الترجمة ونشأة الرواية العربية
جابر عصفور - مجلة العربي العدد: 498 ماي 2000.
كان المجلى الثقافي الأول لانفتاح الوعي الديني لعصر النهضة على العالم هو ترجمة المعروف من إبداعات "الآخر" في الآداب الأجنبية، وإتاحة أعماله القصصية بوجه خاص للقارئ العادي.
لقد كان شيوع المترجم بواسطة (الصحافة) موازياً لإعادة قراءة القصص التراثي الذي أتاحته (المطبعة) للجمهور, وأشاعته بين قطاعات عدة من القرّاء, ابتداء من المطبعة الأميرية في بولاق التي أصدرت الطبعة الأولى من (ألف ليلة وليلة), بتصحيح الشيخ عبدالرحمن الصفتي, وأعقبتها بعد نفادها بطبعة ثانية أشرف على تصحيحها الشيخ قطة العدوى, وهي الطبعة التي اكتسبت بها ألف ليلة شهرتها الحديثة, خصوصاً بعد أن تداولتها المطابع الأهلية في مصر وغيرها. ويوازي طبع (ألف ليلة) ما نشرته المطابع (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) من أعمال تجمع ما بين (سيرة عنترة) و (سيرة علي الزيبق) و (سيرة الزير سالم) و (سيرة بني هلال) و (قصة الملك سيف بن ذي يزن) و (قصة الأمير عامر الكناني) و (قصة قيس بن الملوح: مجنون ليـلى), و (قـصة حـمزة البهلوان) و (قصة فيروز شاه) وغيرها من القصص التي طبعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, والتي حاول حصرها المرحوم شاكر مصطفى في كتابه عن (القصة في سوريا) الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1958.
وتفضي النظرة المتأملة في هذه القائمة إلى ملاحظات عدة, أولاها أن شيوع فن القص بوجه عام يقترن اقتراناً وثيقاً في نشأته بالمطبعة التي هي لازمة من لوازم المدنية الحديثة. وثانيتها أن طباعة الموروث القصصي العربي نقلت تقاليد السرد في هذا الموروث من التقنيات الشفاهية إلى التقنيات الكتابية, ومن ثم أسهمت في إحلال القصة المطبوعة محل القص الشفاهي, ووضع كاتب القصة بمفهومه العصري محل الراوي الشعبي بمفهومه القديم وحضوره التقليدي الذي كان عليه الانزواء مع تصاعد تحديث المدينة, وترتبط ثالثة هذه الملاحظات بالدور الذي قامت به الجريدة والمجلة في فتح باب ترجمة القصة الأجنبية على مصراعيه, وذلك في موازاة القص الموروث الذي أشاعته المطبعة من ناحية, واستجابة لحاجات القرّاء المتزايدة إلى هذا النوع من القص الذي بدا أقرب إلى حياتهم العصرية من ناحية ثانية, واستهلالاً لحركة التأليف القصصي من ناحية أخيرة.
بدايات القص
وطبيعي أن تتداخل المستويات اللغوية في هذه المرحلة, ويغدو للموروث القصصي المطبوع أثره البالغ في لغة السرد المستخدمة في القص الجديد, المؤلف أو المترجم, وذلك إلى الدرجة التي تستحق دراسة مستقلة, دراسة تبرز الدور الذي لعبه الموروث القصصي في تشكيل بدايات الكتابة القصصية بعامة والروائية بخاصة, حتى في داخل دائرة الترجمة التي كانت إعادة لإنتاج الأصل في اللغة المنقول عنها حسب شروط وأوضاع اللغة المنقول إليها.
