الفضاء القصصي القصير جدا وفائض المعنى
1- تقديم
لقد حضيت القصة القصيرة جدا باهتمام النقاد و الباحثين وتناولوها من زوايا متعددة كالحبكة والشخصيات و الصراع و الرؤية السردية و البناء الفني....، ونحن في هذا المبحث النقدي سنهتم بتيمة الفضاء القصصي باعتبار أن القصة القصيرة جدا هي فن التفضيئ الزمكاني بامتياز.
فبالرغم من المحاولات النقدية التي تحاول التفريق بين الأجناس الأدبية المكانية كالنحت و الفنون التشكيلية وبين الأجناس الأدبية الزمانية كالموسيقى و الشعر و النثر فإننا نلاحظ بأن القصة القصيرة جدا لا تستطيع التخلص من هذين المحورين في بناء عمل قصصي قصير جدا،وعندما نميز بين مكونات هذا الفن أو ذاك فإننا نفعل ذلك من أجل الدراسة فقط،لأن الفنون الأدبية متداخلة حيث إن كل فن يستعير خصائص ومميزات فن آخر،فالقاص يستعير وصف المشهد القصصي القصير جدا من الشعر ومن الرسم ويتتبع تفاصيل المكان من النحت،حيث نجده يرصد أبعاد المكان وأحجامه وأشكاله بواسطة الكلمات المقلة وهنا تدخل براعة القاص في القصة القصيرة جدا،لأنه لا يقدم تفاصيل المكان ولا يقدمها دفعة واحدة.
2- الفضاء القصصي القصير جدا و البعد البصري
عند تتبع المجاميع القصصية القصيرة جدا نجد بأن القاص يعاني من قلق البعد البصري في القصة القصيرة جدا وتحدوه رغبة في تحطيم بناء السرد القصصي وتغيير شكله من الشكل التقليدي المعهود إلى أشكال بصرية مختلفة تختلف باختلاف طبيعة القصة القصيرة جدا وتنوع مواضيعها،إنه يريد خلخلة البناء المعماري للقصة القصيرة جدا لكي تعبر عن طبيعة هذا الجنس الأدبي الذي يعتمد على التكثيف و الاضمار و الاقلال.
وأول ما يصدم القارئ على مستوى تلقي العين هو الشكل الكاليغرافي الذي يميز الكتابة القصصية القصيرة جدا والذي يركز فيه القاص على توزيع المشاهد و المقاطع القصصية داخل الصفحة الواحدة،إضافة إلى توزيع السواد على البياض وعلامات الترقيم وتناثر الحروف من أعلى إلى أسفل أو عكس ذلك وفق نظام جميل يزيد من جمالية القصة القصيرة جدا ويساعد على فك مغاليقها وإضاءة عتماتها.لأن القارئ وهو يتصفح المجموعة القصصية يدرك من خلال هذا التوزيع قدرة القاص على فهم دواليب الفضاء القصصي وأسراره،وعندما يكشف هذه المغاليق تنكشف لذيه مغاليق العالم وخباياه وتنجلي رؤية القاص إلى العالم وما توحي به هذه الأشكال وهذا التوزيع للألفاظ من معان قابعة في لاشعور الملقي و المتلقي.
فالقاص الحقيقي هو الذي يعيش قلق بياض الصفحة كما يعيش قلق سوادها لأنه محكوم بعدد قليل من الكلمات التي ينبغي عليه توزيعها التوزيع المناسب،إنه يعيش قلقا في الحيز الزمكاني مما يدفعه إلى الصمت الهنيهي لكي يترك المجال واسعا لهذه الكلمات القليلة لكي تحكي عن نفسها وعن امتدادها واستمرارها في الوجود،وتفتح المجال للقارئ ليشارك في كتابة القصة القصيرة جدا،وهكذا يتداخل فضاء الوقائع مع فضاء القص القصير جدا وتتداخل معهما نفسيتا القاص و القارئ وروح النص القصصي القصير جدا.
3- القصة القصيرة جدا وشجون الفضاء القصصي القصير جدا
فالفضاء القصصي القصير جدا يثير في المتلقي الإحساس بالكينونة في الزمان و المكان بمفهوم هايدجر، لأنه لا يمكن للأحداث أن تنهض وتنمو دون فضاء يحتضنها،غير أن ما يميز الفضاء في القصة القصيرة جدا هو ميزة التكثيف و الاختزال المفضيات إلى حميمة الفضاء و الانسجام و التناغم معه،فغالبا ما تكون الفضاءات فيها مغلقة أو معزولة وإن كانت في أحايين مفتوحة فإنها تكون مفتوحة في إطار ضيق لا يتعدى مرأى البصر.
