الثقافة الشعبية: الحضور المعرفي والقيمة الدراسية
د.أحمد أوراغي
جامعة تلمسان ـ الجزائر
تعد الثقافة الشعبية ظاهرة اجتماعية وثقافية من الطراز المتواتر، حيث تمثل العامل المشترك لثقافة كل المجتمعات بلا استثناء، مع اختلاف قيمتها العلمية والمعرفية، ومكانتها في حقل الانتاج المعرفي، فالثقافة الشعبية تعبير أساسي ومعقد للمجتمع في وجوده الماضي والآني وحتى الآتي، فهي تمثل الممارسة الحاملة لمعنى كما أنها القاعدة المعقدة للمعايير الاجتماعية والميولات الثقافية والتواترات التعبيرية التي تظهر في الانتاجات التي يعرف أفراد المجتمع فيها ثقافتهم ويجدون مباشرة علامات هويتهم. فالثقافة الشعبية تمثل كل التماثلات الجماعية للحياة المعيشية الفعلية منها والموجودة، المتمثلة في تطلعات الجماعة ورغباتها ومعتقداتها، وفي نظرتها للحياة، والتي يعبر عنها بطريقة شفوية، وهذا التعبير محدد في أشكال تعبيرية متعددة ( القصة – الأسطورة – النكتة – الشعر – الأمثال والحكم …)، وكذا في بيانات وتظاهرات سلوكية ( حفلات شعبية – رقص – طقوس – ممارسات – ولائم واجتماعات … ) وهذا ما يسميه البعض بالفلكلور مع اختلاف في حدة هذه التظاهرات ووظائفها داخل المجتمع وعلاقاتها مع البنية الاجتماعية العامة.
ووفقا لما سبق، نقف أمام إشكالية يطرحها واقع وآفاق الثقافة الشعبية في الجزائر، ذلك أننا نصطدم بسؤال معرفي هام مفاده كيفية وضع الثقافة الشعبية في الاطار العلمي والأكاديمي الذي يسمح بتحديد المعايير الاجتماعية والميولات الثقافية التي تحملها التعبيرات المختلفة لهذه الثقافة.
مفهوم الثقافة الشعبية:
لقد شكلت الثقافة الشعبية موضوعا خصبا لمسجلات معرفية حاولت تحديد تعريف علمي صارم لها، فذهب البعض إلى اعتبارها تمثل إنتاجات الطبقات الشعبية من فنون قولية تعبيرية وسلوكيات اجتماعية وطقوسية وكذا عقائدية وأساطير… الخ، وبذلك امتزج مفهوم الثقافة الشعبية بمفهوم الفلكلور، فقد “فضل بعض الدارسين المهتمين بموضوع الثقافة الشعبية مصطلح الفلكلور لشساعة فضاءاته الموضوعاتية من جهة ومن جهة أخرى لماهيته العلمية، حيث اقترن اسمه بعلم جديد استطاع أن يضع لنفسه مكانة معرفية خاصة ومميزة بجانب العلوم الاجتماعية والإنسانية وهو علم الفلكلور، والذي يتناول دراسة ثقافة المجتمعات وآثارها المادية في مرحلة الحضارة التي سبقت مرحلة التحديث المعاصرة، حيث وجد العطاء الحضاري للإنسان من خلال ذاته المرتبطة بالجماعات الفطرية كالأسرة والمجتمع المحلي اللذين يضمنان رعاية فردية للإنسان وإطاره الذاتي، كما تشمل الدراسة الفلكلورية خبرة الإنسان الفكرية والمادية والآثار التي تركها في هذا المجال”(1). في حين أن البعض نادى بمصطلح “الثقافة الشعبية”، غير أن الساحة العربية، عموما، لم تخل من مساجلات حول مفهوم مصطلح “الشعبية”، والمشتق دلاليا من كلمة “شعب”، فقد عنى به البعض ” مجموع أفراد الأمة بمختلف طوائفه وطبقاته، وهو بذلك صفة تجمع الجماعة وليس صفة فصل طائفة أو طبقة عن الأخرى، كما هو مقصود بالمفهومين السياسي والاجتماعي، فالمفهوم السياسي للكلمة يعني الطبقة الفقيرة من المجتمع”(2).
