تأليف محمد محمد يونس علي
نظريات الدلالة:
ظهر عند الغربيين عدد من النظريات التي تصف المعنى وتشرح طبيعته وتفسره وتصنفه إلى أنواع مختلفة تبعا لمعايير متنوعة، ومن هذه النظريات نظرية الإشارة، والنظرية السلوكية، والنظرية السياقية، وسنسلط الضوء على هذه النظريات في المباحث الآتية.
1- نظرية الإشارة:
تعود هذه النظرية إلى أصول فلسفية ومنطقية وسيكولوجية، ولذا فإن إلقاء الضوء على هذه النظرية يحتاج إلى الإلمام ببعض المفاهيم الفلسفية والمنطقية، أهمها:
1، 1- مراتب الوجود:
أي ما يراه الفلاسفة والمناطقة من أن وجود الأشياء يتجسد في أربعة أنواع:
أ- الوجود الذهني، وهو وجود صورة للشيء المتحدث عنه في الذهن، كأن يستدعي ذكر كلمة ‘إنسان’ صورة مجردة تلخص أشكال كل الناس الذين رآهم في حياته.
ب- الوجود الخارجي للشيء، وهو وجود أفراد البشر بكل أجناسهم وألوانهم وأشكالهم في الواقع الخارجي.
ت- الوجود اللفظي، وهو وجود أصوات الكلمة التي تدل على صورته الذهنية وتستدعيها في دماغه، ويشار بها إلى أفراد ذلك الشيء في العالم الخارجي، وذلك كلفظة [إنسان].
ث- الوجود الكتابي، وهو وجود حروف تدل على الكلمة المعنية كحروف كلمة [إنسان].
وقد أشار علماء التراث إلى هذه الأنواع الأربعة، كما هو واضح في بيان الغزالي لرتبة الألفاظ من مراتب الوجود[1]، وتوضيح منزلة وجود المعاني في هذا المربع الدلالي عند حازم القرطاجني.[2]
والشائع عند علماء الدلالة واللسانيين عامة الاقتصار على الأنواع الثلاثة الأولى دون الرابع لأنهم لا يرون أن الكتابة جزء طبيعي من اللغة البشرية الطبيعية، بل هي عملية اصطلاحية اصطناعية لرموز حرفية لا تمثل بالضرورة الأصوات المنطوقة. ويعد أوجدن وريتشاردز من أوائل من وضع هذه الأنواع الثلاثة في شكل مثلث عرف بالمثلث الدلالي.
وعلى الرغم من أن أوجدن وريتشاردز اختارا المصطلح الفكرة أو الإشارة للطرف ب من المثلث،[3] فإن استخدام كلمة مفهوم أو صورة ذهنية أولى لانسجامها مع ما هو شائع في تراث العربية ولاسيما في مجالي المنطق والفلسفة.
1، 2- التفريق بين الإشارة والإحالة:
خلافا لما هو سائد في علم الدلالة يميل بعض اللسانيين إلى التفريق بين الإشارة reference والإحالة denotation، فالإشارة هي "علاقة بين اللفظ وما يشير إليه في المقام المستخدم فيه"،[4] والإحالة هي علاقة اللفظ بالمفهوم العام الذي يحيل عليه في ذهن المخاطب بغض النظر عن المقام أو السياق الخاص الذي ورد فيه. وتبدو أهمية هذا التفريق العبارات التي لها معنى عام ولكن المقصود بها في سياق ما أضيق من مفهومها العام، كما في قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: "قال: بل فعله كبيرهم هذا" التي تقتصر إحالاتها على مفاهيم عامة يعين في فهمها الوضع اللغوي، ولا يتضح المقصود بها إلا بفك رموز إشاراتها أي بتحديد مراجع تلك الإشارات كما سنوضح في المباحث القادمة، وبناء على ذلك يمكن القول إن الإحالات مرتبطة بالوضع اللغوي أي أنها تندرج في المعاني لا في المقاصد التي لا تنكشف إلا بتوضيح الإشارات.
ومن أمثلة الفرق بين الإشارة والإحالة ما تدل عليه التعبيرات الآتية: سيد المرسلين، وأفضل الكائنات، وخاتم النبيين. فإحالاتها هي معانيها الوضعية بغض النظر عن المقصود بها، أما إشاراتها فتعني تأويلها بتوضيح المقصود بها على وجه التحديد وهو سيدنا محمد –ص-. فالمحال عليه إذن هو شخص موصوف بأنه سيد جميع الرسل، وأنه أفضل المخلوقات، وأنه لا نبي بعده، وقد أعانتنا عقائدنا الإسلامية (التي تدخل في إطار السياق الثقافي) على معرفة المشار إليه في كل التعبيرات السابقة.
ومن المهم هنا أن نلاحظ الصلة بين الإحالة، والوضع، واللغة، والمعنى، والجملة من جهة، والإشارة والاستعمال، والكلام، والقصد (أو المراد) والقولة من جهة أخرى.
الإحالة
الإشارة
الوضع
الاستعمال
اللغة
الكلام
المعنى
القصد
الجملة
القولة
1، 3- التعيين:
تتميز بعض الألفاظ اللغوية بإبهامها الشديد بحيث لا تتضح معانيها إلا من خلال السياق الذي وردت فيه، ويطلق على العملية التي يحدد فيها المقصود بتلك الألفاظ مصطلح ‘التعيين’ deixis ، وهو يشمل الآتي:
1- تعيين الأشخاص person deixis، وذلك بإرجاع الضمائر المختلفة إلى ما تشير إليه.