إن القاص عندما يقدم الصورة الفضائية بشكل جمالي متناسق يحترم أبعاد الفضاء المتخيل،إنه يساهم في خلق متعة القراءة لدى القارئ من خلال تتبعه لوصف فضاءات القصة القصيرة جدا عبر بوابة الكلمات مما يساعد على تعميق الصلة بين القصة القصيرة جدا و القارئ مما يورطه ويدخله كعنصر مشارك في تشكيل رؤية مشابهة لرؤية القاص،على اعتبار أن القاص يقدم الفضاء القصصي القصير جدا كمكون من مكونات السرد القصصي وعنصرا هاما في عملية القص،كما أنه يقوم بإيهام القارئ بحقيقة الفضاء القصصي القصير جدا بواسطة تداخل المكاني بالزماني بنفسية القاص،ويجعله يشعر بأنه يعيش في العالم الحقيقي وليس في عالم الخيال،وكلما كان تكثيف واختزال الحديث عن الفضاء القصصي القصير جدا كلما كان العمل القصصي القصير جدا أقرب إلى الحقيقة.
وكلما كان الفضاء القصصي قريبا من الشريحة الاجتماعية للقراء كلما كانت القصة القصيرة جدا قريبة من حياة القارئ،وبالتالي تساعده على التفاعل مع أحداث العمل القصصي ومع حميمية الفضاء ودفئ أركانه وزواياه.كما أن الفضاء لا يقدم في القصة القصيرة من أجل الزينة أو لأداء وظيفة تجميلية أو زخرفية وإنما يقدم كعنصر من أهم العناصر المشكلة للعمل القصصي القصير جدا.
ومن هنا تأتي مهمة الفضاء القصصي القصير جدا في إيهام القارئ وإقناعه بحقيقة ما يقرأ لأنه يمزج الواقعي بالخيالي ويتدخل عميقا في تفسير ووصف الفضاءات التي تجري فيها الأحداث التي هي جزء لا يتجزأ من شخصيات القصة القصيرة جدا.
وتعتبر الأرض بمحيطها الاجتماعي و النفسي .... من أهم الفضاءات التي تناولها كتاب القصة القصيرة جدا فهي مصدر هوية الإنسان ووجوده وبينها وبينه علاقة حميمية استطاعت استيعاب أعماله القصصية كما نجد عند عز الدين الماعزي في حب على طريقة الكبار وعند إسماعيل البويحياوي في ندف الروح.
لقد ربطت القصة القصيرة جدا علاقة وطيدة بين الأرض والإنسان وبينت قيمتها في أعماقه وكيانه ما لها من دلالة في كيانه وما تخزنه من مخزون ثقافي وحضاري وإنساني له جذور ضاربة في أعماق النفس و الذاكرة الإنسانية.معبرا عن التغيرات التي عرفتها الأرض واكتساح الإسمنت المسلح للخضرة وموت الغرس وقطع الأشجار وتغير بنية الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و طبيعة المنتوج الغذائي للمواطن في البادية،ومغادرة الطيور لأوكارها كل هذه المعطيات عكستها القصة القصيرة جدا في بنائها وتشكيل بنيتها السردية لأنه لا يمكن فصل الفضاء القصصي عن مكونات السرد القصصي القصير جدا وأي فصل بين هذه المكونات هو من أجل تسهيل الدراسة فقط.
ونشير بأن جمالية الفضاء القصصي تكمن في قدرة القاص على نقل القارئ من الفضاء الذي يحيط به إلى فضاء القصة القصيرة جدا وهذه الطاقة الخلاقة هي التي تستطيع أن تمحي المحيط الخارجي الحقيقي وتجعل محيط القصة القصيرة جدا بديلا متخيلا.
فالقاص إسماعيل البويحياوي استطاع أن ينقل القارئ من فضاء المدينة إلى فضاء القرية التي شب وترعرع فيها القاص وجعلنا نتلمس ونتحسس الفضاءات التي كان يتحرك فيها وكأنه يقدمها في شكل لوحة فنية لها أبعاد ثلاثة ووسيلته في ذلك تحكمه في الأسلوب واختيار الكلمات المناسبة لذلك وفق تناسق وترتيب يخدم المعنى الواصف للفضاء،ووسيلته في ذلك أنه يقدم فضاءات من واقع القارئ وليست فضاءات مجردة لكي يحسسه بحقيقة هذا الواقع.
