في دنيا القساة ،تحتضر نفوس كريمة في صمت محير ،قد أُشربت قلوبهم الذلّ والهجر والنسيان ،وفاضت أعينهم من الدمع ألا يجدوا أنيسا من أبنائهم ،يؤاكلهم ،أو يحادثهم ،أو حتى يبتسم لهم .
تلك حكاية جارنا العجوز ،وتلك هي مشاهد آخر حلقة من سلسلة حياته ،حكاية يرويها ،بعد أن سمعني أقرأ ﴿ وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾ .
فشاهدو .....!!. عفوااااا....فاقرءوا قصته معي ؟؟؟!!إذ يقول :
"كل صباح كنت أجاهد لطرد بقايا أحلامي المغموسة بالخوف، أفرك عينيّ وأمسّد وجهي المترهل أمسح صمغ الخوف عن جلدي، أقوم من سريري بصعوبة أتمنى أن أنفض عن كاهلي سنواتي التي قاربت الثمانين، أعدّ ماء وضوءي أتقصد أن تكون ضعيفة كي أمرر أطول زمنٍ ممكن، في الواقع قدرتي على التعود على السأم والقلق كانت في درجة لا يتحملها أحد في مثل سني، أجلس على مقعدي في الصالون أستمع لنشرة الأخبار من عدة محطات، فأشعر أن اكتئابي أصبح شاملاً.
فيما مضى كانت وحدتي هي حريتي، علَّمتني الحوار مع نفسي، ابتدأت مرحلة التقاعد بهمّة عاليةٍ، قررت أن أبدأ حياةً جديدةً، دافناً أحزاني على زوجتي التي تركتني دون لحظة وداع وانتقلت إلى العالم الآخر، كل صباح كنت أقصد مقهى شعبياً متأبطاً عدة جرائد، أجلس في المقهى ساعتين على الأقل أقرأ الصحف وأقحم نفسي في أحاديث مع رواد المقهى، لكن متعتي الوحيدة في ارتياد المقهى تقلصت حتى تلاشت لأن راتبي التقاعدي لا يسمح بتلك الرفاهية التافهة، وحين وصف لي الطبيب أدوية للالتهاب المفاصل، أصبت بعجز مادي حقيقي، وصار عليّ أن أتقبل معونة أولادي راسماً ابتسامة الذل على وجهي.
أولادي أين هم؟ من يصدقني أني اعترفت لنفسي مراراً أني لا أصدق أن لديّ أبناء، أحاول أن أعذرهم فالحياة تطحنهم، أبرر لهم جفاءهم وقسوتهم، أقبل عن طيب خاطر أن أكون ساحة صراخهم وغضبهم وقهرهم من الحياة التي حولتهم وأمثالهم ـ لجيل من الجائعين ـ ذات يوم حضرت شجاراً حاداً بين ابني وزوجته، وصل حدّ الضرب بسبب كيلويين من الموز، ابني يتهم زوجته بالإسراف لأنها اشترت كيلوين، والزوجة فجّرت كل قهرها من الزمن بزوجها متهمة إياه بالبخل، وبأنها تعيش عيشة الكلاب معه، وفي نهاية الشجار تمنى كل منهما لو لم يتزوج الآخر.
كنت أغضّ النظر عن زيارات أولادي لي بهدف الاطمئنان عليّ، كل منهم يخرج حاملاً غرضاً من البيت، لوحة، أو سجادة، طناجر أو صحوناً، حتى شراشف الأسّرة أخذوها تاركين لي شرشفين ثم تركوني أعزل في مواجهة أحزان قلبي مع ابتسامةٍ حزينةٍ يفاجئني بها وجهي حين ألمحه عرضاً في المرآة، لم يخطر ببالهم أن سلوكهم هذا يعني أنهم يقولون لي: لم يعد لكَ لزوم، أعطنا أشياءك القليلة، فما حاجتك لها، نحن الشباب الحياة لنا .
لم أستطع أن أعاتبهم قط، رغم أني كنت أصرخ بصوتٍ متشقق بالغضب والقهر في وحدتي شاتما إياهم ومعاتباً وأتخيل أنهم يُطرقون صامتين يصغون لكلامي، لكن ما إن يزوني أحدهم حتى يمتلئ كياني بالوداعة، وأسرع محضراً بعض الحلوى الرخيصة لأحفادي، شاعراً أني أرشوهم لأشحذ منهم قبلة ندية يطبعونها على عجل على خدي المتغضن بتجاعيد الطيبة.