وهكذا نادى البعض بضرورة توسيع مفهوم “الشعب” ليشمل مختلف الطوائف المشكِّلة للجماعة والتي ترتبط عضويا بمفهوم “الأمة”، محاولا بذلك تخليص المصطلح ريقة التموضع في خانة مفهوماتية خاصة.
وبما أن الشعب ضارب في انتمائه وهويته في جذور الحضارة الإنسانية، وميزته الخلود والبقاء، فإن كلمة الشعبية عندما نطلقها على أي شيء لا بد وأن يتسم هذا الشيء بالانتشار أولا ثم الخلود ثانيا… أي الانتشار والتوزع والتباعد المكاني والزماني، أو بمصطلح آخر “التداول والتراثية “(3). فالشعبية، ومن هذا المنطلق “صفة لكل مايصدر عن الشعب قولا، ممارسة، سلوكا وتصورا للحياة وللأشياء ويندرج ضمن هذه الدائرة المفهوماتية لمفهوم الشعبية أيضا كل ما هو موجه للاستهلاك الشعبي، سواء أكان ماديا أو معنويا”(4).
بيد أن هذا المصطلح لم يكن محل إجماع من لدن الدارسين والمثقفين العرب، حيث رفض الكثير استعماله، وحاولوا جاهدين البحث عن مصطلح بديل أكثر شمولية واتساعا وأقدر على تمثيل القضايا والظواهر التي تدرسها الثقافة الشعبية. ويبدو أن الإيديولوجية كان لها حضورها في أبجديات الرفض المعرفي والاصطلاحي لـكلمة “الشعبية”، إذ “تعود أسباب وتعليلات هذا الرفض إلى الرأي القائل أن مصطلح الشعبية ايديولوجي لا يجد مبررا، للاستعمال والتداول إلا في المجتمعات الطبقية التي تقسم مسألة السلطة والهيمنة ومواطنيها إلى طبقة مسيطرة مهيمنة وطبقة خاضعة محكومة …ولكل من الطبقتين رؤياها وتصورها عن الواقع، تصوغ بها أيديولوجيتها المعروضة على واجهة ثقافية، وفي هذه المجتمعات يصطلح على ثقافة الطبقة المسيطرة بالثقافة الرسمية مقابل الطبقة المحكومة المهيمن عليها”(5). ومن ثم تكون الثقافة الشعبية بمثابة محصلة معرفية لإبداعات الجماعة واهتماماتها وكذا دراسة أنماطها التعبيرية القولية منها والسلوكية.
ويبدو أن دخول هذا الضرب من الدراسات إلى الثقافة العربية إنما كان وليد الشرق بالحضارة الغربية، إذ يرجح عدد من الدارسين ظهور الدراسات الشعبية في الوطن العربي إلى “عدد من الدارسين العرب الذين درسوا في جامعات الغرب وتأثروا بما كان يجري هناك من تحولات ثقافية وحضارية واجتماعية كان من أهمها تغيير نظرة الباحثين والدارسين إلى الثقافة الشعبية باعتبارها جزءا من الثقافة الإنسانية”(6). في حين يذهب البعض إلى أن الدراسات الفلكلورية /الشعبية في المجتمعات العربية ليست وليدة العصر الحديث، بل أن “الاهتمام بهذا النوع من الدراسات له جذور أعمق في التاريخ، ولكي نعرف ذلك يمكننا الرجوع إلى أواخر القرن السابع الميلادي لنرى وهب بن منية وعبيد بن شرية الجرهمي وكعب الأحبار، وما قاموا به من رصد ما عرفه العرب من أساطير حول نشأة الكون وقصص بدء العالم وظهور اللغات ونشأة اللغة العربية وكثير من الإسلاميات”(7).