يعتمد البويحياوي على أسلوب الوصف التعبيري الذي يهتم بأثر الفضاء على المتلقي أكثر من اهتمامه بالفضاء نفسه ،بمعنى أنه لا يقدم الفضاءات مجردة بعيدة عن الإنسان وإنما يقدمها في حركيتها وفي علاقتها بروح الانسان وكأننا عندما نقرأ القصة نشعر بروح القاص تتخلل التفضيئ القصصي وتحرك الأحداث معتمدا في ذلك قدرته على التخيل الذي يعطي للمادة القصصية المختزلة و القصيرة جدا روحا وحيوية .
فعندما يصف الأرض يصفها وهي تعانق المطر لكي يلدا معا البذور وهي حية تنمو وتحيا كل يوم وهكذا تصبح الأرض كائنا حيا يفرح بحلول فصل الربيع وتنتعش بقطرات المطر وهذه الحيوية تمتزج بمشاعر القارئ.
فالأرض في قصص البويحياوي هي ذلك الفضاء المنفتح، الممتد الواسع الذي يؤلف بين مشاعر الناس البسيطة عكس تناوله للمدينة التي يراها ذلك الفضاء المغلق الذي يعكر صفاء الحياة ويعبر عن سخط الناس ورفضهم لتعقيدات الحياة
كما أننا ونحن نقرأ المجموعة القصصية ندف الروح نشعر وكأن الفضاء إنسان حي استطاع القاص أنسنته وبث الروح فيه جاعلا منه شخصية ممثلة تقدم أدوارها في فضاء القصة القصيرة جدا فالنافذة في لوحة الغلاف وفضاء البيت القديم بكل مكوناته تدخل في علاقة حميمية مع المتلقي تعانقه وتداعبه في جو حميمي مليئ بالحيوية و الحركة والدينامية.
وعند عز الدين الماعزي نجد الفضاء القصصي جزءا لا يتجزأ من القصة القصيرة جدا بل قد نقول بأن التفضئ القصصي هو القصة نفسها لأن أغلب قصصه اعتمدت التفضية القصصية كمنطلق لتفريغ المحتوى القصصي ،ومن خلاله تفهم أبعاد القصة القصيرة جدا واستراتيجيتها (رسم الطفل مستطيلا،مثلثا،مدخنة،سلكا هوائيا عاليا في آخره شبكة....وضع النوافذ الزجاجية و الباب الخضبي ودرج السلالم،مربعا للحديقة وشجرة باسقة...رسم نفسه طفلا يحمل محفظة متجها إلى المدرسة،مفتونا بالرسم طان الطفل يمعن بعينيه في الأعلى سحابة سوداء أمطرت...فمحت الرسم.) * موت سامورائي ص32 حب على طريقة الكبار
فعند قراءة هذه القصة القصيرة جدا بالرغم من بساطتها فإنها تحمل معاني كثيرة وتلخص سيرة كائن إنساني حي له طموح في الحياة يرسم ويخطط مستقبلا غامضا وغارقا في التعتيم و الظلام ،قصة تحكي سيرة حياة أجيال كثيرة ومتعددة عاشت الويل وعانت من شظف العيش،حياة فئة كثيرة من شباب المغرب الذين لم يستطيعوا التعبير عن معاناتهم لكن القاص عز الدين الماعزي استطاع بأدبيته الوقوف على هذه المعاناة و التعبير عنها أدبا.
فالقصة تجمع الأيادي الثلاث يد القاص ويد القصة ويد القارئ تشعر وكأنها كتبت بنفسية وهوى واحد فيها حميمية ودفئ الفضاء الذي شب وترعرع فيه كل من القاص و القارئ،لأن القصة تعني كل شاب عاش هذه الحياة لأن القصة في حقيقتها هي قصة أجيال تتكرر لكن من استطاع تقديمها بين يد القارئ هو القاص بحرفية عالية وبلغة قريبة من حس المتلقي بمختلف مستوياته ،حيث كل واحد يقرؤها بحسب رؤيته إلى العالم وبحسب زاوية الرؤية عنده.
