الأبنية الاسمية في اللغة العربية
دراسة تطبيقية في شعر يوسف وغليسي
أ ـ دندوقة فوزية
قسم الأدب العربي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة محمد خيضر بسكرة
تمهيد:
اعتد القدماء في تعريفهم للجملة الاسمية بصدرها ، فهي التي تبتدئ باسم، ولكن بعض الدارسين يشترط خلوها من الفعل تماما، ولا نكاد نعثر في اللغات الهندية والإيرانية والغربية على مثل هذه الجملة ، لأنها تستخدم دائما فعلا رابطا بين جزئي الجملة المشابهة للجملة الاسمية السامية، وبدون هذا الفعل- في هذه اللغات- لا يمكن تشكيل جملة صحيحة إسناديا [i]، فاللغة الفرنسية مثلا لاسبيل لها في تشكيل جملة اسمية دون استخدام فعل الكينونة (le verbe être) ومثيلتها في ذلك اللغة الإنجليزية التي لا بد لها من الفعل ( to be) وهو يترجم في العربية إلى جملة اسمية في نحو : (le crayon est rouge ) و(the pen is red ) ، فنقول : القلم أحمر، والترجمة الحرفية لذلك هي : القلم يكون أحمرَ، فعلاقة الإسناد في العربية لا تحتاج إلى لفظ بعينه يدل عليها، لأنها علاقة معنوية تقوم بين المبتدأ والخبر، في حين أن غيرها من اللغات تحتاج إلى ألفاظ خاصة تبين هذه العلاقة.
وبما أن الجملة الاسمية هي المبدوءة باسم فإننا نفرق بينها وبين الفعلية بالمبتدأ، فإن تصدر الجملة اسم ليس مسندا إليه بقيت الجملة فعلية، فقولنا: (اليوم عاد المسافر)، أو (عليا أكرم محمد) لا يعني أن الجملة قد تحولت من الفعلية إلى الاسمية لأن الاسم الذي تقدم على الفعل ليس ركنا إسناديا ، أما قولنا: المسافر عاد اليوم ، ومحمد أكرم عليا، فينقلها إلى الاسمية باعتبار الاسم الذي تصدرها(مبتدأ) .
و الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة وفي الخبر أن يكون نكرة ، لأنك إذا قدمت حكما مألوفا ومعلوما لدى المخاطب لن تجد فائدة في إعادة إبلاغه له، اللهم إلا إذا كان على سبيل التذكير ، والأمر نفسه بالنسبة للمبتدأ فهو في جملته محكوم عليه، ولابد أن يكون المحكوم عليه معروفا، فإن لم يكن كذلك فما فائدة المخاطب أو السامع في معرفة الحكم، فالغرض من الإخبار إفادة المخاطب ما ليس عنده، وتنزيله منزلتك في علمك بذاك الخبر ، والإخبار عن النكرة لا فائدة فيه، فإن قلت : رجل قائم أو عالم أو مريض... وما إلى ذلك من الأخبار ، لم يكن في كلامك ما يفيد السامع، لأنه ليس من الغريب، وليس بالجديد أن يكون هنـاك رجل قائم أو عالم أو مريض في هذا الوجود ممن لا يعرفهم المخاطب، وليس هذا ما ينتظر السامع أن يسمعه ، ولا أن تنزله منزلتك في العلم به، فإذا اجتمع في الكلام معرفة ونكرة ، كانت المعرفة مبتدأ والنكرة خبرا، لأنك إذا ابتدأت بالاسم الذي يعرفه المخاطب كما تعرفه أنت فإنما ينتظر الذي لا يعلمه ، فإذا قلت (قائم) أو (حكيم)، فقد أعلمته بمثل ما تعلم مما لم يكن يعلم، وإذا قدمت وقلت (قائم زيد) فقد قدمت نكرة لا يعرفها المخاطب، ولا فائدة له بتقديمها. والحقيقة أن المعرفة والنكرة إنما تقاس بالنسبة للمخاطب، فما كان معروفا عنده فهو معرفة، وما كان منكورا فهو نكرة ، لذلك تجد النحاة يجوزون الابتداء بالنكرة في مواضع حصول الفائدة [ii]، وذلك ما عول عليه المتقدمون ، فمتى حصلت جاز لك أن تبتدئ بالنكرة ، بينما راح المتأخرون يعدون هذه المواضع ويحصونها لأن معرفتها غير متسنية للجميع، فتتبعوها بين مكثر ومقل [iii].