وكذلك كان ابن خلدون فلكلوريا، قدّم أسس علم الفلكلور وفكرته في الجزء الأول من كتابه العبر في ديوان المبتدأ والخبر، فعقد فصلاً ممتازا عن اللهجات العربية وظروف نشأتها وطبيعة علاقتها بالفصحى ثم يبين أثرها في المجتمع وأشار إلى ضرورة دراستها والاهتمام بها. ومن ناحية أخرى تعرض، ابن خلدون، لِسِيَرنا الشعبية منوها بأهميتها الأدبية، فسجل بعض نصوصها وحلل طرائقها وخصائصها ووضّح طرق تداولها وإنشائها”(8).
والتاريخ الفكري للعرب مليء بمثل هذه المبادرات المعرفية التي سجلت بصدق فلكلور الأمة العربية وتراثها الشعبي، ومن ذلك كتب ابن المقفع والجاحظ والأبشيهي وغيرهم. ومنه يمكننا القول أن الريادة في مجال الدراسات الشعبية “إنما كانت عربية إسلامية محضة، عكس ما يحاول البعض الترويج له من خلال رد هذه الدراسات إلى اطلاع العرب على أعمال الغرب وتأثرهم بها. غير أن المُلاحظ للساحة المعرفية الجزائرية يقف – ويأسف – على خلو هذه الساحة من التأسيس المعرفي لاصطلاح الثقافة الشعبية، بل وعدم الاهتمام بها كحقل دراسي له من القيمة المعرفية ما يؤهله لأن يضطلع بمهام بحثية هامة، وكل ما نراه على هذه الساحة لا يسد الفضول المعرفي للباحث عن استجلاء القيم المفهوماتية النظرية، خصوصا للحقول الدراسية للثقافة الشعبية.
واقع الثقافة الشعبية بالجزائر بين الحضور والتغييب:
لقد شكلت الثقافة الشعبية في الجزائر موضوعا غريبا وغير مرغوب فيه في كثير من الميادين المعرفية والبيداغوجية، فقد كان مصطلح “الثقافة الشعبية” مرفوضا لأسباب أيديولوجية وتاريخية حركت المنظومة الدراسية والمعرفية بالجزائر، وذلك باعتبارها عِلما استعماريا، شأنها في ذلك شأن كل أشكال وأنماط الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية عموما. بيد أن هذا الموقف لم تصنعه حيثيات علمية ومنهجية بقدر ما كانت تحركة “الأيديولوجية الثورية” التي رفضت كل ما يمت للمستعمر بصلة، فقد رفضت الثقافة الشعبية لاعتبارها أنها ” شكلت ولمدة من الزمن الموضوع الخصب بامتياز للفكر الكولونيالي، والذي سخرها تسخيرا استعماريا، حيث انتشرت خارج أوربا الدراسات الفلكلورية التي تهتم بقطاع الثقافة أو الحضارة، قبل وصول المظاهر الحضارية المقترنة بمرحلة التحديث الأوروبية، وكان جزء كبير من هذا الاهتمام موجها – إضافة إلى الأهداف العلمية – لغايات استعمارية، وذلك للتحكم بعمليات التغيير الثقافي والاجتماعي من جهة، ولتسخير العلوم الإنسانية لأغراضهم الاستعمارية هذه، كما هو الحال في علم الأنثروبولوجيا وعلم الفلكلور وعلم الاجتماع البشري باستخدام الاطلاع على طبيعة الثقافات البشرية المختلفة تمهيد للسيطرة على مقداراتها”(9).
