هل يستطيع ما بعد الحداثيين إدانة الإرهاب ؟
" لا تلُم ِالنسبية "
كتابة : ستانلي فيش
ترجمة: معين جعفر محمد
هل أنت الآن ( أو هل سبق أن كنت ) ما بعد حداثي ؟
حتى الآن، لا أحد يتساءل بهذا السؤال. و لكن إن يكن لما سمعته و قرأته في الأشهر المنصرمة، أية دلالة ٍ يُعتدُّ بها، فما هي إلا مسالةُ وقت يمر قبل أن يُطلب من الناس الذين يتقولون بأشياء من نحو: " لا توجد مقاييس كلية للحكم "، أو " توجد أكثر من طريقة لمعاينة هذه الأزمة " ... أن يقوموا بتسليم مفاتيح حماماتهم، ويستقيلوا من مناصبهم ثم يلتحقوا برفاقهم الإرهابيين في كهف ما في أفغانستان. هذه الترجمة الجديدة لمبدأ "أحبب أمريكا أو غادرها !" موجهة ٌ إلى قلة ٍ من أساتذة الأدب و التأريخ و السوسيولوجيا الذين يقال لهم الآن إنهم مسؤولون مسؤولية مباشرة عن إضعاف النسيج الأخلاقي للأمة، و مسؤولون مسؤولية غير مباشرة عن الهجوم الذي تعاني منه أمة ٌ مستضعَفَة . و لا غرابة في وصمة عار التحول إلى كبش فداء هذه ، إذ يتاجر بها كل من بات روبرتسن Pat Robertsonو جيري فالويل Jerry Falwell ، و لكنه أمر يسبب قليلا ًمن الإحباط أن نفاجأ بها على صفحات صحافتنا الأكثر تميزا ًأو نسمعها من فم معلق ٍ معتمد ٍ في الإذاعة الوطنية العامة ، أو من ماير جلياني Mayor Giuliani الذي أعلن عن " نسبية ثقافية " في خطاب ٍ له أمام الأمم المتحدة .
و ما انفك قرع الطبل يصاعد باطراد. فقد أعلن روجر روزنبلات Roger Rosenblatt ( الذي دائما ما يعتد به مثلا لولاء سهل ) في " التايم " أن " عصر مفارقة التضاد قد انتهى " و أن الناس الخيرين المسؤولين عن " الحياة الفكرية الأمريكية " سوف يضطرون على الاعتراف بأن الحقيقة حقيقة .و في " الجمهورية الجديدة " The New Republic ( المجلة التي ربما عنَّ لك ذات مرة أن تقرأها بحق ٍو حقيقة ) صرح بيتر باينرت Peter Beinert أنه في الحادي عشر من أيلول، " أصبح التعامل مع الغموض مستحيلا ً " و أصبحت « المعارضة ... لا أخلاقية ». و في صفحة إعلانية كاملة ظهرت ْفي ال( نيويورك تايمز) أعلمنا ليونارد بيكوف Leonard Peikoff أن أكبر معجزة لانتصار الولايات المتحدة هي « مفكرونا نحن... دعاة التعددية الثقافية النابذون لمفهوم الموضوعية ». و إن جون ليو John Leo (الذي هو في الأقل ، يقول ما نتوقع منه أن يقوله) قد لامس « الأفكار الخطيرة » المتمثلة ب « نسبية ٍ ثقافية ٍ راديكالية ... و اقتناع ما بعد حديث postmodern بعدم وجود حقائق أخلاقية تستحق الدفاع عنها.»
و على نحو ٍ عام ٍ، ثمة محاجتان جاريتان الآن ( في آن واحد في أغلب الأحيان ) وسط هذا الخضم من الآراء : تفيد الأولى – أن أحداث الحادي عشر من أيلول تثبت خطأ ما بعد الحداثة ؛ أما الثانية فمفادها أن ما بعد الحداثة مسؤولة على نحو ما عن أحداث الحادي عشر من أيلول : إن لم تكن مسؤولة ًعن الحقيقة ، فهي مسؤولة ٌعن ضآلة الحل الأمريكي. وهكذا، أعلنت جوليا كلر Julia Keller في صحيفة " شيكاغو تربيون " Chicago Tribune عن « نهاية ما بعد الحداثة » مستندة إلى تعليل ٍ فحواه أنه لا يمكن لأحد ٍ ما بعد حداثي الاحتفاظ بوجهات نظره ( أو نظرها ) و الاعتراف بواقع طائرة ٍ تضرب برجا ً. و لا يُعهَدُ في أي أحد ٍ ما بعد حداثي إنكار هذه الواقعة أو أية واقعة ٍ أخرى. إن ما يُعهَدُ إنكاره هو إمكانية وصف الواقعة ، و من ثم تقييمها، بلغة ٍ يمكن أن يتقبلها كافة المراقبين العقلانيين , و لو كانت تلك اللغة متوفرة ً، لما كانت رهينة ً لأية وجهة نظر ٍ و لما تعدت وظيفتها تسجيل الأشياء كما هي فحسب و إن كثيرا ً ممن هم ما بعد حداثيين ليحملون فكرة َأن لغة ً من هذا النوع لن توجد على الإطلاق.
