مقدمة:
ترتكز هذه الدراسة على ما أصّل له عبد القاهر الجرجاني وسابقوه من علماء العربية الأوائل من النظر إلى غرض المتكلم ومقصوده – وإن خَفُتَ بعد ذلك شيئا ما عند متأخري النحاة – وهو ما صار عند البلاغيين محورا أساسيا في علم المعاني ، وإن اتخذ سبيلا يخدم ذلك العلم وأغراضه ؛ يختلف في أساليبه وتقنياته عما هو مرسوم له في علم النحو . ولكنه على أية حال يمثل المحور الذي يدور حوله عمل المتخاطبين عموما – عمل المتكلم وعمل السامع – وهو لا يأتي من فراغ ؛ بل من نقطة التقاء تجمع بينهما ، تمثلها الخلفية الفكرية الثقافية والاجتماعية ، وهو ما عبّر عنه الغربيون في نظرياتهم بالافتراض المسبق ، فإن المخاطَب العالم بلغته المدرك لخلفياتها وأسسها ومنطلقاتها يستطيع أن يفهم – على الفور – ما يريده المتكلم ، والمقصد من كلامه وغرضه من إخباره ..... .
وكنت - في بحوث سابقة – قد حاولت اختبار فرضية ارتباط النصب بمفهوم غير الواجب عندهم { ويقصد به هنا الممتنع ، ويُراد به غير المستقر لدى المتكلم وغير الثـابت ، أو غير المتحقق منه ، وهو ما عرض له الشك أو الظن والإيهام وما شابه } ، وكذلك ارتباط الرفع بمفهوم الواجب عند النحاة { وهو المستقر الثابت لدى المتكلم ، المتحقق عنده ، الذي لا شك فيه سواء كان مطابقا للواقع الخارجي أم لا} (1) .
وتحاول هذه الدراسة – كذلك اختبار فرضية نصب مفعولي أفعال القلوب في ضوء ذلك . إذ بالتحقق من صحة تلك الفرضية عموما وانطباقها على غالب أبواب النحو يكون التأكيد على وجود نظرية نحوية عامة تضم أبوابه في هذا الإطار .
وتعمل هذه الدراسة على الإجابة عن عدة أسئلة تنتظم من أجل تحقيق تلك الفرضية ، وهي :
1- هل تمثـل هذه الأفعال نوعية واحدة أم هي على أنواع وأصناف كما يوحي تقسـيم النحاة لها ؛ من أفعال دالة على اليقين وأخرى دالة على الرجحان ؟ وما هو المنظور الذي نظر النحاة من خلاله إليها ؟
2- لم نصبت هذه الأفعال مفعولين ؟ ولم لم تكن ناصبة لأحدهما دون الآخر ؟ وعلاقة ذلك بالفرضية السابقة ؟
3- وهو ما يتطلب النظر إلى كيفية إعمالها وكيفية إلغائها متوسطة أو متأخرة ، ولم علقـوها عن العمل ؟ ولم ألغـوها ؟ وما علاقة ذلك بمقصد المتكلم ودلالته ؟
وإن كانت تلك الدراسة قد عرضت لدلالات أفعال القلوب وما وقع
بينها من تراسل ، إذ يُعبّر بالظن مرة عن دلالة الظن الموجودة فيه ويُعبر مرة أخرى عنه العلم ، وكذلك تأرجح العلم بين دلالتي اليقين والظن ؛ فلم يكن القصد من ذلك التتبّع والاستقصاء أو مناقشة ما فيه بقدر اتخاذه سبيلا لإثبات صحة الفرضية التي يقوم عليها البحث . واستعنت في ذلك بما أمكن من كتب التفسير وغيرها .
ثم هي من جهة أخرى تعمل على تطبيق بعض المفاهيم التداولية على موضوع البحث بما يخدم الفكرة ويزكي هذا البعد الذي يضرب بجذوره في النحو العربي ، وقد عملت على الربط بينهما بما يكشف عن تلاقي العربية وتواصلها مع النظريات اللسانية الحديثة ، وهو ما يستدعي تناول بعض جوانبها وعرضه بما لا يخل بالموضوع أو يطغى عليه .
التداولية :
رغـم كـون التـداوليـة نشـأت نشـأة فلسـفيـة على يد " جون أوستين J. Austin " في النصف الثاني من القرن الماضي إلا أنها لم تلبث أن تشكلت لتصبح ذات سمت لغوي لساني .