و سنتناول فيما يلي الأنماط المختلفة للجملة الاسمية في شعر يوسف وغليسي، وهي ثلاثة: نمط (المبتدأ + الخبر) الذي يشمل صورا ثلاثا أيضا، وهي الصورة التي يكون خبرها مفردا أو جملة أو شبه جملة، ولكل صورة أشكال محولة عنها بالحذف أو الزيادة، أو التقديم والتأخير. ونمط الجملة المسبوقة بكان أو إحدى أخواتها، والنمط الأخير هو نمط الجملة المسبوقة بإن أو إحدى أخواتها، ولكل نمط منهما صوره المختلفة أيضا.
النمط الأول : مبتدأ + خبر
الصورة الأولى : مبتدأ + خبر (مفرد)
وردت هذه الصورة في مثل قوله [iv]: أَنَا أَنْتِ وَأَنْتِ أَنَا
والملاحظ على هذه الجملة أن المبتدأ والخبر فيها ضميران منفصلان، والضمير كناية عن اسم معروف وخاصة ضمائر الحضور، أي ضمائر المتكلم والمخاطب. والضمير -كما يرى بعض الدارسين- وسيلة استحدثتها العربية بعد مراحل من التطور ليقوم بوظيفة الربط، إضافة إلى ما يقوم به من وظائف أخرى، ويرون أن اللغة العربية كانت تستخدم في مراحل متقدمة إعادة اللفظ بنفسه [v].
إن الضمائر الموجودة في قوله (أنا أنت وأنت أنا) ليست بحاجة إلى ما يوضحها، لأن الضمير (أنا) هو ضمير المتكلم نفسه، ولا شيء أوضح بالنسبة إليه أكثر من نفسه، ولا شيء أعرف للمتلقي من المتكلم معه، فمن دون شك أنه لن يجد صعوبة في فهم وإدراك ضمير المتكلم ، لأنه –كما نعلم- موجود معنا نسمعه ونراه، والضمير (أنت) أيضا ضمير واضح في غاية البروز، لأنه عائد على المخاطب ، ولا يخاطب الشخص إلا إذا كان حاضرا، ولا شك في أن الحاضر معروف، لا يحتاج إلى ما يعرف به. وعلى الرغم مما تتصف به هذه الضمائر من الوضوح والبروز إلا أن الاسم الظاهر أقوى منها وأبلغ في توصيل المعنى، كما هو مقرر في العربية [vi].
ورد المبتدأ ضميرا في قوله أيضا [vii] :
أنَا عَاشِقٌ غربَّتهُ دَآدِئ لَيل النَّوى
وصفصَافـةٌ شرَّدتها ريـاحُ الهَوى
أنا طائِـرٌ مثْقل بِالحنِينْ وبالذِّكْرَيات
سَمائِي مُثقلَة بِالغُيوم و بالمُعصِرات
أنَا شَاعِرُ أَثملته المَواجِع والأُمنيَات
إن الخبر في هذه المقطوعة الشعرية نكرة وهو الأصل فيه، أما المبتدأ فهو معرفة؛ لا يحتاج إلى ما يوضحه، ولا غرابة في ذلك ، لأن الضمائر معارف في عرف النحاة* بل هي أعرف المعارف ، فالشاعر هنا يتحدث عن نفسـه، ويخبر بأنه عاشـق وطائر وشاعر، ثم يصف هذه الأخبار المنكرة لتتميز (أنا) المتكلم العاشقة والطائرة والشاعرة عن أي (أنا) أخرى.
وقد ورد المبتدأ والخبر معرفتين معا في قوله [viii]:
قَلِبي هُناك.... وأَنَـا هُنـا
جَسدِي هُنَا.... رُوِحي هُنَاك
فَأنـا هُنـا.... وأَنَـا هُنَاك.