ولولا ذلك ما جاور الشعر النثر حتى في الرواية المترجمة, وما تحولت عناوين من مثل (مغامرات تليماك) إلى (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك). ولكن بقدر ما كانت المطبعة تتيح تجاور الموروث والوافد المترجم, ومن ثم إمكانات التلاقح على المستويات المختلفة للغة السرد ما بين الاثنين, كـانت (الجـريدة) و (المجلة) تصل بهذا التلاقح إلى درجة أكثر وحدة في التتابع الأسرع لصدور أعداد (الجريدة) ثم (المجلة). وكان من نتيجة ذلك انزياح طرائق السرد الموروثة بلغتها البديعية, شيئاً فشيئاً, مقابل استيطان طرائق سردية جديدة ولغة مغايرة أطلق عليها اليازجي (لغة الجرايد).
ومن هذا المنظور الأخير, تبدو حركة ترجمة فنون القص الحديثة على صفحات المجلات والجرائد بمنزلة لازمة انتقالية من لوازم التحديث الذي حلت به المطبعة الآلية محل النسخ اليدوي, وحل القص المطبوع في الجريدة أو المجلة محل القاص الشعبي الذي كان لايزال يروي قصصه شفاهة في المقاهي أو الأعراس. ولم تنقطع الصلة بين لغة هذا القاص ولغة القص المترجم فجأة, أو على سبيل الإطلاق, فقد بقيت نقاط للاتصال, تتواصل بها تقاليد السرد العربي القديم, سواء بأساليبه المسجوعة أو حكاياته المقامية أو إيثاره المواقف الغرائبية أو العجائبية, ولكن تأسست نقاط انفصال في الوقت نفسه, وتأصلت تقنيات وافدة, انقطع بها السرد المطبوع على صفحات الجريدة أو المجلة عن السرد الموروث مشافهة, أو المنقول عبر مطبوعات بولاق وما أشبهها! أما السرد الأول فأخذ يقترب من البساطة, ويتخلى عن أثقال السجع أو قيود البديع ليقترب من الحياة التي يحياها المواطن العادي, لكن دون أن يفقد صلته بالتراث السردي الذي ظل حيّاً, مستمراً, في عناصر دالة عليه, حتى فيما أخذت تنشره الجرائد والمجلات من روايات مسلسلة, أو تصدره المطابع في كتب مستقلة.
وقد أوضح أكثر من باحث الصلة بين نشأة القصة في الأدب العربي الحديث وازدهار الصحافة, مؤكدين أن القرّاء العرب الذين لم يستطيعوا أن يقرأوا فنون القص الغربي في لغاتها الأصلية, بسبب عدم معرفتهم باللغات الأجنبية, وجدوا في الصحافة والترجمة ومن ورائهما المطبعة عوناً كبيراً على اجتياز هذه العقبة, فقرأوا القصص المترجم في الصحف والمجلات التي بدأت تنشر في ذلك الوقت. ويوضح محمد يوسف نجم, في كتابه (القصة في الأدب العربي الحديث: 1870-1914) الذي صدرته طبعته الأولى في القاهرة سنة 1952 أن المنشورات الجديدة من المجلات والجرائد أخذت تسترضي قرّاءها, وبخاصة البسطاء منهم, بهذا القصص الذي كانوا يتقبّلونه تقبّلاً حسناً, ويقبلون على شراء الصحف في أكثر الأحيان من أجله, لما يجدون فيه من المتعة والتسلية, ولما فيه من قضايا ومشكلات هي قضاياهم ومشكلاتهم.
حمى الخوف من القصص
ويذكر محمد يوسف نجم نماذج من الصحف والمجلات التي عنيت بالقصص, من مثل (حديقة الأخبار) لخليل الخوري (بيروت 1858) التي نشر فيها صاحبها قصصاً موضوعة ومترجمة, وكان الكثير من أصدقائه يترجمون بعض القصص والمقالات ويبعثون بها إليه لينشرها في صحيفته, ومن هؤلاء سليم بسترس وإسكندر توين وغيرهما, ومنها (الشركة الشهرية) ليوسف الشلقون (1866), وقد نشرت في جزئيها الرابع والخامس قصة (مونت كريستو) لدوماس الأب, ترجمة سليم صعب, وكذلك (البشير) للآباء اليسوعيين (بيروت1870 ), و (الجنان) لبطرس البستاني (1870) و(النحلة) للويس صامونجي (بيروت 1870) و (الأهرام) (مصر 1876), ومما نشر فيها رواية (الكونت دي مونغوميري) لإسكندر دوماس تعريب قيصر زينيه (1881) و(ذات الخدر) لسعيد البستاني (1884) ورواية (زعفرانة) التي عرّبها داود مرعب (1886), ويضيف محمد يوسف نجم إلى ذلك (لسان الحال) لخليل سركيس (بيروت 1877), و (الصفا) لعلي ناصر الدين (1886), و (جريدة لبنان) لإبراهيم الأسود.