لقد شن التيار الرافض للثقافة الشعبية كإطار معرفي ودراسي بالجزائر حرب شرسة ضد حضورها الأكاديمي والعلمي ناعتا إياها بالسلبية وحتى العمالة المعرفية” بل لقد وصل الأمر إلى اعتبارها مظهرا من مظاهر التخلف المعرفي الذي لا يستطيع تقديم نماذج ثقافية تطورية، فقد ظل ينظر إليها على أن حامليها أولئك النفر من تلك الفئة الوضيعة اجتماعيا والفقيرة ماديا واقتصاديا والضعيفة أو الجاهلة ثقافيا”(10). ومن ثم ظلت الثقافة الشعبية ولردح غير يسير من الزمن، مجهولة غير متطرقٍ لها من لدن الباحثين والدارسين في الجزائر، وذلك لأسباب يمكن إرجاعها إلى اتجاهين بارزين سيطرا على الحياة الثقافية في العالم العربي عموما منذ عصر الريادة إلى الربع الأخير من القرن العشرين، وهما “الاتجاه التقليدي الذي عكس جهلا حقيقيا بأهمية التراث الشعبي كمصدر من مصادر الثقافة والاتجاه الحداثي الذي أظهر أصحابه حماسا بالغا لاتباع الشكل الغربي والسير على منواله”(11).
كما أن الأيديولوجية القومية لعبت دورا هاما في إقصاء الثقافة الشعبية من ساحة الدرس العربي، وقد أشار إلى ذلك عبد العزيز الأهواني خلال ندوة العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية في الوطن العربي المنعقدة من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تحت إشراف جامعة الدول العربية، ما بين 13 إلى 20 أكتوبر 1971 بالقاهرة، حيث قال : “كان المثقفون العرب إلى وقت قريب يعرضون عن دراسة الآداب العامية في الوطن العربي ولا يشجعون على جمع هذا التراث الشعبي والعناية به، بل لعلهم كانوا أقرب إلى أن يسيئوا الظن بجهود تبذل في هذا السبيل، وكان مصدر إعراضهم أنهم يخشون من مزاحمة هذه العاميات للغة العربية الفصحى مزاحمة ربما تنتهي في تصورهم إلى أن تصبح هذه العاميات بتطاول الزمن لغات ثقافية إذا عنى بها الباحثون واهتموا بأمرها، فتحل محل العربية الفصحى، ويفقد بذلك الوطن العربي أهم عنصر في وحدته وهو عنصر اللغة”(12). في حين وقف البعض موقف المعادي للثقافة الشعبية والتراث عموما باعتبار أن ذلك يمثل مصدرا للتخلف والتقهقر الحضاري، ومن ذلك موقف زكي نجيب محمود وكل دعاة المنطقية الوضعية(13)، فالتراث كان بالنسبة لهم يقف مجرد عثرة في وجه الحركة الفكرية وتقدمها، باعتباره شكلا خاليا من المضامين، فكل ما في التراث والثقافة الشعبية مجرد عادات وتقاليد وطرق نظر لا تمت بصلة إلى الواقع، فالتراث عند دعاة هذا التيار يمثل الماضي الذي لا ينبض، وبذلك ظلت الجماهير العربية تحت تأثير النموذج الكلاسيكي للثقافة العربية التراثية / الكلاسيكية. يقول زكي نجيب محمود: “… والثورة ضد أطلال الماضي أو حيث الموتى لا يستطيع أحد القيام بها، بالرغم من علمهم بأن الماضي ينقص قيمة هذا الشيء”(14). وقد شكك البعض في قدرة الدراسات التراثية الشعبية على الوقوف على الأدواء الحضارية للمجتمعات، ومن ذلك ما ذهب إليه شوقي عبد الحكيم الذي تساءل عما إذا كانت علوم الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا والفلكلور تسهم حقا في تكاتفها البنائي وأهدافها ومستوياتها الإستراتيجية في تشخيص أدواء ومواجع مجتمعاتنا النامية(15). ويستطرد شوقي عبد الحكيم في عرضه لرؤيته لما أسماه أحمد أبو زيد بالمثلث البيوثقافي ( أنثروبولوجيا- اثنوغرافيا- فلكلور) والذي يؤلف كل ضلع من أضلاعه الثلاثة نوعا من العلاقات الاجتماعية المعقدة، التي يندرج تحتها كثير من النظم والطقوس والقيم، وقاعدة هذا المثلث تمثل علاقة الإنسان بالبيئة التي يعتبرها معظم العلماء أساس كل دراسة اجتماعية وأنثروبولوجية بينما يمثل الضلعان الآخران علاقة الإنسان بالإنسان بكل ما تحتوي عليه هذه العلاقة من نظم مختلفة كالزواج والقرابة والطائفية والعنصرية والأبنية الطبقية وبالتالي السياسة والحروب وغيرها(16).