إن الإيمان ما بعد الحداثي بهذه العقيدة ، هو ما أفضى بإدوارد روثشتاين Edward Rothstein الى إبداء تذمره في صحيفة النيويورك تايمز من أن ما بعد الحداثيين القائلين بعدم وجود شيء ٍ اسمه تحديد ٌموضوعي ٌ للحقيقة و القائلين أيضاً ، بعدم وجود من يمتلك عنوانا ً واضحا ً للأساس الرفيع لما يُدعى ب(مبادئ كلية ٍ) .. يتركون أنفسهم - و يتركوننا نحن في معيتهم إذا ما أصغينا إليهم – بلا مبدأ أساسي ٍ لإدانة ٍ« معولة ٍ عليها » لما تم القيام به في الحادي عشر من أيلول . و لكن ذلك لا يصلح بالضرورة مثالا ًيُتبّع على الإطلاق. فليس المبدأ الأساسي لإدانة ما تم القيام به في الحادي عشر من ايلول ، مجموعة مفردات ٍ من نحو : العدالة و الحقيقة و الفضيلة – و هذه صفات ٌ ادعاها الجميع لأنفسهم ، بمن فيهم أعداؤنا ، و لكن لا أحد ترفع عنها – بل هو الحقيقة التأريخية لأسلوب الحياة ، أسلوبنا نحن في الحياة، و كانت تلك هي الهدف لهجوم ٍ كبير .
ص2
في أوقات ٍ كهذه ، تلجأ الأمم ( و هي محقة ٌ إذ تلجأ ) إلى اسطوانة الطموح و الإنجاز التي تشكل فهم مواطنيها لما يعيشون به و من أجله . ذلك الفهم يُعَدُّ كافيا ً، و بعيدا عن تقويض كفاءته تلك ، فإن الفكر ما بعد الحديث postmodern يتكفل به و ذلك بإرجاعنا إلى الأسس التبريرية التي نتكل عليها في الحياة الاعتيادية ، بعد صرف انتباهنا عن التبرير الخادع للمطلقات الكونية التي يشترك فيها كل حزب ( فلا أحد يعلن نفسه رائدا للظلم ) و لكن الجميع يختلفون في تعريفه .( لهذا السبب فإن وضع الكونيات موضع التنفيذ لا يسوي الخلافات بل يوسعها ) .
معرفة العدو:
و لكن بطبيعة الحال ، ليست ما بعد الحداثة في الواقع هي ما يزعج الناس أنفسهم به ، و إنما هي الفكرة القائلة بأن خصومنا لم ينبثقوا من ظلام ٍ بدئي ٍّبل من تأريخ ٍ جهزهم بأسباب و دوافع بل حتى بترجمة ٍ محرفة ٍ للفضائل التي كنا سنبجلها لو لم تكن ممارستها موجَّهَة ًلغرض تدميرنا. إن كلا ً من بل ماهر Bill Maher و داينش دي سوزا Dinesh D'Souza و سوزان سونتاغ Suzan Sontag (و هذا ثالوث ٌغريب ٌلم يسبق أن وجد نظير ٌ له ) قد وقعوا في مأزق ٍ إذ نوهوا إلى أن كلمة « جبان » ليست بالكلمة التي تصلح لوصف رجال ٍ يقومون بأعمال ٍمضنية ٍ أثناء تضحيتهم بأنفسهم لسبب ٍ يؤمنون به إيمانا ً عميقا ً. و لكن سونتاغ تمنح هؤلاء الشجاعة التي هي حريصة ٌ على القول بأنها « مصطلح ٌ محايد ٌ أخلاقيا ً » لكونها صفة ً باستطاعة أي شخص ٍ إظهارها في تنفيذ فعل ٍ شائن ٍ ( و يعد شيطان ملتون خير مثل ٍأدبي ٍّ في هذا المقام ). و إذ تأبى الصفح عن ذلك الفعل فلأنك تصفه بدقة ٍ. في الحقيقة ، أنت تضع نفسك في أفضل موقف ٍ للاستجابة له و ذلك بأخذك قياسه الحقيقي . إن استصغار العدو بتجاهل حجمه الحقيقي، يعمينا عن رؤية الخطر الذي يبديه و يمنح ذلك العدو استفادة ً تأتي ملازمة ً للاستهانة بشأنه.