ويعد اكتشاف التداولية اللغوية فتحا كبيرا ، إذ أثار أسئلة جديدة ، وأولى اهتماما بكل ما يتعلق بالسياق والمقام والمتكلمين ومقاصدهم وظروف الاستعمال والأفعال اللغوية .
وقد أشارت " فرانسواز أرمينيكو Françoise Armingaud " إلى أنه " لم يتم بعد الاتفاق بين الباحثين فيما يخص تحديد افتراضات التداولية أو اصطلاحاتها " (2).
وقد قدم " ليفنسون Levinson . S.C " وجوها متعددة عرّف بها التداولية ، نختار منها تعريفه الذي يجعل " التداولية دراسة كل مظاهر المعنى Aspects of Meaning من غير فصلها عن نظرية الدلالة ، إلا أن الدلالة محددة في عنصر شروط الصدق ، في حين تتناول التداولية التي لا تعلل بشروط الصدق " (3) .
ويذهب " جيفري ليتش G.Leech " في تعريف التداولية إلى أنها دراسة المعنى في صلته بظروف الكلام ، وقد أدخل في هذه الظروف : المتخاطبين وسياق الملفوظ والهدف أو الأهداف من الملفوظ (4) .
وما نجده من عناية التداوليات الحديثة بالمتكلم والمخاطب انطلاقا من الاعتـقاد بأن الخطاب يتـوجه من أحد الطرفيـن إلى الطرف الآخـر ، وأن طبيعة هذا التفاعل هي التي توجه الكلام وتحدد مساره ، وهو ما حدا بـ " ليتش Leech " إلى القول بأنه لا يمكن أن ندعي فهما للكلام من دون استحضار شروط إنتاجه المحيطة به خاصة عنصر المتكلم والسامع (5) اللذين اعتبرهما ركنين أساسيين لا غنى عنهما ومظهرين مهمين في الحالات التكلمية (6) .
وقد ذهب " روجر فاولر R. Fowler " إلى أن اللغة المستعملة أيا كانت موضوعيـتها لغة موجهة من جهة انخراط المتكلم بمواقفه وأحكامه فيها وحتى تلك التي قد تبـدو غير ذلك إنما هي موجهة من ناحية عدم توجهها (7) .
ولا شـك أن اهتـمام المتكلم بمخـاطب هو وجهته ومقصده ؛ يجعله يراعي محله ببناء خطابه على أقدار معلومة أو مفترضة لمخاطب حاصل ، وحضور المخاطب – باعتباره طرفا مشاركا - أمر ضروري لإنجاز الخطاب وتوجيـه مختلـف مناحيه وهو وضع يخرج به من حال التقبل السلبي إلى حال يكون فيها شريكا فعليا في عملية الإنتاج (8) .
مـن هنـا اعتبـرت " أوركيوني K. Orecchioni " أن البـاث
( المتكلم ) والمتقبل ( المخاطب ) لهما نفس الدور في عملية اشتغال الكلام ، إذ هما اللذان يشغلان القواعد العامة (9) .
ولا يمكن إغفـال ما قدمه " جرايس " Grice في بيان الاختلاف بين ( ما يقال ) و( ما يعني ) ، إذ لاحظ وجود فجوة كبيرة بينهما ، إذ إن ( ما يقال ) : هو ما تعنيه الكلمات ظاهريا ، وغالبا ما يمكن شرحه وفق شروط الحقيقة . أما ( ما يعني ) : فهو التأثير الذي يحاول المتكلم متعمدا إضفاءه على المستمع أو المخاطَب من خلال إدراك هذا الأخير لهذا القصد (10)، بمعنى تضمنها لمعاني ضمنية (11) . مما يسترعي الانتباه إلى الصيغة باعتبارها مقولة نحوية تعتبر " تسمية تطلق على مختلف أشكال الفعل المستعملة لإثبات الشيء الذي يتعلق به هذا الفعل إثباتا تتفاوت درجاته قوة وضعفا ، وللتعبير عن مختلف وجهات النظر إزاء الموجودات (12).
وقد تنبه الدكتور المتوكل إلى مبدأ يراه ثابتا ؛ مفاده أن المعنى يحدد الشكل ، وأن الشكل يتصور بصور مختلفة باختلاف الغرض ، أي باختلاف التداولية – بلغة الدكتور المتوكل – إذ الوظيفة التداولية عنده هي المحددة لبنية الملفوظ (13).