2- تعيين الزمان time deixis، وذلك بتحديد المراد بالألفاظ الدالة على الأزمنة مثل غدا والأسبوع القادم، والشهر المقبل، وأمس، والسنة الماضية، وحينئذ، والآن، وقبل ذلك، وبعدئذ إلخ.
3- تعيين المكان place ، ويتم ببيان المقصود بالأماكن من خلال السياق الذي وردت فيه، ومن الألفاظ المكانية المبهمة هنا وهناك، وفوق، وتحت، وأمام، وذلك المكان، وهذا الأمر، ونحو ذلك.
ولا يخفى أن التعيين لا بد منه في تحديد المشار إليه، ونقل الألفاظ من حيّز الإحالة إلى حيّز الإشارة بالمفهوم السابق للمصطلحين.
1، 4- الفرق بين المسمى والمعنى:
يعود التفريق بين المسمى nominatum والمعنى meaning إلى الفيلسوف الألماني قوتلب فريجة، وقد عرف المعنى بأنه "الطريقة التي يعبر بها عن الشيء"[5] في حين أن المسمى هو العلم الذي أطلق على ذلك الشيء. وقد نشأ هذا التفريق عن ملاحظة فريجة أن عباراتي نجم الصباح ونجم المساء تشيران إلى مسمى واحد هو نجم الزهرة venus، ولكنهما اختلفا في معنييهما. ويفيد هذا التفريق كثيرا في فهم ظاهرة الترادف الإشاري (أو الترادف في المسمى)، ويقصد به اتفاق المرجع الذي يشير إليه اللفظ مع اختلاف معاني الألفاظ المستخدمة في الدلالة عليه. ومن أمثلته الإشارة إلى آدم عليه السلام بالعبارات الآتية:
(أ) أول الأنبياء
(ب) أول مخلوق بشري
(ت) أبو البشر
(ث) الجد الأول للإنسانية
(ج) زوج حواء
فقد اتفقت هذه الألفاظ في إشاراتها (أي في مسماها) واختلفت في إحالاتها أو معانيها.
1، 5- الفرق بين المفهوم والماصدق
يرتبط التفريق بين المفهوم intension والماصدق extension باسم كارناب Carnap، وهو تفريق قريب من تفريق فريجة السابق بين المسمى والمعنى، ولذا يذكر كارناب أن تفريق فريجة هو الذي أوحى إليه به. ولعله يقصد ذكّره به لأن المصطلحين معروفان في الفلسفتين الإغريقية والإسلامية منذ مئات السنين. ويقصد بمفهوم اسم ما -كما يذكر لاينز- مجموعة الخصائص البارزة التي تنطبق على ذلك الاسم. ومن أمثلتها الأوصاف ‘حيوان ذو قدمين بدون ريش’ التي تنطبق على كل إنسان، وهي مختلفة من حيث مفهومها عن ‘حيوان ناطق’ مثلا، ولكنهما في الواقع الخارجي يشيران إلى نفس الأفراد؛ إذ كل ‘حيوان ذو قدمين بدون ريش’ هو في الواقع ‘حيوان ناطق’، وبذلك نقول عن هذين التعبيرين أنهما مختلفان في مفهومهما، ولكنهما مترادفان في الماصدق، أي في الأفراد الذين يصدق عليهم المفهومان المذكوران.
1، 6- مزايا نظرية الإشارة:
ساعدت المفاهيم النظرية التي قدمتها نظرية الإشارة في دراسة بعض القضايا الدلالية ذات الطبيعة المنطقية ولاسيما الترادف synonymy، والتضاد antonymy، والاندراج hyponymy، والعكس inversion، والانضواء inclusion، والتناقض، والحقول المعجمية lexical fields. وقد كان لما يعرف بعلاقات الإحالة وعلاقات الهُوية sense حظ كبير في توضيح تلك القضايا. ويقصد بعلاقة الإحالة العلاقة بين وحدة معجمية ما وما تحيل عليه من معنى في العالم الخارجي، كما يحيل لفظ رجل على ‘إنسان بالغ ذكر’. أما علاقة الهوية فهي علاقة الوحدة المعجمية بغيرها من الوحدات المعجمية التي تتضمنها اللغة، إذ أن هذه العلاقة مفيدة في تمييز المفاهيم بعضها من بعض، فكلمة رجل مثلا تعني ما ليس امرأة، ولا طفل ولا طفلة من البشر. وبذلك أعانت الوحدات المعجمية ‘امرأة’ و‘طفل’ و‘طفلة’، في تحديد مفهوم ‘رجل’، وقد قيل قديما "وبضدها تتميز الأشياء".
1، 7- الانتقادات الموجهة إلى نظرية الإشارة:
تحدد نظرية الإشارة المعنى بأنه المشار إليه أي الشيء أو المرجع الموجود في الخارج، وقد تعرضت هذه النظرة إلى المعنى إلى عدد من الانتقادات أهمها:
1- لو كان المعنى هو المشار إليه لكانت الألفاظ المختلفة التي تشير إلى لفظ واحد (كتلك التي تشير إلى آدم عليه السلام في المثال السابق) مترادفة في معانيها، ولكن الأمر ليس كذلك.
2- لو كان المعنى هو المشار إليه لكان كل ما ينطبق على المشار إليه انطبق على المعنى، فأكل التفاحة مثلا يعني أكل المعنى.
3- الألفاظ المجردة كالحب، والعدل، والحروف والأدوات كعن، وإنّ ولكن، ليس لها وجود خارجي تشير إليه، ومع ذلك لا أحد ينكر أن لها معاني.
4- أنه لا يمكن أن تتعدد المعاني بتعدد المراجع في العالم الخارجي؛ إذ لا يمكن أن يكون لنا من المعاني بقدر عدد التفاحات الموجودة في العالم.