في الدراسات اللغوية السياقية
فِعْلا النجاة ( أنجى و نَجَّى ) في قصص القرآن
دراسة دلالية
أستاذ اللغة المساعد الدكتور محمد توفيق الدغمان/جامعة الأنبار-كلية الآداب
بمشاركة الباحثين : (أ.م. علي حسين خضير / جامعة الأنبار – كلية الأداب)
و( أ. م. د. عبد الباسط عبد الكريم مطرود / كلية الإمام الأعظم )
توطئة :
نزل القرآن الكريم على نبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم والصحابة رضوان الله عليهم أفصح العرب ، وأولو بيان وفهمٍ بارع ، لكنهم كانوا يسألون رسول الله (عليه السلام ) عن دقائقه فيبينها ، ودعا لابن عباسٍ فقال : ( اللهم فَقِّههُ في الدين وعلِّمه التأويل ) ، فبين كثيرا مما يجهلون ، ثم انتهج الصحابة الكرام في تفسير ما لم يفسره النبي عليه السلام ، نهجهم في تفسير لغتهم التي أنزل بها القرآن ، قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : ( أيها الناس تمسَّكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ؛ فإن فيه تفسير كتابكم ) ، وبعدها تتابع الرهط من الناس يفسرون ، إلى أن ظهرت التأويلات السياقية قديماً ، وكان المروج لها بلا منازع الإمام عبد القاهر الجرجاني (471ه) ، في دلائل الإعجاز ، و تلاه آخرون ، وقد أكَّد علم الدلالة هذا الأمر ، فـ( فيرث ) نصَّ على الوظيفة الاجتماعية للغة ، ويذهب ( أولمان ) إلى أن الكلمة يظهر معناها من نظمها مع غيرها . فكان للسياق أهمية بالغة في بيان المجمل ، والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، فظهرت الدلالة الاجتماعية أو السياقية .
" ومن صفات الكلام البليغ أن يجري على مقتضى الحال الداعية له ، فإن لم يكن على تلك الصفة خرج من دائرة البلاغة ، وحسب من الكلام أو الأصوات ! ، ... ورعاية مقتضى الحال هي في الواقع الميزان الذي يوزن به الكلام ، ويُمايز بين فاضله ومفضوله " .
" واعلم أن القرآن كلام الله (تعالى) قد حارت العقول في معانيه ، وقَصُرَت الأفكار عن التوصل إلى دقائق ما فيه ، مشتمل على أسرار لا تتضح إلا لمن فضّله الله الكريم على غيره، وأما ما ورد فيه مما يوهم التناقض ، فهو بالنسبة إلى أذهاننا الفاترة وفطننا القاصرة " .
" إننا ندلُّ على شيء من مواطن الفن والجمال ، في هذا التعبير الفنيّ الرفيع ، ونضع أيدينا على شيء من سمو هذا التعبير... أما شأن الإعجاز ، فهيهات ، إنه أعظم من كل ما نقول ، وأبلغ من كل ما نصف " .
هذا البحث يلامس الدلالة السياقية بين صيغتي ( فَعَّلَ) و ( أَفْعَلَ ) في لفظتين هما ؛ ( نَجّى ) و (أنجى ) ، وعلى الرغم مما ذكره سيبويه (180هـ) بقوله : " وقد يجيء الشيء على فَعَّلت فيشرك أفعلت كما أنهما قد يشتركان في غير هذا ، وذلك قولك : فَرِحَ وفَرَّحته ، وإن شئت قلت: أفرحته ، وغَرِمَ وغَرَّمته وإن شئت أغرمته ، كما تقول : فزَّعته وأفزعته " فإن زيادة الهمزة على الفعل الثلاثي قد يراد بها التعدية ، وجُعِلَ من معانيها الإزالة ، وذهب عدد من القدامى إلى أن الأولى بمعنى الثانية ، وهي توكيد لها ؛ وإنما خالفَ بين الصيغتين لكراهة التكرار ، وذلك عند تعرضه لقوله تعالى : (( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ )) سورة البقرة/49-50 .
ومع هذا الفعل نتبين من معانيها سرعة الاستجابة للطلب ، وسرعة التنفيذ ، والمفاجأة ، فيستعمل ( أنجى ) للإسراع فيها ؛ لأن (أنجى ) أسرع من ( نجَّى ) في التخلص من الشِدَّة والكرب " .
ولأبي السعود تقريب لطيف في قوله تعالى : ( فأنجيناه ) ، بقوله : " هو كما في قوله تعالى : ( فانفجرت ) ، أي وقع ما قع فأنجيناه " ، فربط بين مفاجأة الانفجار، ومفاجأة النجاة ، والسرعة ، وأن الأمر مع (أنجى) دال على لزوم تحقق الأمر على وجه السرعة .
وجعلوا من معاني التضعيف في المضعّف ؛ التكثير والتوسيع ، والإجابة المتأنية ، وتثبيت الحقائق وتأكيد نوعها ، وذهب بعضهم إلى أنّ من معاني ( نَجَّى ) التلبث والتمهل في التنجية ، ونستشف من معانيها في السياق القرآني الدلالة على تكرار الأحداث ، وهو ما نبَّه عليه الخطيب الإسكافي (405هـ ) وجعله من عادة البلغاء ، ولعله قصد إلى تكرار الحدث حقيقة لا إلى تكرار الفعل لفظاً ، وهو ما سنأتي إلى بيانه لاحقاً ، كذلك ذكروا من معانيها أيضاً الكثرة والمبالغة ، وهو ما ذكره الكرماني ( 505ه ) في كتابه ( البرهان في توجيه متشابه القرآن ) .
وفي ضوء ما تقدم من دلالات ، وأمام حشد من الأفعال على صيغتي (أنجى ) و(نجّى) ، توزعتا في (26 ) ست وعشرين سورة في القرآن الكريم توزيعاً مقصوداً ، كان لابد من تتبع الدلالة في سياق النص القرآني وصولاً إلى ملامح النص ، وإلى القصد القرآني . فقد ورد هذان الفعلان في القرآن الكريم ( 57 ) سبعاً وخمسين مرة ، (33) ثلاثاً وثلاثين ؛ بصيغة (نجّى) ، وأربعاً وعشرين (24) بصيغة (أنجى)، وربما وردا في السورة الواحدة ، في أكثر من موضع ، بالصيغتين معاً ؛ ( أنجى ) و(نجّى) ، وذلك في ؛ البقرة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، وطه ، ، والأنبياء ، والشعراء ، والعنكبوت . وأحياناً اقتصرت السورة على صيغة واحدة في أكثر من موضع ، أو في موضع واحد ، ومثل ذلك في ؛ الأعراف ، ويوسف ، وإبراهيم ، والمؤمنون ، والنمل ، والقصص ، ولقمان ، والصافات ، والزمَر ، وفصلت ، والدخان ، والقمر ، والتحريم ، والصف ، والمعارج ويُنظر إحصاء ذلك وبيانه في الهامش من هذا البحث .
لِما تقدم حاول هذا البحث أن يرصد دلالات خاصة في الاستعمال القرآني . يستعرضها في مباحث رتبت تبعا للقصص القرآني والحوار في كل بيئة ، ومع كل شخص ، إذ هو الطريق الأمثل . فكان البحث على مبحثين اقتضتهما طبيعة النصوص ؛ الأول (سياق الدلالة للفعلين في قصص بني إسرائيل ) ، والآخر( سياق الدلالة للفعلين في قصص النبيين وحوارات خاصة )، فعسى رحمة من ربنا تصيبنا فيما سعينا، والله ولي التوفيق .