فالمبتدأ هنا إما ضمير متكلم، وهو أعرف المعارف كلها، وإما مضاف إلى ياء المتكلم ، والمضاف معرفة أيضا، وهو بحسب ما يضاف إليه ، وقد أضيف في هذه الأبيات إلى ضمير المتكلم ، فكان بهذه الإضافة من أعرف المعارف، ولكن بعض النحاة يرفض أن تكون الضمائر معرفة كإبراهيم أنيس الذي يقول إن استعمالات اللغة تبرهن على أنها لا تكاد تزيد وضوحا عن غيرها من الأسماء الأخرى، والتخصيص في مثل قولنا:نحن الجزائريين ، نحن العرب، نحن المسلمين... ليس إلا بيانا لهذا الضمير وتوضيحا له عن طريق الاسم الظاهر الذي تلاه، و ( نحن) في العبارات السابقة غير معروف على من يعود، لكن ما بعده وضح أنهم الجزائريون في العبارة الأولى والعرب في الثانية والمسلمون في الثالثة. وقد استدل على عدم كون الضمير معرفة – إضافة إلى التخصيص – بأن النحاة أنفسهم اختلفوا فيما بينهم على قدر ما في الضمائر من معرفة، وأنهم أنفسهم أيضا الذين قرروا أن من أغراض استعمال الضمير في اللغة الرغبة في التعميـة والإبهام [ix].
أما الخبر فهو معرفة أيضا في القطعة الشعرية السابقة ، تمثل في اسمي الإشارة ( للمكان ) هنا وهناك. إلا أن الأصل فيه أن يكون نكرة كما سبق الذكر، ولعل السبب في تعريفه رغبة الشاعر في تحديد الأمكنة المختلفة التي تواجد فيها وبالتالي رغبته في التعبير عن تذبذبه وعدم استقراره.
وقد يكون الخبر معرفة بإضافته إلى معرفة، كقوله [x] (متدارك) :
بَغدَادِيُ .. ودَمُ الحُسينِ فَصيلَتِي بَغدَادِيٌ شَهرَ الحُسينَ لِيثْأَرَا.
ويغلب على الخبر إذا تعرف أن يسبقه ضمير الفصل؛ حتى لا يظن أنه نعت للمبتدأ، وأن الخبر آت بعد هذا النعت، وعلى الرغم من تعدد أشكال الجملة الاسمية المعرف خبرها ومبتدأها إلا أننا لم نجد لضمير الفصل نموذجا في شعره.
ومن النحاة من لا يعتبر الأصل في الخبر التنكير، فالمسند في رأيه لا ينبغي أن يكون مجهولا، بل معلوما كالمسند إليه، وإنما الذي ينبغي أن يكون كذلك هو انتساب ذلك المسند إلى المسند إليه [xi]، فالمجهول في جملة ( دم الحسين فصيلتي) هو العلاقة بين المركبين، وليس المركب الثاني، فإذا أسندت (فصيلتي) إلى (دم الحسين ) بينت للسامع العلاقة بينهما وأوضحت أنهما واحد. والتزام الرتبة في هذه الحال واجب، إذ لا يجوز تقديم الخبر، لأن تقديمه يؤدي إلى التباس المعنى إذ أن كل واحد منهما يجوز أن يكون خبرا ومخبرا عنه، فأيهما تقدم كان المبتدأ، يستثنى من ذلك حالات وجود قرينة تبين المبتدأ منهما والخبر، أما إذا تعرف المبتدأ دون الخبر جاز فيه التقدم ، وذلك كقول شاعرنا [xii] ( بسيط ) :
وَردٌ وشَوكٌ هُما عَيناكِ قَاتِلَتِي رَصاصَتانِ بقَلبِ القَلبِ أُنبِتَتا
جَزيرَتانِ هُما عَيناكِ فَاتِنَتِـي إِليهِمَا زَْورقِي الوَلْهانُ اقْتنَتا
حيث قدم الخبرين (ورد) و(جزيرتان) على المبتدأ (عيناك) لأنه معرفة دونهما، ولأن الشاعر لا يريد من قوله هذا إلا أن يصف عينيها ، ويخبر عنهما ، فقدم الخبر لأنه صفة في المعنى، واهتمامه - في هذا الحديث – بالصفة أكثر من الموصوف، ومثل هذا الأسلوب الشعري كثير عند يوسف وغليسي، فقلما يلتزم نظام الجملة العادي، لأنه دائما بحاجة إلى ما يعبر عن معنى غير عادي.
و مثال الزيادة التي تضيف إلى المعنى التام معنى جديدا قول الشاعر [xiii]:
الشِّعـرُ مُعتَقلِـي
والشِّعرُ مُعتَقلٌ فِي سِجْنِ أَفكَاِري
والحُزنُ مَصلُوبٌ عَلى أَوتَاِر أَشْعاِري.