4- حركية الصورة في القصة القصيرة جدا
ومن هذا المدخل البسيط لمعنى الفضاء ووظيفته في القصة القصيرة جدا ندخل إلى بوابة أعمق وهي أيهما أسبق الكلمة أم الصورة في بناء هذا الفضاء؟لأننا ونحن نقرأ القصة القصيرة جدا لا تؤثر فينا الكلمات بقدر ما تؤديه فينا الصور التي تحدثها هذه الكلمات في نفوسنا كقراء متتبعين للفظة وهي تتحرك في فضاء القصة القصيرة جدا،لأن الكلمات تؤدي وظيفة أولية تليها وظيفة أقوى وأهمية وهي وظيفة الصورة التي تقع قوية في نفسية القارئ فنحن عندما نعود إلى قصة موت سامورائي نشعر بأن الصورة كانت تتوالد وحدها متتابعة في خط واحد قادمة من الخارج متخذة شكلا معينا في ذهن المتلقي وقد اعتمد القاص في ذلك على تقنية الوصف الذي يساعد على التيقن و الإيمان بحقيقة ما نقرأ ويترك المجال والمدى مفتوحا وقابلا للكثير من القراءات و التأويلات.
ونلاحظ بأن عز الدين الماعزي كان بسيطا في اختيار الكلمات لم يعتمد أساليب استعارية، والقصة خالية من التشبيهات و الانزياحات اللغوية وقد ترك للفظة الحرية في تتبع كل الأشكال الهندسية و المعمارية،دون إدخال الذات الساردة وإنما ترك القصة تعبر عن فضاءاتها بنفسها بضمير الغائبة الذي يدفع القارئ إلى محوه وإضافة اسمه كذات ساردة وهكذا تتنوع أشكال الصورة بتنوع وتعدد الذوات القارئة.
وفي الوشم صوتا للقاص عبد اللطيف الهدار تنبعث رائحة الصورة وتنجلي قسماتها من خلال عتبة العنوان حيث هناك سميأة في العنوان الغرض منها تقديم المجموعة القصصية على أنها منمنمات متحركة داخل فضاء المجموعة القصصية تكون الصورة اللفظية بطلتها حيث الكلمات تتحرك فيها محدثة رجة في ذهن المتلقي وتساعده على خلق عوالم متخيلة يلتقي فيها القاص و القارئ والنص القصصي لأداء اللوحة القصصية المقروءة بصيغ وصور مختلفة ففي قصة خرج ولم يعد ص 38 (الرجل العادي الذي اعتاد أن يرتدي وزرته الخضراء،ويودع أهله كل صباح،قبل أن يخرج للاسترزاق على غير العادة،لم يعد إلى بيته ذاك المساء.
كل ما عاد منه خرقة خضراء،رصعتها ثقوب سود وكتابة حمراء)الوشم صوتا ص38
يقدم لنا عبد اللطيف الهدار مشهدا سينمائيا اعتمد فيه على تقنية بصرية سرد فيها حالة الجندي البسيط الذي يرتدي الزي العسكري المعروف باللون الأخضر ولكن في يوم من الأيام رجع جثة هامدة مضرجة في دمائها وكأنها كتبت تاريخ هذا الجندي وسيرته.
فمن خلال الكلمات ومن خلال دلالات الألوان تتداعى مجموعة من الصور في ذهن المتلقي بل تتشكل لذيه معان متعددة وسيناريوهات مختلفة عن سبب هذا الفعل الذي تسبب في قتله،وهكذا تحكي الكلمات ما لم تستطعه الصورة السينمائية.فقد تمكن الهدار من خلال الكلمة أن يخلق لوحة يتصارع في تفكيك أسرارها القراء.
فالصورة وحدها التي خلقت الكلمات وأعطتها معنى (يرتدي- يودع - لم يعد إلى بيته خرقة خضراء-رصعتها ثقوب سوداء- كتابة حمراء) فالصورة هي التي تختار الكلمة وتستدعيها لكي تقدم المعنى المطلوب ،فنحن كقراء تصلنا الصورة قبل أن تصلنا الكلمة،إننا نفكر بالصورة ولا نفكر بالكلمات،لأن الكلمات اختراع يأتي بعد الصورة وهي أداة تأتي لكي تقدم معنى الصورة بل تقدم فائض المعنى الذي يبحث عنه القارئ .
محمد يوب
ناقد أدبي