لهذا السبب ، ينبغي نبذ ما يدعوه إدوارد سعيد ب ( كونيات كاذبة ) : فهي تقف عائقا ًفي طريق التفكير المفيد. فكم و كم سمعنا هذه النغمات الجديدة الثلاث تردد : « لقد رأينا وجه الشر » ، «هؤلاء مجانين لا عقلانيون » و « نحن في حالة حرب ٍ ضد الإرهاب الدولي » .. و كلها خاطئة ٌ جملة ً و تفصيلا ً( بالمعنى الذي يفيده كونها غير دقيقة ) و غير مجدية ٍ. ذلك لأننا لم نر وجه الشر في الحقيقة، بل رأينا وجه عدو ٍ يأتينا مجهَّزا ً تجهيزا ً كاملا ًبمظالم و أهداف ٍ و استراتيجيات ٍ. و إذ نختزل ذلك العدو إلى الإسم المجرد " شر "، فإننا نستحضر في أذهاننا ماردا ً جبارا ً، متغير الهيئة ، فوضويا ً، وحشي الطباع ، هو فوق قدرتنا على الفهم و – بالنتيجة – خارج متناول أية استراتيجيات ٍ مضادة ٍ يمكننا ابتكارها.
يحدث الاختزال نفسه إذ نتخيل العدو « لا عقلانيا ً». إن ممارسي اللاعقلانية هم بالتحديد غير محكومين بنظام ٍأو منطق ٍ، و لا جدوى من التكهن بشأنهم ما دمنا في الطريق إلى محاربتهم. في الواقع ليس هؤلاء الرجال لا عقلانيين بل، على العكس، هم يتصرفون من داخل عقلانية ٍنحن ننبذها محقين، و ليت السبب الوحيد لنبذها كونها تهدف إلى تدميرنا. و لو تجشمنا عناء تفهم تلك العقلانية ربما لحظينا بفرصة ٍ أفضل لاستنتاج - أولا ً- ما الذي سيفعله أنصارهم في مرحلة ٍ تاليةٍ، و للتحرك، بعدئذ ٍ، بغية منع ذلك.
و لا يمكن لمقولة « إرهاب ٍدولي » أن يسمى بها ما نحن بصدده الآن. بتعبير ٍ دقيق ٍ, تعد كلمة " إرهاب " تسمية ً لأسلوب ٍ في الحرب ، و إن أولئك الذين يسخرونها غير ملتزمين بها و إنما بالسبب الذي خدمة ً له هم تبنوا تكتيكات الإرهاب. ذلك السبب بالذات ، وكذلك العواطف التي تشكله ، هو ما يواجهنا . أما لوم شيء ٍ اسمه « إرهاب دولي » - كما لو كان حقل نشاط ٍشخصي أو هواية ًمنفصلة ً عن أية أجندا محددة بذاتها – فلا يؤدي سوى إلى تشويش الأمور ، على نحو ما كانت تنبغي ملاحظته بوضوح حين أصر الرئيس الروسي بوتن على أن أية حرب ٍ ضد « الارهاب الدولي » يجب أن تستهدف حالات التمرد في الشيشان.
حينما قررت ( وكالة رويترز الإخبارية ) عدم استعمال كلمة « إرهاب » , وذلك - بحسب ما يراه مدير الأخبار فيها – لأن الارهابي الذي نراه في شخص ٍما ، هو في شخص آخر مقاتل ٌ من أجل الحرية .. انبرى مارتن كابلان مساعد عميد مدرسة أننبيرغ للتواصل في جامعة جنوب كاليفورنيا ، إلى انتقاد هذا التفسير عادّا ً إياه مثلا ً آخر للنسبية الثقافية التي أوصلنا إليها فايروس ما بعد الحداثة. و لكن رويترز تعترف ببساطة كم هي عبثية هذه الكلمة لأنها تمنعنا من إقامة حدود ٍ فاصلة ٍ من شأنها السماح لنا بالحصول على أفضل صورة تبين أين نحن الآن و ماذا بوسعنا أن نفعل . فإذا ما حسبت َنفسك هدفا ً لإرهابي ٍ يأتي من مكان ٍما، حتى لو كان يمارس نشاطه دوليا, فبوسعك في أقل تقدير أن تتمكن منه بطعنة ٍتوجهها اليه و ذلك بتحديد دوافعه و استباق هجماته التي ينوي تنفيذها مستقبلا ً.