فالجملتان (الشعر معتقل) و ( الحزن مصلوب) تامتان مستوفيتان لشروط الإسناد، زيد عليهما شبه الجملة الذي يحدد مكان الاعتقال في الأولى ، ومكان الصلب في الثانية، أي أن هذه الزيادة لم تكن اعتباطا، وإنما من أجل أن يقيد الخبر بمكان معين من خلالها.
ومن أشكال هذه الصورة الجملة التي يحذف أحد ركنيها مبتدأ أو خبرا، من أمثلة ذلك قوله [xiv]:
أَنَا عَاشِقٌ ، وشَواِرع العُشَّاِق تُنكِرُنِي.
مُتفَرِّد بِاللَّيـلِ... وَالكَروَانُ يَعِرفُنِي.
مُتديِّن وَالله يَشهدُ لِي...
لَكنَّني مُتثَاقلٌ.
مُتشرِّدٌ... مُتسكِّعٌ... مُتسائِلٌ.
أَنا مُنحِرفٌ فِي يمِّ أَحزَانِي.
وَهذَا اللُّغزُ أَشِرعَتِي.
مُتسِائِلُ فِي حيرَةٍ.
والصَّمتُ أَجِوبَتِي.
ففي الجمل الوارد ذكرها نجد المبتدأ محذوفا من قوله: متفرد، متدين، متشرد، متسكع، متسائل ، فهي جميعا أخبار حذف متبدؤها للعلم به ، وهو الضمير المنفصل ( أنا)، والدليل عليه الضمير المذكور في جملة ( أنا عاشق) ، وكأن الشاعر في هذه القصيدة يعاني من أزمة الانفصال عن الجماعة ، فتغيب ذاته عنه وعن العالم وسط التناقضات المختلفة والرغبات المتضادة ، فهو متردد بين الرحيل والبقاء، الذهاب والإياب، وبين الحضور والغياب، لهذا يحذف من كلامه ضمير المتكلم الحاضر ليخبر عن عدم الحضور.
ومن أشكال الجملة المحولة عن الصورة (مبتدأ +خبر مفرد) قولـه [xv](بسيط):
كَالنَّخِل وَحدِي وَريحُ الهَجِر تَعصِفُ ِبي لاَ طيرَ يُؤنِسُنِي ... يَلهُو ِبأغْصاِني
فجملة (كالنخل وحدي)- من هذا القول- محولة عن الجملة ( أنا وحدي) التي زيد عليها المتمم (كالنخل) فصارت (أنا وحدي كالنخل)، ثم تقدم المتمم على الجملة فصارت (كالنخل أنا وحدي) ،ثم حذف المبتدأ لتصل الجملة إلى شكلها المحول (كالنخل وحدي) ، وقد يبدو للوهلة الأولى أن الشاعر إنما يحذف أو يقدم من أجل تحقيق الوزن العروضي، ولكن الغرض أبعد من ذلك ، إنه المعنى الذي يقتضي أن يحذف من الجملة أحد أركانها ، أو يؤخر آخر عن رتبته ، لأن أبسط تغيير في المبنى يؤدي إلى تغير المعنى، ولو لم يرد الشاعر ذلك المعنى المغير ، لما ذهب إليه بتغيير بنية الكلام، فتراه يجمع في هذا البيت بين الحذف والتقديم لغرض يخص المعنى، وهو إرادة بروز علاقة التشبيه في الجملة أكثر من أي علاقة أخرى ، وإرادة التأكيد على وجوده في عالم الوحدة والانعزال، وهو الأمر الذي جعله يربط بين هذه الجملة وجملة (ريح الهجر تعصف بي) التي تؤكد المشابهة بينه وبين النخل من جهة، وتؤكد من جهة أخرى وحدته وانعزاله.
الصورة الثانية: مبتدأ + خبر جملة:
إذا كان الأصل في الخبر المفرد أن يكون نكرة، فإنه يفترض في الجملة التي تكون خبرا أن تكون نكرة أيضا، غير أنها في حقيقة الأمر ليست نكرة ولا معرفة ، لأن التعريف من عوارض الذات ، وما يقع من الجمل نعتا لنكرة فجائز من حيث إن الجملة قابلة للتأويل بالنكرة [xvi]، وهذه الصورة التي يكون الخبر فيها جملة هي ما أطلق عليه ابن هشام اسم الجملة الكبرى، وقد تكون جملة الخبر اسمية؛ فتقوم عملية الإسناد فيها بين المبتدأ والخبر (ذات وجه) أو فعلية يكون الفعل والفاعل طرفيـها الإسنادييـن (ذات وجهين) وتتمثل ذات الوجه في قوله [xvii] (بسيط) :
ِفي غُربةٍ أَزليَّةٍ نَحيا مَعًا وَحياُة وَجدٍ كُلُّهَا أَتعابُ
وذات الوجهين في قوله [xviii]:
اللَّيلُ يَسكُنُ مُقلتيْـِك.