وهكذا ظلت الثقافة الشعبية مهملة بين التيارين، تيار يدعو إلى العودة للماضي التليد والامتثال لنموذج الثقافة العربية التراثية/ الكلاسيكية، والتي يمكن أن نصفها أنها ثقافة رسمية لم تعبر حقيقة عن عمق المجتمع العربي في تطلعاته ونماذجه الثقافية والاجتماعية والاعتقادية والسلوكية، وتيار آخر ظل يصرح بضرورة تحديث “الفكر العربي” محاججا بحالة الجمود التي ظل الفكر العربي يرزح [تحتها] منذ دهور.
أما على المستوى الأكاديمي بالجزائر، فإن الثقافة الشعبية لم تسجل حضورها الأكاديمي على الساحة المعرفية الجزائرية إلا مؤخرا، [حيث] الاعتراف بهذه المادة الدراسية جاء مع تنصيب معهد الثقافة الشعبية بجامعة تلمسان، وهذا بعد ظهور انتفاضة طلابية بمناطق القبائل مطالبة بدراسة الثقافة الأمازيغية واللغة البربرية. وعلى مستوى جامعة وهران تم فتح وحدة بحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، لتصبح فيما بعد هذه الوحدة مركزا للدراسات الأنثروبولوجية والثقافية”(17).
وبين الرفض والقبول والتشكيك والتردد استطاعت الثقافة الشعبية أخيرا من تسجيل حضورها المعرفي في ساحة الدرس الاجتماعي والإنساني بالجزائر، كما “استطاعت أن تجدد موضوعا وتؤسس لنفسها حقلها المعرفي والمنهجي في مقاربتها وفي تكفلها بالذات الجزائرية وما قد تطرحه من أسئلة جريئة حول الهوية والمجتمع والحضارة والتاريخ والثقافة والدين، والعرف والطقوس والمقدسات والعادات والتقاليد والمعتقدات والنظم الاجتماعية المحلية والمؤسسات الثقافية والسياسية والاقتصادية المحلية والوطنية والاحتفاليات والفنون وغيرها من الأسئلة العديدة والمتنوعة”(18).
ولما تمكنت الثقافة الشعبية من تحقيق فتوحاتها المعرفية وحضورها الأكاديمي أضحى البحث المعرفي في الثقافة الشعبية يسمح بتحديد الإطار العلمي الأكاديمي والذي يحيل على تحديد المعايير الاجتماعية والميول الثقافية للشعب/ الجماعة، وذلك بتتبع التغيرات المختلفة لهذه الثقافة وفق عاملي الزمان والمكان، بغية الوقوف على واقع دينامكية وحركية المجتمع في إنتاجاته الثقافية وارتباطاته الداخلية/ البنائية، وحتى الإحالة على الروابط العلائقية الحاكمة للتوجه العام للجماعة.