ص3
لنكن جديين :
في الفترة ما بين الهجوم على أبراج مركز التجارة العالمية و رد الفعل الأمريكي ، أتصل بي هاتفيا ً أحد مراسلي صحيفة ( لوس أنجلز تايمز ) ليسألني عما إذا كانت أحداث الأسابيع الماضية تعني « نهاية النسبية » ( وكنت حينذاك تكونت لدي رؤية ٌ مباشرة ٌ مصدرها عنوان ٌ رئيس ٌيقول: ” و تنتهي النسبية: ملايين الناس تهلل فرحا ً! “ و صورة ٌ فوتوغرافية مرفقة ٌ بتعليق يقول:” أخيرا ً أستطيع أن أقول ما أعتقده و أعنيه.“ طيب، إن يكن المقصود بالنسبية حالة ذهنية تجد نفسك فيها غير قادر ٍعلى تفضيل قناعاتك و أسبابك أنت على قناعات أسباب خصومك، فمن غير الممكن ، إذن، أن تنتهي النسبية و ذلك لأنها لم تكن بدأت البتة. إن قناعاتنا بالتحديد تحظى بالأفضلية ، وهذا ما يجعلها قناعاتنا نحن و إن نسبنتها relativizing ليست خيارا ً و لا خطرا ً.( بالمعنى القوي للمصطلح، ما من أحد ٍكان أو يمكن أن يكون نسبيا ً، لأنه ما من أحد ٍيمتلك المقدرة على الاحتفاظ ، مسافة ذراع ٍ, بالمعتقدات التي هي الأساس ذاته لتفكيره و سلوكه.). و لكن إن يكن المقصود بالنسبية أن تضع نفسك عمليا ً في موقف خصمك ، لا من أجل انتحاله بل لكي تمتلك فهما ً( شديد الافتقار إلى البرهان ) للسبب الذي يجعل شخصا ً آخر - هو شخص ٌ مضلل ٌ من وجهة نظرك – راغبا ًفي وضع نفسه في الموقف ذاته؛ عندئذ ٍ فإن النسبية لن و لا ينبغي أن تنتهي، لأنها ببساطة ٍ تعد ، في هذه الحالة، تسمية ًأخرى لتفكير ٍ جاد ٍ.
التفكير الجاد هو ما ينشغل به كثير ٌ من المفكرين – و بضمنهم ما بعد حداثيين – في أيامنا هذه. و لكن التفكير الجاد، في الوقت نفسه، هو ما يجري الآن اجتنابه من قبل أولئك الذين يواصلون الطرق على رؤوس الناس مقترحين ان خير الأمور معرفة شيء ٍعن مأتى خصومنا. هذه الإرميات Jeremiahs ( جمع إرميا : نبي التشاؤم – المترجم ) المسخرة ذاتيا ًتتخلى عن تحليل الفوارق الطفيفة ابتغاء المتعة السهلة ( و غير القابلة للتصديق )، المستمدة من لوم أحد أشكال الخطاب الأكاديمي ، على أحداث ٍ ترجع أسبابها إلى عمق ٍ سحيق ٍفي التأريخ، و في مناطق لم يحدث أن سُمِعَت فيها مفردات ما بعد الحداثة على الإطلاق. إن أقوالا ً من نحو
فعلها ما بعد البنيويين ) أو ( ما بعد البنيويين خلقوا المناخ الذي أدى إلى القيام بهذا الفعل ) أو ( لقد تركتنا ما بعد الحداثة فاقدين القوة الأخلاقية لقتال من قاتلونا) .. قد تجعل هؤلاء المتحذلقين (الجاهلين بشأن طريدتهم جهالة ً كبيرة ً) يشعرون بأنهم أخيار ٌو أقومُ أخلاقا ً من الآخرين لبرهة ٍمن الزمن. و لكن هيهات ان يساعدنا هذا على فهم ماذا عسى أن تكون خطوتنا التالية أو كيف نتخذها .