مقام الحال وأثره في تنوع الحركة في الأبنية
مع دراسة تطبيقيّة في الجذر الثلاثي
أستاذ اللغة المساعد الدكتور محمد توفيق الدغمان
جامعة الأنبار-كلية الآداب- قسم اللغة العربية
توطِئة :
جَهَدَ كثير من القدماء أنفسهم في الكشف عن أسرار العربية , فتكلموا على نشأة اللغة ونموها وتطورها, وهم في النشأة بين داعٍ إلى التوقيف ، أو مشغوف بأسرار اللغة يبحث عن أصول وقواعد محكمة تواضع عليها العرب تواضعاً ، وتنازعوها تنازعاً ، فكان نتاج حضارتهم ؛ نظماً بديعاً ، أظهر أن اللغة كانت مساراً صالحاً لخدمة القرآن الكريم . ومن البديهة عدم التسليم لمن يقول بمطلق التوقيف في اللغة جميعها ؛ المجاز منها و المستعار فيها ؛ لأن من شأن ذلك أن يلغي دور المتكلم في كثير من المتغيِّرات الصوتية والتركيبية التي أبدلت كثيراً من الألفاظ مما عدوه من الشاذ وغير الشائع والمخالف للقياس .
إنّ من ادعى التوقيف استدل بقوله تعالى : ( ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ )/البقرة:31 ، وأغفل قوله تعالى في موطن آخر : (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ )النجم /23 . وقوله ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭼ النجم/27 ، فدل على أنّ من الأسماء ما هو من وضع البشر ، وقد دلَّ الدليل على أن اللغة منطق وليست أسماء ؛ لقوله تعالى : (ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ) النمل /16 .
يهدف هذا البحث إلى لمِّ شتات ما يبرهن على الصلة بين العوامل النفسية والحالية , وتوليد الألفاظ، وذلك باستقصاء إشارات القدماء في كتبهم ، ومحاولة توجيه ما ذكروه وتبويبه ؛ للتعرف إلى حجم هذه الظاهرة ، والاستفادة منها في التوليد المستقبلي . وكذلك يفتح آفاقاً في الدرس اللغوي ، ويسعى لبيان سرِّ تنوع الصيغ في العربية . ثم هو يبدأ مرحلة جديدة في الدرس القرآني ؛ لبيان أسرار التنوع في القراءات القرآنية , والإعجاز الدلالي لذلك التنوع ، وأثره في تفسير النص القرآني . وسيعرض أثر المقام في توليد ألفاظ اتسمت بالغرابة الدلالية , أو الغرابة اللفظية , مما عُدَّ نادراً أو لهجةً أو توهماً . أو مما وقع فيه محاكاة أصواتٍ ، وقلبٍ ، وإبدالٍ ، أو نحتٍ وتركيبٍ , أو تكاثر ألفاظٍ على معنى ٍ واحد .
إنّ لمقام الحال مظاهر تستحق الدرس ما برح القدماء أنفسهم يُلمِّحون أو يُصَرِّحون بها , ويعرضون لأمثلتها ، فتظهر دوافع ، وتتجلى أغراضٌ ، وراء هذا الكمّ الهائل من الألفاظ المـُبهِر في دلالته اللفظية ، في معانيه وأصواته ، ونلحظ من ذلك أن مقام الحال يصارع ألفاظ اللغة ، وينازعها في مقاييسها وموازينها ، ويكاد يتحكم في كل ما يُلفظ ويُقال .
ودلالة اللفظ على الحال مسألة وصلَ إليها علم الأولين فيما يعرف بمشاهدة الأحوال ، فكان حال المخاطَب والمخاطِب ، ونوع الخطاب ، والزمان والمكان ، والهيئة ، وحالات النفي وما يَعرض لها , يَعرِض في المقام ، أو يُستدعى قبل التكلم وحينَه وبعدَه , فتجد المتكلم مبدعاً اللفظ المناسب تصوراً وتطبيقاً , أو مُحَرِّفاً ما عَهِدَهُ من ألفاظ بوحي من ذلك الحال ، وربما شاع هذا اللفظ ونما ، وربما لحقه التطوير والتغيير بين الحين والحين ، فمنه ما تراه راسخاً ومنه ما يزول .
لقد كان من مظاهر ذلك أننا نجد في كلام من يَسكنُ في وسط الجزيرة العربية غير كلام مَن يسكن في شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها , في تخومها وجبالها , سهولها وبراريها . نجد مفردات وأصواتاً بعيدة ، بل غريبة جديدة غير مألوفة. ونجد في المصايف ما لا نجده في المشاتي , وفي المعارك أسماء وأصوات تنفر منها أسماء أصوات السلم , وفي المدينة أصواتٌ تنأى عنها كلمات البادية , وبين الأحبة كلام لا يدانيه كلام أهل المشاحنة والعداء , وفي وصف الحيوان غير ما يوصف به الإنسان, فتنوعت الأوصاف وتعددت الألفاظ وتغيرت الأصوات ، لكنها حافظت على نبر المقام وحال الكلام . من هنا تبدو أهمية هذه الدراسة لضرورة توصيف المؤثر والمتأثر ، اقتضى البحث مبحثين ، عرضت في الأول ؛ تأصيلاً لظاهرة مقام الحال ، وفي الآخَر أخذت في بيان التوليد الاشتقاقي و مقام الحال فيما تنوعت حركات البناء فيه من الثلاثي .
وفيما يأتي بيان ذلك :