فدراسة الحكاية الشعبية على وجه المثال تمكن من وضع الجماعة- عن طريق دراسة البنية العميقة للحكايا- في إطارها الحضاري، ومن ذلك لو أردنا تتبع البناء الحضاري في المشهد الثقافي العربي انطلاقا من حكايا التراث العربي، قصص ألف ليلة وليلة على سبيل التمثيل، فإننا نجد أن هذه الحكايا تمثل جزءا من الإنتاج الثقافي للحضارة العربية الإسلامية، ولنبدأ بالتحديد المكاني، وهو بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، أما التحديد الزماني فهو القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد، أما الإطار العام للحكايا فهو وجود قوى خارقة تقوم بمساعدة بطل القصة للخروج من المآزق التي يقع فيها، فهو- أي البطل- ورغم قواه الذاتية التي يتمتع بها، فإنه يبقى خاضعا لسيطرة تلك القوى، وإذ ما ربطنا هذه الحكايا بالواقع الثقافي العام للحضارة العربية وفق عاملي الزمان والمكان، فإننا نجد أن لها امتدادات فلسفية تتجسد في ذلك الجدل المعرفي/ الكلامي بين الفرق الكلامية الإسلامية، خصوصا ذلك الصراع الفلسفي الذي دارت رحاه بين “القدرية” أو ما يعرف بفرقة “الجبرية” وكذا “المعتزلة” في مسألة الجبر والاختيار.
فحكايا ألف ليلة وليلة، وإن كانت تمثل جزءا من الثقافة “الشعبية” العربية إبان العهد العباسي، إلاّ أنها تحيل معرفيا على استجلاء القيم المعرفية والثقافية الرسمية للحضارة العربية خلال تلك الحقبة. وكذلك تحيل دراسة “النكتة الشعبية” على الكشف عن الميول العامة للجماعة، وذلك باعتبار النكتة بمثابة ثقافة “أخلاقية” في مشهدها الاجتماعي، فقد ” اهتم بموضوع النكتة وأشكالها الأدباء والنقاد وعلماء النفس وعلماء الاجتماع والتربية، وذلك لقدرتها على القيام بدورين اثنين في الوقت نفسه، دور المتعة والضحك ثم دور النقد والإصلاح لوضعيات سلوكية سيئة وسلبية والسفر بها نحو الإصلاح والتصحيح، فالنكتة مهما كان موضوعها ومهما كان مستواها، فقد تكون وسيلة فعالة على نقد الواقع ومظاهره السلوكية”(19). وينسحب الأمر كذلك على مختلف الأنماط التعبيرية الشعبية، فالتراث الشعبي مرآة لحياة الشعوب وتوجهاته العامة، ودراسته إنما تقوم أساسا على استجلاء تلك القيم الموجودة في التراث، لأنه يمثل روح الجماعة ومنبع إحساسها بوجودها في الشعوب المضطهدة بفعل التطور المادي والمستضعفة كانت تحتمي دوما من غزو المادة الغربي بالتراث وتعود إليه باعتبار احتمائها به عودة إلى الذات- الذات التاريخية والثقافية- وهذا يعني أن الجماعات الإنسانية تجد في ثقافتها- والمأثور الشعبي جزء مهم وفاعل في هذه الثقافة- نوعا من الحماية، أو نوعا من تحقيق الذات المرتبط بوجودها، كما أنه يعني أن المأثور الشعبي ليس نوعا من النتاج العبثي، وإنما له دور اجتماعي- ثقافي مهم في حياة أي جماعة بشرية، فهو – في أشكاله وأنماطه وقوالبه المختلفة ملازم لوجود الجماعة ذاتها، من حيث أنه تعبير حي وضروري عن توجهات الجماعة ورأيها ورؤيتها، كما أنه تعبير عن التفسير الشعبي للأحداث وهو لا يقل أهمية عن التفسير الرسمي لها”(20).
وكذلك نجد أن دراسة “الشعر الملحون”، باعتباره إبداعا شعبيا يعبر عن آلام الجماعة وآمالها ويصور حياتها أصدق تعبير، [فهو] تمكن من الوقوف على التوجهات العامة للجماعة، سواء أكانت توجهات أخلاقية أم اجتماعية أم سياسية أم غيرها. ومن ثم كانت القيمة الدراسية للثقافة الشعبية باعتبارها “الماضي والحاضر والمستقبل وهذا هو تراثنا وحضارتنا … والتراث والحضارة هما اللذان يمكن أن نرد بهما على تلك الشعوب التي تحتقر وتدمر في غيرها روح الاعتزاز والكبرياء”(21).
