تأليف د محمد محمد يونس علي
أعني بمصطلح الإحالة ما يعرف باللغة الإنجليزية reference، وربما ترجم هذا المصطلح بالإشارة، ولا ضير في ذلك من الناحية اللغوية المحضة، بيد أنه قد يسبب مشكلة اصطلاحية ومنهجية؛ لالتباسه بما يعرف في العربية بأسماء الإشارة، التي هي نوع واحد من أنواع الإحالة، ومن هنا يمكن القول إن العلاقة بين الإحالة والإشارة علاقة عام بخاص؛ إذ كل إشارة إحالة وليس كل إحالة إشارة. وتتحقق الإحالة في العربية بالضمائر بأنواعها، وأسماء الإشارة، والتعريف بأل، والمقارنة، وسنتعرض لكل نوع منها بالدراسة والتمثيل والتحليل.
ويمكن القول إن الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقف تفسير الأول على الثاني؛ ولذا فإن فهم العناصر الإحالية التي يتضمنها نص ما يقتضي أن يبحث المخاطب في مكان آخر داخل النص أو خارجه. وعلى سبيل المثال، فإن قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا"[25] لا يمكن أن يفهم إلا بتحديد مراجع الكلمات الإحالية فيها، وهي: الضمائر في "قال" و"فعله"، و"هم"، واسم الإشارة". وليس ثمة علامة صرفية أو نحوية أو معجمية في العنصر المحيل نفسه يمكن أن يساعد المخاطب في تحديد المرجع المقصود، ولا في معرفة كون المرجع جزءا من النص، أو جزءا من مقام التخاطب. ومع ذلك، يمكن للمخاطب - اتكالا على السياق أو المقام بمفهومه الواسع- أن يحدد الأشياء أو الأشخاص، أو العناصر اللغوية التي تحيل عليها العناصر المحيلة.
ومن أمثلة الإحالة بأداة التعريف "ال" في قوله تعالى: :
(17) "وأرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول"،[26] (فقد أحالت كلمة "الرسول" على كلمة "رسولا").
ومن أمثلة الإحالة بالمقارنة قوله تعالى:
(18) "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"،[27]
فقد ربطت كلمة أكبر (التي هي لفظ من ألفاظ المقارنة) الجملة الثانية بالأولى؛ لأنه لا يكون الشيء أكبر إلا بالموازنة بشيء آخر، ولا يعرف ذلك الشيء الآخر إلا بالرجوع إلى ما سبق في الآية، ومن هنا تتحقق فكرة اعتماد أجزاء النص بعضها على بعض، وعدم استغناء أحدها عن الآخر.
ويفرق الباحثون بين الإحالة الخارجية exopheric reference، والإحالة الداخلية endopheric reference. ويُقصد بالإحالة الخارجية ذلك النوع الذي يوجّه المخاطب إلى شيء أو شخص في العالم الخارجي. أما الإحالة الداخلية فتستخدم لتدل على ذلك النوع الذي يحال فيه المخاطب على عنصر لغوي داخل النص.[28] ويمكن التمثيل للنوع الأول باسم الإشارة "هذا" الذي ورد في الآية السابقة، وأشير به إلى كبير الأصنام، التي جعلوها آلهة، وهذا النوع من الإحالة لا يمنح النص سمة التماسك؛ لأنه لا يربط عنصرين معا في السياق.[29] وأما النوع الثاني فيمكن التمثيل له من الآية نفسها بالضمير "هم" في قوله تعالى: "كبيرهم" الذي يحيل على الآلهة، التي وردت قبل ذلك في قوله: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم".
ومن اللطائف أن تتعدد الإحالات، كما في الإحالة بالضمير "ـه" في "فعله" على "هذا" في قوله تعالى: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم"، وأحيل بـ "هذا" على كسر الأصنام.، فاجتمعت إحالتان الأولى منهما داخلية، والأخرى خارجية.
وقد تكون الإحالة الداخلية على متقدم anaphoric reference، وهو الأصل في العربية، كما في قوله تعالى:
(19) "ولقد آتينا إبراهيم رشده"[30]
حيث أشير بالهاء إلى "إبراهيم" عليه السلام المتقدم الذكر، وقد تكون على متأخر cataphoric reference، وهو قليل لا يتعدى مواضع معينة سنشير إليها في مبحث قادم، ومنه ما يعرف بضمير الشأن أو القصة، كما في قوله تعالى:
(20) "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"[31].
التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها، وهو أن العمى الحقيقي إنما هو عمى القلوب، وليس عمى الأبصار.
ولعل من المفارقات الجديرة بالملاحظة أنه كلما زادت الإحالات في الجملة (كما في آية كسر الأصنام السابقة)، زاد اعتمادها على غيرها في فهمها، واضمحل استقلالها بنفسها، فتزايدت قوتها الربطية، والتعلقية، وقدراتها التماسكية، وكل ذلك يدعم سمة النصية في الكلام المؤلف.