ذات يوم طلب مني ابني أن أعطيه التلفزيون الملون، ووعدني أن يحضر تلفزيوناً بالأبيض والأسود، صممت أن أرفض وأن أصرخ في وجه ابني: أن طمعهم بي في خريف عمري تجاوز الوقاحة ذاتها، لكن حين هممت بالكلام وجدت نفسي أقول: خذه يا بني، فقد ضعف نظري، وما عدت أُميّزُ الألوان بدقةٍ.
أحسست أن لسان حالي يقول: خذوا كل شيء، لكن لا تنقطعوا عن الزيارة المعتادة لأبيكم المسكين. في أعماقي كنت متأكداً أني لو رفضت إعطاء ابني التلفاز لقرر الأخير مقاطعتي.
كانت أيامي تنساب في فتورٍ وصمتٍ أقرب للشلل... فكل شيءٍ حولي يبعث على الأسى صرت عاجزاً عن لملمة أفكاري، أتأمل خشونة الحياة حولي، معاناة البشر، أحاول أن أفكر بمشاكلهم معزياً نفسي، وشاعراً بتلك الألفة المتأتية من المعاناة المشتركة بين البشر، لكن أفكاري تتبدد وتتوه كما يتوه الماء في الرمال.
تضاءلت زياراتي لأولادي، ففي كل زيارة أشعر بالحرج، وبأني ضيف ثقيل، زوجة ابني البكر لا تكلمني أبداً، تنظر إليّ بعينيها الواسعتين، نظرةً باردةً ميته، وحين تقول لي جملتها الوحيدة: مع السلامة، أحس أنها تصفعني.
كلهم ينصرفون عني لمتابعة برامج التلفزيون، أتظاهر أني أتابعها معهم، لكن حين يصدر عني تعليق، أو أشتاق لخلق حديث معهم يزجرونني كي لا أقاطع انتباههم لحوار الممثلين الأكثر أهمية من حديث الرجل العجوز الذي فقد حاجته الوحيدة في الحياة: الحنان.
لا أنسى يوم كنت أتغدى عند ابنتي البكر، كنت سعيداً بدفء الوجوه التي أحبها والتي أشعر أنها الوحيدة التي تخصني فيما تبقى لي من عمري، أحسست بعدوى شهوة الطعام وأتأمل أحفادي يأكلون الرز مع السبانخ واللحم بمتعة وشهية وجدت نفسي أتحول إلى طفل وآكل مثلهم، إلى أن انقضَّ عليه صوت زوج ابنتي يصرخ بزوجته: قلت لك أنت اسكبي لـه السبانخ واللحم، اللحم أحق بالأطفال، ألا ترين أنه التهم نصف كمية اللحم، لم أعد أسمع، توقفت اللقمة في بلعومي، وكدت أختنق، هزتني نوبة سعالٍ عنيفة لدرجة أحسست أن عينيّ ستخرجان من حُجريهما، وأن قلبي سيتوقف.
عدت إلى بيتي مهزوماً منكسراً، أحس أني لم يتبق لي سوى شرف عزلتي يصونني من الأذى، تحديداً من أذى اقرب الناس إلى قلبي.
صرت عاجزاً عن أن أتمنى، فماذا عساي أتمنى؟؟ أمزيداً من تراكم أيام الذل، إني لا أريد سوى الراحة، ترى كيف هي؟ ياه كم ثقلت عليّ الحياة، وكم هو مؤسف أن تكون وحيداً لهذه الدرجة ولديك أربعة أولاد، و(حفنة) من الأحفاد كان أبناءي يحضرون لـي طعام الغداء بالتناوب، وفق برنامج اتفقوا عليه، في البداية كانوا يجلسون معي لساعةٍ أو أكثر، يحدثونني ويطمئنون على صحتي يوصونني ألا أنسى قفل جرة الغاز, لكن زياراتهم صارت أقصر، حتى انعدمت ربما ملَّوا مني لأن سمعي غدا ثقيلاً فكانوا يضطرون للصراخ ولإعادة الكلام مراراً، صاروا يدّعون المشاغل الكثيرة، ويمدون لي طعامي من طاقة الباب المستطيلة....
كنت أتخيل دوماً تلك اللقطة من فيلم قديم كيف تقدم فيه امرأة الطعام لكلبٍ، أحس تماماً أني استحلت إلى حيوان... كنت آخذ معي طعام الذل، إنهم لا يتركونني، أبداً بلا مؤونة لألمي، يخشون ألا أجد ألمي ما يتغذى به كل صباح!.