إن الدراسة العلمية للثقافة الشعبية تمكن الباحث من الوقوف على حقيقة توجهات الجماعة وأنماطها الوجودية المختلفة، وكذا الوقوف على خصوصية الجماعة وتميزها.
توثيق الدراسة:
1 ـ محمد سعيدي : الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق، دراسة في مظاهر الثقافة الشعبية في الجزائر، أطروحة دكتوراه في الأنثروبولوجيا، جامعة أبوبكر بلقايد، تلمسان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الثقافة الشعبية، 2006/2007، ص104.
2 ـ سدرات مبروك : الشعر الشعبي في الجزائر، مجموعة محاضرات الأيام الدراسية حول الثقافة الشعبية في الجزائر، جامعة عنابة، معهد اللغة والأدب العربي، 1989، ص 13.
3 ـ مرسي الصباغ: دراسات في الثقافة الشعبية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، دط،د،ت، ص16.
4 ـ محمد سعيدي: الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق، ص102.
5 ـ المرجع السابق، ص102.
6 ـ مصطفى أوشاطر، المرجعية الثقافية لمفهوم مصطلح الأدب الشعبي (لفظا ودلالة)، مجلة الثقافة الشعبية، جامعة تلمسان، معهد الثقافة الشعبية، ع5،1416ه/1996م، ص125.
7 ـ مرسي الصباغ: دراسات في الثقافة الشعبية، ص16.
8 ـ المرجع السابق، ص17.
9 ـ محمد سعيدي: الأنثروبلوجيا بين النظرية والتطبيق، ص04 .
10ـ مرسي الصباغ: دراسات في الثقافة الشعبية، ص07.
11 ـ مصطفى أوشاطر: الأسطورة في التراث الشعبي الجزائري، أطروحة دكتوراه في الأدب الشعبي، جامعة أبوبكر بلقايد، تلمسان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الثقافة الشعبية،2002/2003، ص01.
12 ـ مصطفى أوشاطر: الأسطورة في التراث الشعبي الجزائري، ص02.
13 ـ الوضعية المنطقية اتجاه فلسفي ظهر مع تكون جماعة فيينا عام 1992، بزعامة “مورتس شليك”، ومن أهم أقطابها (وايزمان)، (كارت جودل) و (كرافت) و (هربرت فيجل)… الخ، وقد تطورت دائرة فيينا فيما بعد إلى ما يسمى الوضعية المنطقية التي لعبت دورا بارزا في تشكيل التفكير العلمي والفلسفي. راجع: ـ ماهر عبد القادر محمد: المنطق ومناهج البحث، دار النهضة العربية، بيروت، 1985. ـ زكي نجيب محمود: حياة الفكر في العالم الجديد، دار الشروق، بيروت، ط1،1982. ـ زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي (جزءان)، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، ط4، 1996. ـ ابراهيم بدران وآخرون: الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،1981. ـ زكي نجيب محمود: قصة عقل، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط1، 1983.
14 ـ زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، دار الشروق، بيروت، ط5، د.ت، 1983.
15 ـ شوقي عبد الحكيم: علمنة الدولة وعقلنة التراث العربي، دار العودة، بيروت، ط1،1979، ص05.
16 ـ المرجع نفسه، ص06.
17 ـ مولاي الحاج مراد: مكانة التحقيق الميداني في الدراسات الأنثروبولوجية، وقائع الملتقى، أي مستقبل للأنثروبولوجيا في الجزائر، تيميمون 22-23-24 نوفمبر 1999، منشورات CRASC، 2002، ص22-23.
18 ـ محمد سعيدي : الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق، ص06.
19 ـ محمد سعيدي… ص174.
20 ـ عبد القادر لصهب ص ج ( من المقدمة).
21 ـ مرسي الصباغ: دراسات في الثقافة الشعبية، ص07.
المصدر: مجلة دليل الكتاب http