ويبدو أن تزايد إعجاب القرّاء بالقصص المترجم المنشور في الجرائد والمجلات, وما أدى إليه من اتساع دوائر التوزيع, دفع المجلات التي ظلت مترددة في تقبّل هذا الفن إلى الإقبال عليه, وذلك على نحو ما حدث مع مجلة (المقتطف) التي أبدت في مناسبات كثيرة استنكارها لقراءة الروايات الحبية لما تسبّبه من مشكلات للشبان والشابات, ولم تتردد في أن تطلب من أولياء الأمور أن يحثوا الشبّان والشابات على قراءة الموضوعات النافعة التي تلذ العقل وتربي القوى العقلية والأدبية, لكي لا يُتاح لهم الوقت الكافي لقراءة القصص الباطلة ونحوها مما يفسد الأخلاق. ولكن (المقتطف) سرعان ما غيّرت سياستها, واستجابت إلى نداء العصر ورغبات القرّاء فيما يقول محمد يوسف نجم, فترجمت القصص ووزعت واحدة منها على المشتركين الذين دفعوا الاشتراك في شهر يناير من سنة 1887. ولم تكتف (المقتطف) بذلك, بل أضافت إلى أبوابها الثابتة - داخل باب الهدايا والتقاريظ - باب تأليف الروايات وانتقادها, وكان ذلك في السنة السادسة عشرة (1891) بمناسبة إصدار جرجي زيدان روايته (المملوك الشارد), وهي الرواية التي كانت نواة مجلة (الهلال) التي شهدت تتابع روايات تاريخ الإسلام بعد ذلك.
والواقع أنه ما كاد القرن التاسع ينصرم إلا وكانت الصحافة العربية كلها - أو جلها - تحتفي بالقصة المترجمة احتفاء واضحاً في دلالته, ولا تتردد في ترجمة الروايات التي ظلت تنشر مسلسلة على صفحات الجرائد السيارة للعصر, أو المجلات التي أفسحت صفحاتها لترجمة القص, على نحو ما فعلت (الهلال) لجرجي زيدان (القاهرة 1892) و (المشـرق) للآباء اليسوعـيين (بيروت 1898) و (الضياء) لإبراهيم اليازجي (القاهرة 1898) التي أفردت بابا للفكاهات (القصص والأقاصيص), ويذكر محمد يوسف نجم أن نسيب المشعلاتي كان من أبرز كتّابها في هذا المجال, وقد أتاحت (الضياء) الفرصة للتعريف بقصص لبيبة هاشم التي أصدرت مجلتها (فتاة الشرق) سنة 1906 متبعة - فيما يقول نجم - خطة الضياء وترتيبها في تقديم المؤلف والمترجم والمعرب. ويؤكد الملاحظة نفسها ظهور المجلات التي اختصت أو كادت بنشر القصص, ومن أولها (سلسلة الفكاهات) لنخلة قلفاط (بيروت 1884) و (ديوان الفكاهة) لسليم شحادة وسليم طراد (بيروت 1885), وكان ذلك بداية التيار الذي تمخفض عن (منتخبات الرواية) لإسكندر كركور (القاهرة 1894) و (سلسلة الروايات) لمحمد خضر وبشير الحلبي (القاهرة 1899) وغيرهما.