ذات مساء أحسست أن روحي تختنق، اشتاق أن يتحدث معي إنسان حديث قلب لقلب قصدت بيت ابنتي الصغرى، كنت أعرف أنهم في الداخل فالضوء يشفّ من شقوق الباب، وصوت التلفاز ملعلع قرب الجرس، وقلبي يختلج بشوقٍ كبيرٍ لكل تلك المعاني الإنسانية التي نسيها إنسان اليوم، لمحت خيالاً يتحرك من وراء زجاج الباب، خفت صوت التلفاز وابتعد الخيال، كررت قرع الجرس مراراً، ظل الباب موصداً... تلقيت الطعنة في قلبي المتعب من خيبات الحب، ورغم ألمي لم أستطع أن أرجع إلى صقيع وحدتي، قصدت بيت ابني، في أعماقي كنت أفتش عن طعنةٍ أخرى تتآزر مع الطعنة الأولى وتقتلني، فتح ابني الباب بوجهٍ شوهه الغضب، أحسست أن ابتسامته بلهاء لأنها لم تحرك أي شيء عند ابني، ما إن لمحته زوجته حتى تعللت بالصداع، وذهبت لتنام، ما إن هممت بالكلام مع ابني محاولاً معرفة سبب انزعاجه، حتى انفجر الأخير كقنبلةٍ، كان دوي صوته مرعباً لدرجةٍ اهتزت معها الستارة الرقيقة الوحيدة صرخ: لا أحتمل كلمة، أتفهم، أنت السبب، أنت من أخرجتنا إلى دنيا الشقاء، رجل بائس وفقير مثلك لماذا يتزوج؟ لماذا ينجب أطفالاً، ليعيشوا عيشة الكلاب، أليس كذلك...؟!.
وددت لو أقول له: لقد علمتك حتى أنهيت دراستك الجامعية، وربيتك أحسن تربية وسحقت نفسي من أجلك و....
لكن الكلام تخثر في بلعومي وتبدد....
لم يعتذر ابني عن عاصفةٍ غضبه التي صبها علي ، حلَّ بيننا صمت ثقيل، خرج ابني المشحون بالقهر صافقاً الباب وراءه، غير مبالٍ بنظرات الذعر والألم في عيون أولاده، أوشكت للحظةٍ أن أنهار عند قدميّ حفيدي ذي الأعوام الخمسة، وأن أوسّدَ رأسه في حضنه، اقتربت من الصغير وأمسكت بيده. رفع الصغير عينين حولّهما الحزن لعيون تشبه عيوني،عيون جده المنخور بالألم، أحسست أن الصغير يحتمي بي، مسحت بكل الحنان المقموع في روحي على رأس حفيدي وهممت أن أبكي راكعاً على قدميّ ورأسي في حضن حفيدي، هكذا اشتهت روحي لكني تراجعت خائفاً وأنا أسمع صوت زوجة ابني تصرخ بأولادها بخشونةٍ أن يدخلوا إلى غرفتهم....
(كل طعامك كحيوان) هذه الجملة كان يبتدئ بها نهاري وترافقني بإلحاح اليوم كله، وفي بيتي الضيق العاري من الأغراض، كنت أحس أني أختبر شعور العيش في قبر، لكن مشاعر رائعة ومفاجئة كانت تتسلل إلى روحي وأنا في قمة يأسي، فأحس وأنا أتقبل قسوة أولادي أن روحي غنية، وأن الله يساعدني بطريقةٍ خفيةً ويجعلني أتذوق قطرات من العذوبة الإلهية التي تسقط في روحي من سماءٍ قصية لكني متأكد أنها موجودة، فتحول قلبي المتورم من القهر، إلى قلب يتسع للعالم كله، بل أحسست قلبي أكبر من العالم. فأشفق على قساة القلوب الذين أفقدهم الغضب والقهر موهبة الحب. والذين أنساهم زمن المادة أبجدية الحنان....
ذات صباح وبعد أن أعطاني ابني طعامي من طاقة الباب، ودخل إلى المطبخ، دخلت قطة من الباب الذي نسيته مفتوحاً، يبدو أنها شمت رائحة الطعام، اشتعل قلبي فجأةً بسعادةٍ كمن وجد حلاً لأزمةٍ عذبته طويلاً، أسرعت أغلق الباب مانعاً الحيوان من الفرار، قَدّمت لها غذائي، فالتهمته بشهيةٍ عاليةٍ، كم كنت سعيداً، قرفصت وأخذت آكل معها، وتعمدت أن يكون لها الحصة الكبرى كنت مبتهجاً كوني لم أعد وحيداً، وددت لو أسألها وأنا أعد قهوة بعد الغذاء إن كانت ترغب بفنجان قهوةٍ، أسعدني أني لا أزال أملك بقايا دعابة أقاوم بها خشونة الحاضر، قررت أن أصون علاقتي بذلك الحيوان، مغدقاً عليه الحنان المقطر قطرةً قطرةً في روحي..."
.....
يحي امحمد عبد المتين