتها من بين أصابعها .. وتداركتها أمنيات محملة بها على أرض الرحيل ..أطلقت سراحها المبعثر ليتخذ كل منها طريقا .. بينما انزوت واحدة فقط بين أقدامهما..
احتضنت يداها وجنتيه المنداتين بدموع ساخنة لتستجمعها في كفيها المتعرقين .. وتحكم قبضتها عليها ...
- أعدك ألا ينضب تذكارك هذا.. ليذرف نهر أوجاعك.. لتبك حبيبي !