روايات جماهيرية
لكن يلفت الانتباه في القوائم التي يذكرها محمد يوسف نجم أن الروايات المترجمة ظلت - في مجملها - أقرب إلى الطابع الجماهيري المسلي, أعني الطابع الذي لا يحمل فكراً عميقاً, ويركز على المغامرات الغرائبية والأحداث العجائبية, ويضع في موضع الصدارة أخبار الغرام التي أصبحت مناط رغبة الشبان والشابات في مجتمع لايزال مكبوتاً ومقموعاً بتقاليده الاجتماعية, ومن الطبيعي أن تحرص في ذلك العصر على ذلك الطابع لزيادة توزيعها, وجذب القرّاء الشباب على وجه الخصوص إلى مطالعتها, الأمر الذي أثار مخاوف الفئات المحافظة في مجلات من مثل (المقتطف) و (المشرق) وغيرهما, لكن هذه المخاوف لم تستطع أن توقف تزايد الإقبال على الترجمة, وتقديم نماذج متعددة من القص للقرّاء.
الفرنسية تسود
ويلفت الانتباه في هذا المجال ما أسقطه الاختيار في الترجمة إلى جانب ما تم اختياره والتركيز عليه, والملاحظة الأولى الدالة في هذا المقام كثرة الترجمة عن الفرنسية بالقياس إلى الإنجليزية, وذلك بسبب قوة العلاقة الثقافية بفرنسا التي ذهبت إليها البعثات الأولى للأجيال التي ضمت أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك في مصر, كما ضمت فرنسيس فتح الله المراش وأديب إسحق في الشام, ولذلك ظل حضور أسماء الروائيين الإنجليز شاحباً, شبه منعدم, في حركة الترجمة العربية طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
والملاحظة الثانية هي النزوع الكلاسيكي الذي تنطوي عليه الروايات المترجمة, سواء كانت المنقولة عن كتاب القرن السابع عشر حيث أمثال فينيلون, والقرن السابع عشر حيث أمثال فولتير, أو القرن التاسع عشر, وهو قرن ازدهار الرواية الذي يبدأ بكتابات فيكتور هيجو وألكسندر دوماس, ويختتم بكتابات جول فيرن وإميل زولا, واللافت للانتباه في إطار هذه الملاحظة أنه حتى الاختيارات التي تمت من بين كتّاب الرومانسية الأوربية, أمثال شاتوبريان وهيجو, كانت اختيارات أقرب إلى الروح الكلاسيكي, وأميل إلى النزعة العقلانية التي انطوى عليها كتاب النهضة الذين رأوا في أولوية العقل وسيلة للتحرر من سطوة التقاليد الجامدة, وبشارة لزمن جديد آت بالنظام والتقدم وانضباط المدينة العاقلة, ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يصدر محمد روحي الخالدي (1864-1913) كتابه (علم الأدب بين الإفرنج والعرب) سنة 1904 منتصراً فيه للطريقة الكلاسيكية (المدرسية), وينقد شاعره الأثير فيكتور هيجو في روايته (البؤساء) لتعظيمه الأمور وإرخائه عنان القوة الوهمية الخيالية, ودليل ذلك ما وجده الخالدي في مؤلفاته مثل (كازيمودو) والرجل الضاحك (من الأشخاص الموهومة التي لا توجد إلا في كتاب ألف ليلة وما كان على نسقه).
