لعل من أبرز مآخذ النصيين الغربيين على من سبقهم من المدارس اللسانية كونهم اتخذوا من الجملة الوحدة الكبرى في التحليل اللغوي ، وقد تبعهم المحدثون العرب الذين اهتموا بعلم اللغة النصي ، فردّدوا ما قال أولئك ، متّهمين النحو العربي بأنّه نحوُ جملةٍ ، وأنّه لم ينظُرْ إلى النصوص على أنّها وحدةٌ متماسكةٌ .
وحقيقةُ الأمرِ أنّه ينبغي أن ننظرَ إلى هذا الادّعاء بشيء من التريّث والاستقراء لما جاء من عند النحويين العربمن إشارات ترتبط بهذا الموضوع ، كما فعلوا مع غيرهم من البلاغيين والمفسّرين ، حيث أثبتت البحوث في هذا الميدان أن للبلاغيين والمفسرين العرب دورًا كبيرًا في الوقوف على كثير من قضايا التماسك النصّي .
وما قدمه محمّد خطابي في دراسته الرائدة عن انسجام الخطاب خيرُ دليل على ما نحن بصدده ، فقد تتبع الإسهامات العربية التي عُنيت بالتماسك النصي ، وعرض لجهود البلاغيين والنقّاد والمفسّرين ، وبيّن إسهام كلِّ فريق ، معضدًا ذلك بكثير من الشواهد والنقول ([1]).
لكنّه غيّب جهود النحويين فيما قدّمه ، ممّا يوهم بعدم اهتمام النحويين العرب بقضية التماسك النصي ، وهو أمر ألمح إليه إلماحًا ، وصرّح به د. محمد العبد في قوله : « لا يكادُ يتقدّم أحدٌ من النحاة أو اللغويين باختبار قواعده أو مسائله اللغوية من خلال النصوص الأدبية ذاتها ، ولا تكاد هذه الصورة تلتئم في تراثنا إلّا على يد طائفة من المفسرين ، الذين انطلقوا من منطلق لغويٍّ ، تسانده المعرفةُ البلاغية الواسعةُ ، والذوق السليمُ ، والحِسُّ المرهف »([2]).
والحقُّ أنّ هذه دعوى تحتاجُ إلى دليل ، لما فيها من مخالفة لبديهيّات التأليف النحوي ، إذ إنّ النحويين بدءًا من سيبويه لم يقعّدوا قاعدة – خلا مسائل التمرين – إلا حشدوا لها من النصوص الأدبية – منظومها ومنثورها – ما يؤكّدها ويعزّزها ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أكثروا من التدقيق والتحقيق في معرفة النص الأدبي الذي يرومون التقعيد عليه من حيث قائله وزمانه ومكانه ، وبذا يبدو غريبًا كلّ الغرابة الزعمُ بأنّ النحويين لم يختبروا قواعدهم من خلال النصوص الأدبية ([3]).
وإن كان المقصود من تلك الدعوى عدم استشهاد النحويين بنصوص تامّة غير مبتورة، فإنّ ذلك خاضع لطبيعة الاستشهاد نفسه ، إذ يُساق من النص موضع الشاهد لاغير ، ولو أنّهم نقلوا النص كاملًا في كلّ مرة يستشهدون بجزء منه لاختلطت القواعد ، ولألبس على المتعلّم والدارس موطن الاستشهاد ، وبذلك يبطل الهدف من وضعهم الكتب ، إذ الهدف منها تعليمُ الطلاب وتحصين ألسنتهم من الوقوع في اللحن .
وقد نفى د. سعد مصلوح أيّ صلة للنحو العربي بالدراسة النصيّة ، وذكر أنّ هناك نمطين من النحو :
الأوّل : نحو الجملة .
والثاني : نحو النصّ .
أمّا نحو الجملة فإليه ينتمي النحو العربي بصورته المعروفة ، وهو طراز من التحليل النحوي يقيّد معالجته بحدود الجملة ، ويرى فيها أكبر وحدة لغوية يطمح إلى تحليلها وتقعيدها ، على خلاف بين المدارس اللسانية في مفهوم التقعيد نفسه. وأشار إلى أنّ نحو الجملة يعدّ قواعدها منتهى همّه ومبلغ علمه ، فلا يقرّ للنص بكينونة متميزة توجب معالجة تركيبه معالجة نحوية تستجيب لمقتضيات بنيته ، وتكون مؤهلة لتشخيصها ووصفها ، وبهذا يقع النصّ خارج مجال الدرس النحوي ([4]).
وبالنظر في كتب النحو نجد أنّ النصّ ومعاييره لم يكن خارج مجال الدرس النحوي العربي ، وإنْ غابت المصطلحات الدّالَّةُ عليه ، ولا أقصد بذلك القول إنّ النحويين العرب والبلاغيين والمفسرين قد أرسوا قواعد الدراسة النصيّة كما هي عليه الآن ، بل كانوا على علمٍ بقضيّة ترابط النصّ واعتباره كلًّا متماسكًا ، يرتبط كلّ جزء منه بالآخر ، وكذا أثر السياق والجانب التداوليّ في النص ، نلحظ ذلك كلَّه ضِمنًا في أعمالهم ، ولم يصرّحوا بذلك إلّا في مواطن قليلة ، ومن ذلك :
* قول ابن جنّي ( ت 392 هـ ) : إنّ « الكلام إنّما وُضِع للفائدة ، والفائدةُ لا تُجنى من الكلمة الواحدة ، وإنّما تُجنى من الجُمَلِ ومدارج القول ، فلذلك كانت حالُ الوصلِ عندهم أشرفَ وأقومَ وأعدل من حال الوقف » ([5]).
وإذا كانت الفائدة لا تتحصّل من الكلمة الواحدة ، فإنّ الفائدة التامة كذلك لاتتحقق من خلال جملة واحدة مبتورة من سياقها ، ذلك أنّ المتكلم بحاجة للإبانة عما في نفسه إلى أكثر من جملة ، وهذا ما يمكن فهمه واستنباطه من استخدام ابن جنّي للفظ (الجُمَل) مجموعًا ، ولتفضيله حال الوصل على الوقف ، فالوصل تتابع من الجمل المتماسكة .
كذلك فإنّ للسياق الذي ترد فيه الجملُ دورًا في تحديد المعنى، فقد تعني الاستفهامَ في مقامٍ ، وتعني التعجّب أو غيره في مقام آخر، كما أنّ السياقات قد تتعدّد ، وهذا ما يستفاد من قوله : ( مدارج القول ) الذي استخدمه مجموعًا.
ولعلّ هذا الفهم والاستنباط يخالف ما ذهب إليه بعضُ المحدثين، حيث يرى أنّ التحليل النحوي لدى النحويينالقدامى كان يبدأ « باجتزاء الجمل ، وعزلها تقريبًا عن سياقها في النص أو الخطاب »([6])، لكن حقيقة الأمر أنّ النحويين العربَ أَوْلوا السياق الذي ترد فيه الجملة عنايةً كبرى ، ووضحوا ما لا يدع مجالًا للشكّ أهميته في فهم الجمل([7]).