مما سبق نستطيع القول بأنه يمكن النظر إلى التداولية على أنها علاقة ثلاثية بين : المتكلم ، والمعنى ، واللفظ ( أو الشكل ) ، ولا شك – كذلك – في صعوبة استبعاد المخاطَب ، إذ إنّ ما يلفظه المتكلم يستمد معناه بفضل نيته في إحداث تأثير معين في المخاطَب ، وذلك يستدعي معه – بالضرورة – سياق المعرفة العامة والخاصة التي يتقاسماها (14) .
ويعد بذلك قصد المتكلم والافتراض المسبق من الأهمية بمكان في عملية التواصل والإبلاغ ، وهو ما سنعرض له فيما يلي .
أ - قصد المتكلم :
إن مفهـوم القصد من المفاهيـم التي اسـتأثرت باهتمام التداوليين ، إذ تسـعى التـداولية جاهدة لاستكشاف بواعث الكلام وآلياته النفسية والجسدية (15).
وقد فرّق ليتش Leech بين الدلالة والتداولية ‘ إذ كلتاهما تعنى بالمعنى ، ولتوضيح الفرق بين الجملتين التاليتين :
1- ماذا تعني ( أ ) ؟
2- ماذا تعني أنت بـ ( أ ) ؟
يرى أن الدلالة تهتم بالمعنى meaninig في ذاته ( في الجملة 1 ) ، في حين تستحضر التداولية لفهم المعنى عنصر المتكلم Speaker أو مستعمل اللغة User Language ( الجملة 2 ) مع ما يقصده من قصود (16).
بل أصبح القصد ( Intention ) في نظر " سيرل Searl " نوعا واحدا من المقصدية ( Intentionality ) بين أنواع أخرى ، ويمتاز لديه بأن الوعي وراءه (17) ، ويذهب في كتابه (Intentionality ) في الباب الأول منه إلى مناقشة علاقة القصد بالإرادة والرغبة والقدرة والاعتقاد (18) . وهو ما يؤكد ارتباط الفعل اللغوي بالقصد ارتباطا وثيقا .
فالمقصد يحدد الغرض من أي فعل لغوي ، كما يحدد هدف المتكلم من وراء ما يتلفظ به ، وهو ما يساعد المتلقي ( المخاطَب ) على فهم الرسالة ، ومن ثَمّ يصبح توفر القصد والنية مطلبا أساسيا وشرطا من شروط نجاح الفعل اللغوي . والبحث عن مثل هذه الشروط يعد من الوظائف الأساسية للتداولية .
وقد نبه علماؤنا على ارتباط المعنى بالقصد ، إذ الكلام قد يحصل بغير قصد فلا يدل ، ومع القصد فيدل ويفيد (19) ، وحذر ابن القيم من إهمال قصد المخاطِب قائلا : " فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه " (20) . وأشـار السـكاكي إلى أنه " إذا اندفع المتكلم في الكلام مخبرا لزم أن يكون قصده في حكمه بالمسند للمسند إليه في خبره ذاك إفادته للمخاطب " (21) . ولا شك أنه بتغير أحوال المتلقي يتغير قصد المتكلم إذ تربط بينهما مقصدية الإفهام واستجابة التلقي .
وقد عرّف ابن خلدون اللغة بقوله : " اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان . وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم " (22) . وهو ما يعني أن المتكلم يتخذ للمعنى الذي يقصده من الوسائل اللغوية والمقامية ما يعين على إدراكه ، وهو في ذلك كله يراعي حال المخاطَب (23) ، ومن هنا فإن قولنا : " إن زيدا منطلق ؛ إذا سمعه العارف بصياغة الكلام من أن يكون مقصودا به نفي الشك أو ردّ الإنكار ، أو من تركيب : زيد منطلق ، من أنه يلزم مجرد القصد إلى الإخبار .. (24)
وقد أدرك العلماء أن هناك وسائل من الممكن أن تقوي الفعل أو تضعفه ، فالأفعال الدالة على اليقين من مثل : أعلم وأرى ودرى وما شابه تقوي الحكم المقصود ، على حين تكون أفعال مثل : أشك وأزعم وإخال وأظن مُضْعِفةً للحكم المقصود .