وتتصل الملاحظة الثالثة بالملاحظة السابقة المتصلة بدلالة الانحياز إلى الأعمال الكلاسيكية, ذات الطابع التعليمي والنزوع الأخلاقي, وسواء كانت هذه الأعمال منتسبة إلى البواكير الأولى للرواية الأوربية في القرن السابع عشر, أو ما تلاه إلى قرن الازدهار - التاسع عشر, فقد ظلت الترجمة أميل إلى الروايات الكلاسيكية أو الروايات التي ظلت محافظة على المنحى الكلاسيكي في رؤية العالم. ومن ثم أميل إلى الخيال المتصل وليس الخيال الرومانتيكي المحلق, ويلفت الانتباه في هذا المجال أن كتاب النهضة ذوي النزوع العقلاني عاصروا اتجاهات الرواية الأوربية المجاوزة للرومانتيكية في القرن التاسع عشر. فقد فرغ بلزاك Honore de Balzac (1799-1850) من نشر أعماله الروائية, بل ودّع الحياة بأسرها, قبل خمس سنوات من نشر أحمد فارس الشدياق لسرديات (الساق على الساق) في باريس نفسها سنة 1855, وتوفى إميل زولا Emile Zol (1840-1902) في السنة نفسها التي فرغ فيها محمد المويلحي من نشر آخر مقامات (حديث عيسى بن هشام) في مجلته (مصباح الشرق), وحين اختار رفاعة الطهطاوي ترجمة (مغامرات تليماك) لفينيلون ونشرها في بيروت سنة 1867, كان إميل زولا في العام نفسه يطبّق نظرياته العلمية في روايته (تيريز راكان) Therese Raquin التي كانت البداية الحاسمة للرواية الوضعية المتميزة بقوانينها العلمية, وحين نشر علي مبارك روايته (علم الدين) سنة 1882 كانت الرواية الأوربية قد استقرت في القرن الثامن عشر وقبل أن ينشر جرجي زيدان أولى رواياته التاريخية سنة 1891 كان ولترسكوت قد ترك ميراثاً ضخماً وتقاليد متواصلة من الروايات التاريخية جنباً إلى ما خلفه كتاب القرن التاسع عشر أو بناة الرواة العظام, إذا استخدمنا التسمية التي أطلقها ستيفان زفايج.
الريبة مازالت موجودة
وتكشف هذه الملاحظة عن أخرى ترتبط بها, وتتصل بتواضع التأثر بالروايات العالمية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وهي ملاحظة تتصل بتركز الاختيار على نماذج كلاسيكية الكلاسيكية الروائية إذا صح التعبير, والانحصار في مركزية ثقافة غالبة بدل الانفتاح على كل العالم الأوربي بتعدد لغاته, والميل إلى الروايات التعليمية والأخلاقية التي تدعم النزعة العقلانية الإحيائية, وقد تكون الاسترابة المحافظة من الرواية الأوربية السبب في ذلك, وقد يكون عدم وجود مترجمين أكفاء بالقدر الكافي للترجمة عن الإسبانية والألمانية والروسية والإيطالية وغيرها من اللغات سبباً مضافاً, وقد تكون بنية الذهنية العقلانية الصارمة سبباً ثالثاً لتضييق دائرة الاختيار, وأيّاً كانت هذه الأسباب أو غيرها فإن المؤكد أن حركة ترجمة الرواية كانت لاتزال وليدة لم تقو بعد على مواجهة تحدّيات القوى المحافظة في العصر وموقفها العدائي بوجه عام من ترجمة الروايات.
