: دلالات حروف البناء .
لقد تَجَلَّتْ أسرار حروف البناء في هذه الكلمة فكان في آيات الرحمة أسرار دلالية عظيمة ، ربما لا نجد لها تأويلاً ولا تفسيراً ولا حتى إشارة عند من سبق من اللغويين والمفسرين ، فقد ذكروا أنَّ تاء التأنيث تلحق الأسماء ، فتكتب تاءً مرة ، وهاءً مرةً أخرى ، في الرسم العثماني . ومن ذلك كلمة ( رحمة ) وردت في المصحف ( 79 ) تسعاً وسبعين مرة ، وجاءت مرسومة بالهاء فيها إلاّ سبعة مواضع ، فقد رسمت فيها ( رحمت ) بالتاء . " وكان لعلماء العربية ، وعلماء الرسم والقراءات محاولات في العثور على ذلك التفسير ، وكانت خطى الجميع متقاربة في هذا الميدان ، إلاّ أنّ الخليل بن أحمد ، وتلميذه سيبويه قد أغربا في ذلك ، وربما جانبا الحقيقة والصواب حين علّلا تغيير تاء التأنيث في الوقف إلى الهاء ، ليفرقوا بينها وبين الأصلية في بناء الكلمة رغم أنّ التاء هي الأصل عندهما " .
لقد اتفق معظم علماء العربية على أنّ التاء هي الأصل في علامة التأنيث، وأنّ الهاء تخلفها في الوقف ، فجاءت معظم الأمثلة لذلك مرسومة بالهاء .كذلك انحصرت تفسيرات علماء السلف في كتابتها على الوصل أو الوقف ، واختلف القرّاء في الوقف على ذلك فكان أكثرهم يقف بالتاء على ما كتب من ذلك بالتاء ، ويقول الوقف على ما في المصحف لا يتعدى . فما كان في المصحف بالتاء وقفت عليه بالتاء ، وما كان بالهاء وقفت عليه بالهاء .
ولعل من وقف على تاء التأنيث بالتاء ورسمها كذلك ، يكون جارياً على لغة طائفة من العرب ، إذ يقول سيبويه : " وزعم أبو الخطّاب أنّ ناساً من العرب يقولون في الوقف : ( طلحت ) ، كما قالوا في تاء الجميع قولاً واحداً في الوقف والوصل "
تلك هي جهود علماء من سلف في تعليل ظاهرة رسم تاء التأنيث في بعض المواضع بالتاء . وفي معظمها بالهاء ، وللمحدثين رأي في تفهم هذه الظاهرة ، وذلك أنّ التأنيث في الساميات كلها لم تكن له علامة سوى التاء . لكن يبدو أنّ هذه العلامة قد خضعت للتطور على مرّ الأيام .
ويلحظ في النص القرآني أنّ هذه ( التاء ) ـ في آخر كلمة (رحمة) مضافة إلى لفظ الجلالة ( الله ) ، أو إلى كلمة ( ربك ) ، أو ( ربِّهِ ) ـ رُسِمت تاءً طويلة في المصحف العثماني ، في سبعة مواطن ، وفي مواضع خمسة أخرى كتبت مربوطة .
وفي هذا من جهة الدلالة ، أنَّ ما ورد من آيات فيها تاء (رحمة ) طويلة ٌ مفتوحة ، كان المقصود به الرحمة لا مستحقيها ، أو طالبيها . فهي إذن مواطن وصف الرحمة ، وهذا يستدعي السعةً ، إذ الكلام عن سعة الرحمة ، ولا ضير أن يرتبط التوسع في معنى اللفظ ومضمونه ، بالتوسع في شكل الحرف ورسمه ، فكلاهما متلازمان ، وفي هذا التلازم أثر نفسي واضح .
ففي الآية الأولى ؛ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا يدركون سعة رحمة الله فهم يرجونها ، ورجاؤهم فيها كبير .
وفي الثانية ؛ البشرى بالسعة ، فالرحمة تسع جميع المحسنين وهي قريبة منهم في متناولهم .
وفي الثالثة ؛ وَسِعت أهل البيت رحمة الله وبركاته وعمَّتهم ، و في هذا من السعة ما لا يخفى .
وفي الرابعة ؛ دعوة إلى تذكر رحمة الله والاطمئنان بها ، فكما شملت الرحمة زكريا عليه السلام مع أنَّ نداءهُ كان خفياً ، فهي ستشمل الجميع إن تقربوا من خالقهم بالدعاء ، وهذا من مواطن الشمول والسعة .
وفي الخامسة ؛ دعوة للنظر إلى آثار رحمة الله الواسعة في الأرض والكون ، كيف يحيي الأرض بعد موتها ، في مظاهر الحياة جميعها .
وفي السادسة ؛ رحمة الله قسمت على الخلائق فوسعتهم بالرزق في الحياة الدنيا .
وفي السابعة ؛ رحمة ربك خير مما يجمعون ، وأوسع .
فكان في رسم التاء نوع مطابقة مع دلالة المعنى والحال ، وافق فيه التوسع في الرسم التوسع في المعنى .
وتبين في مواطن التاء المغلقة المربوطة ( الهاء ) أن السياق لم يكن يتكلم على الرحمة وسعتها ، بل على مواطن قلة واحتجاج و إنكار ،وفي الآية الثالثة ؛ المقام مقام رجاء وقلة ، ممن هو قانت آناء الليل ، وفي الآية الرابعة ؛ إعلام من أسرف على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله . ويُذَكِّر الذين يظنون أنّ رحمة الله لن تسعهم ، فهم قانطون ، وهذا مقام من لا يرجو الرحمة ظناً منه عدم الحصول عليها . وفي الآية الخامسة ؛ بيان حكم من ابيضت وجوههم، وأنهم يستحقون الدخول في رحمة الله ، وهم طائفة محدودة ، فلم يكن ما تقدم في المواضع الخمسة الأخيرة في وصف الرحمة ، بل هو في وصف مواطن الضيق فيها .