ب - الافتراض المسبق :
ينطلق المتخاطبون عند كل عملية من عمليات التبليغ من معطيات أساسية معترف بها ومعروفة ، وهذه الافتراضات المسبقة لا يصرح بها المتكلمون ، وهي تشكل خلفية التبليغ الضرورية لنجاح العملية التواصلية ، وهي محتواة في القول ؛ سواء تلفظ بهذا القول إثباتا أو نفيا (25) .
ويرى التداوليون أن الافتراضات المسبقة ذات أهمية قصوى في عملية التواصل والإبلاغ ، وقد تم الاعتراف بدورها في التعليميات ، فلا يمكن تعليم طفل معلومة جديدة إلا بافتراض وجود أساس سابق يتم الانطلاق منه والبناء عليه (26) . ويمكن القول بأن الجملة الاسمية المنسوخة – في غالبها – مبنية على افتراض مسبق ، فإذا قلنا : صار محمد قويا ، فإننا نفترض أنه كان ضعيفا قبل ذلك الحكم . وإذا قلنا : كان محمد قويا ؛ فذلك يفترض ضعفه الحالي ، وإذا ما قلنا : ظننت محمدا قويا ؛ فالافتراض المصاحب لهذا القول أنه ليس قويا الآن ، بل هو ضعيف ، ويضاف إلى ذلك بيان ما داخَل المتكلم من ظن وشبهة .
وهذا ما جعل الافتراض المسبق يشغل جانبا أساسيا من اهتمام علماء الدلالة ، إلى أن برزت إلى موقع الصدارة من اهتمام الباحثين في أوائل العقد الثامن حين أصبحت الوجهة التداولية في دراسة المعنى بديلا لا غنى عنه للوجهة الدلالية في هذا الجانب (27) . وهناك من الباحثين من أراد أن يجعل الافتراض التداولي المسبق بديلا للافتراض الدلالي (28) ، ومنهم من رأى أنه لا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر (29) .
أفعال القلوب بين الوظيفة والدلالة:
نظر النحاة إلى " ظن " وأخواتها نظرا خاصا ، وبدا ذلك من تسميتها مرة بأفعال القلوب ، وأخرى بأفعال الهواجس ، وبينوا المقصد من ذلك بالتفـرقة بينها وبيـن غيـرها من الأفعال ، فهي ليسـت من نوعيـة الفعل " ضربت وقتلت " ، إذ ظن وأخواتها لا يُـراد منها فعل سلف منك إلى غيرك(30) . والمبرد يذكر ذلك نصا بقوله : " والفصل بين علمت وظننت وبابهما ، وبين سائر الأفعال – أن علمت وبابها ليست أفعالا واصلة منك إلى غيرك ، وإنما هي إخبار بما هجس في نفسك من يقين أو شك " (31) ، أما ضربت وبابها فإنها أفعال واصلة إلى الذات مكتفية بمفعولاتها (32) .
وقد نظم النحاة أفعال القلوب في سلك الأفعال المتعدية ، ثم خصوها بنوعية الأفعال المتعدية إلى مفعولين ، وهم مع نظرهم هذا لم يتوقفوا عند ملاحظة ما تقوم به هذه الأفعال من عمل فحسب – على حد قول من زعم غلبة نظرية العامل والمعمول على مصنفات النحاة – بل نجدهم ينظرون إليها من جهة التركيب فينصون على أنه " ليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين دون الآخر " (33) .
وهم في الوقت نفسه لا يغفلون جانب المعنى ، بل إن صح القول فالمعنى هو الأساس والأصل في تمييز هذه النوعية من غيرها .
وهم – من جهة أخرى – يفرقون بين أفعال القلوب وتلك النوعية الأخرى من الأفعال كضربت وقتلت كما سبقت الإشارة - من جهات عدة :
1- فـ " ضربت" وبابها أفعال واصلة إلى الذات مكتفية بمفعولاتها ؛ على حد تعبير المبرد (34) ، أما " علمت " وبابها فليست أفعالا واصلة منك إلى غيرك (35).