ويبدو أن ذلك هو السبب في أن حركة الترجمة لم تقترب من أسماء الروائيات البارزات في القرن التاسع عشر, من مثل جين أوستن التي كتبت (كبرياء وهوى) المنشورة سنة 1813 و (إما) المنشورة سنة 1815 وغيرهما من الروايات التي كانت نموذجاً لكتابة المرأة في مطلع القرن التاسع عشر. ولم تقترب حركة الترجمة العربية كذلك من كاتبة مثل جورج إليوت (1819-1880), التي بدأت نشر رواياتها منذ خمسينيات القرن التاسع عشر, أو من الأخوات برونتي Bronte, إملي برونتي (1818-1848) التي نشرت (مرتفعات وذرنج) سنة 1847. وشارلوت (1816-1855) التي نشرت (جين إير) في السنة نفسها مع أختها آن (1820-1849) التي نشرت (إجنيس جراي). وأتصور أنه كان من الصعب على آليات المثاقفة العربية أن تتيح للمرأة الكاتبة في القاهرة أو بيروت أو حلب - خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر - أن تمضي في الأفق الذي سبقتها إليه الكاتبة الإنجليزية أو الفرنسية, أو تتمتع كاتبة مثل أليس البستاني أو زينب فواز أو لبيبة هاشم بالجرأة التي تدفع بها إلى المناطق الحرجة التي اقتحمتها كاتبة مثل جورج صاند (1804-1876) سواء في روايتها (أنديانا) أو (فالنتين) (1832) أو (ليليا) (1833) أو (بحيرة الشيطان) (1846) أو غيرها من الروايات التي صاغت التمرّد الجذري للمرأة بقلمها, للمرة الأولى, على أوضاع المجتمع التي تفرض على الأنثى زوجاً لا تحبه, وحياة تخلو من حرية الاختيار والفعل. ولا غرابة في أن يبتعد المترجمون عن مثل هذا النوع من الروايات, وأن تخلو قوائم الترجمة التي ذكرها محمد يوسف نجم وغيره من الذين أرّخوا لنشأة الرواية العربية من ذكر المترجمات, ذلك على الرغم من أن آليس بطرس البستاني أصدرت روايتها (صائبة) في بيروت سنة 1891, قبل عام واحد من إصدار هند نوفل مجلتها (الفتاة) في الإسكندرية سنة 1892.ولعل الملاحظة السابقة تكشف عن حدود الممنوع والمباح في إمكانات الترجمة المطروحة أمام مترجم النصف الثاني من القرن التاسع عشر, سواء أولئك الذين قدموا ترجماتهم للجرائد والمجلات أو الذين نشروا أعمالهم في كتب مستقلة, فالمؤكد أن بنية الثقافة السائدة في ذلك الوقت ما كانت تتيح لكتابة المرأة إلا الهامش المحدود الذي تحركت فيه كتابة أمثال آليس البستاني وزينب فواز ولبيبة هاشم, وما كانت تتيح للمترجم الاقتراب من الروايات التي يمكن أن تثير مشكلات اعتقادية أو اجتماعية حادّة, أقصد إلى روايات من صنف ما كتبه فولتير وديدرو وجان جاك روسو في القرنين السابع عشر والثامن عشر, أو روايات من صنف ما كتبه المركيز دي صاد (1740-1814) الذي نشر (حوارا بين قسيس ورجل ميت) كما نشر بعدها (مائة وعشرون يوماً في سدوم) وغيرهما من الروايات والمسرحيات التي جعلت منه شيطاناً رجيماً في عالم الكتابة.
ولا شك أن الخيال المتعقل لمترجم النهضة, فضلاً عن السياق التاريخي الذي ارتبط به, دفعه إلى البعد عن المناطق الروائية الشائكة, وتعويضها باختيار المناطق الروائية التي تقترن بالتشويق في دائرة المغامرات, أو دائرة الحب الذي لفتت رواياته الأوربية المترجمين, منذ أن ترجم محمد عثمان جلال (1829-1898) رواية (بول وفرجيني) تحت عنوان (الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة), وهي روايات قد تثير استهجان المحافظين الذين يتحرجون من الحديث في مسائل الحب, لكن تحرجهم لا يدفعهم إلى القمع الصارم لكتّاب (الرواية الحبية) التي جذبت الكثيرين من قرّاء الجرائد والمجلات.
لكن أيّاً كانت مساحة الممنوع في ترجمة الرواية الأجنبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, سواء من حيث النواحي الرقابية الموجودة في الجرائد والمجلات أو النواهي الرقابية التي تفرضها العناصر المحافظة في المجتمع, فإن مساحة المسموح بترجمته كانت دالة بتأثيرها رغم محدودية الهوامش التي انبسطت فيها, وكان للروايات المترجمة تأثيرها المباشر وغير المباشر على تأسيس الرواية العربية وتشكّلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
جابر عصفور