2- أن أفعال القلوب إنما هي لبيان اعتقاد المتكلم ، يقول السيرافي في ذلك " فإنه قول يقترن به اعتقاد ومذهب ، وقد يصح ذلك وقد لا يصح " (36) ، ويقول الرضي إنها : " تدخل على الجملة الاسمية لبيان ما هي عنه ، أي لتعيين الاعتقاد الذي هي عنه ، أي تلك الجملة صادرة عن ذلك الاعتقاد .... ففي قولك : علمت زيدا قائما ، حكمك بالقيام الذي هو مضمون الخبر ، على المبتدأ ، الذي هو زيد ، صادر عن عِلْم ، وفي : ظننت زيدا قائما : عن ظن " (37) .
3- أن أفعال القلـوب أشـبهت الحروف ؛ لأنها أفادت معنى في غيرها (38) ، وكأنها بذلك ليست أفعالا حقيقية .
4- أنها إخبار بما هجس في نفسك من يقين أو شك ، ولذا أطلقوا عليها أفعال القلوب ، وأفعال الهواجس .
وقد فرّق النحاة كذلك بين هذه الأفعال والفعل " أعطيت " وبابه من عدة وجوه منها :
1- رغـم أن كلا النوعين ينصب مفعوليـن إلا أن أفعال القلوب ليس لك أن تقتصر على أحـد المفعوليـن دون الآخـر ، في حيـن أن الفعل " أعطيت " وبابه يجوز معه الاقتصار على أحد المفعولين (39).
2- أن فعل الإعطاء وبابه فعل حقيقي يقع مفعولاه مختلفين على حد تعبير المبرد ، يقول : " والفصل بين هذا – يقصد أفعال القلوب – والأول – يقصد الفعل أعطى – أن الأول فعل حقيقي يقع مفعولاه مختلفين . تقول : أعطيت زيدا ، فتخبر أنه كان منك عطاء ، وإن شئت أن تذكره بعدُ ذكرته " (40) .
3- أن أفعال القلوب داخلة على ما كان أصله المبتدأ والخبر غالبا أما الفعل " أعطى " وبابه فإنها داخلة على ما ليس أصله المبتدأ والخبر
4- أن مفعولي أفعال القلوب ؛ أصلهما المبتدأ والخبر ، وهما حديث إما معلوم وإما مظنون ، لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونا وإما معلوما (41) .
5- أن أفعال القلوب تلغى وتعلق ، على حين لا تعلق الأفعال الأخرى ولا تلغى .
ولا يتوقف الأمر عند حد التفرقة بين هذه الأنواع من الأفعال بل يمتد بين صور الفعل نفسه ، فنجدهم ينصون على حالة الفعل " ظن " مثلا إن قصد به التهمة وبين كونه يقصد به درجة من درجات الاعتقاد ، وهكذا الأمر في " علم " إن كان بمعنى " عرف " فإنها تتعدى إلى مفعول واحد (42) . ونبهوا إلى ذلك إما تفصيلا بعرض حالات الفعل كلٌّ على حدة ، وإما إجمالا كقولهم : " ولتعلم أن هذه ألفاظ مشتركة بين أفعال القلوب وغيرها ، فما كان من غير أفعال القلوب لا يقتضي نصب مفعولين ، وما كان أفعال القلوب فمنه ما هو بمعنى قيام المعنى بالقلب ليس إلا ، ومنه ما هو بمعنى حكمه الراجح .... فما كان من قيام المعنى بالقلب ليس إلا لا يقتضي مفعولين وما كان بمعنى حكمه الراجح نصب مفعولين " (43) .
رغم كون النحاة أدرجوا هذه الأفعال تحت باب واحد أطلقوا عليه أفعال القلوب ، وفي تسمية المتأخرين " ظن وأخواتها " ؛ إلا أنهم لم يجعلوها جميعا على وتيرة واحدة ، أو في قالب واحد ، بل فطنوا إلى ما بينها من فروق في الدلالة فقسموها إلى قسمين أساسيين هما (44) :
أ – أفعال دالة على اليقين .
ب – أفعال دالة على الرجحان .
ثم نجـد تلك القسـمة تزداد تفصيلا عند بعضهم ؛ لتصبح على أربعة أقسام (45) :
أ – ما يفيد في الخبر يقينا ، وهو : وجد وتعلّم ودرى وألفى .
ب – ما يفيد في الخبر رجحانا ، وهو : جعل وحجا وعَدّ وزعم وهبْ .
جـ - ما يرد للأمرين ، والغالب كونه لليقين ، وهو : رأى وعلم .
د – ما يرد للأمرين ، والغالب كونه للرجحان ، وهو : ظن وخال وحسب