وهذه الجمل التي حلت محل مفرد تم بها المعنى، فأخبرت عن المبتدأ، كما يخبر عنه المفرد، لأن الخبر هو ما يستفيده السامع ويصير مع المبتدأ كلاما، سواء كان مفردا أو جملة، ومن المعروف أن جملة الخبر لابد فيها من عائد يعود على المبتدأ ، وهو في الأولى الضمير المتصل بالمبتدأ الثاني، وفي الثانية الضمير المستتر بعد فعل جملة الخبر، وقد استمد الخبر -في الجملة الأولى- قوته من كونه جملة، ويتضح ذلك عندما نقارن قول الشاعر (حياة وجد كلها أتعاب) بقولنا (حياة متعبة كلها) ، فالتعب في الجملتين ميزة الحياة بأكملها، لكن الجملة الأولى أقوى في تعبيرها عن ذلك ، وهذا راجع إلى تركيبها الذي جعلت فيه لفظة (كل) ركنا إسناديا لا يجوز حذفه، مما يؤكد أكثر عدم وجود لحظة من لحظات الحياة دون تعب – في نظر الشاعر- لكنها في الجملة الثانية توكيد للمبتدأ، و التوكيد ليس ركنا إسناديا، وهذا ما يجيز حذفه من الجملة دون أن يختل التركيب أو المعنى العام، فالفرق بين كون الخبر جملة في الأولى، ومفردا في الثانية جعل الأولى تتسم بالقوة في الحكم والتأكيد على المعنى.
ويلاحظ في قوله [xix] ( هزج) :
دُموعُ الأَمسِ تَشرَبُنِي دُموعِي – الآنَ – تَسقِينِي.
أنه قد فصل بين المبتدأ وخبره، وذلك من سنن العرب التي جرت عادتها أن يعترض بين الكلام وتمامه كلام مفيد يضيف إلى المعنى التام معنى زائدا ، فقوله: ( دموعي – الآن- تسقيني ) كلام تام قبل أن تعترض الجملة (دموعي تسقيني) لفظة (الآن) ، والغرض من هذا الاعتراض تحقيق معنى إضافي يصبو إليه الشاعر، وهو تحديد زمن الجملة، وتعيين اللحظة التي تم فيها الخبر وهو الزمن الحاضر واللحظة الراهنة، فكلمة (الآن) تقف جنبا إلى جنب مع جملة الخبر المضارعية ( تسقيني) لتحديد الزمن الدقيق للجملة.
ومن أشكال هذه الصورة، الجملة التي يزيد تركيبها على الركنين الرئيسيين، كقولـه [xx](بسيـط):
عَيناكِ فِي كَوْثِر الرَّحمانِ غُمِّستَا عَينايَ لله في عَينَيْــكِ سَبَّحتَا.
جَنَّاُت عَينيكِ فِي عْينيَّ قد سُكبَت عَيْنايَ بِالوجِد من عَيْنيكِ ارْتَوتَا.
عَيناكِ نَرجسَــةٌ تَالله مَا ذَبُلـتْ عَيناكِ بِالعَسـلِ الصَّافِي تَبلَّلتَـا.
عَيناكِ فِي عَتَمَاتِ اللَّيِل فِي وَهجِي عَيْناكِ فِي قَلْبِي المَهجُوِر أَبْرَقتَا.
فكثيرا ما يعتمد الشاعر وغليسي على مثل هذه الزيادات، وفي هذه الأبيات مجموعة من الجمل التي توسط المتمم فيها المبتدأ و الخبر، حيث فصل الجار والمجرور في معظمها بين الركنين العمدة، وفصل القسم (تالله) بينهما في البيت الثالث، ولنأخذ مثلا جملة (عيناي لله في عينيك سبحتا) التي فصل فيها بين المبتدأ والخبر بمتممين، حدد الأول فعل التسبيح لمن يكون، وحدد الثاني كيف الفعل يكون.
وقد يتقدم المتمم على الجملة الاسمية، كما في قول شاعرنا [xxi] (بسيط) :
وَبِرَغِم إِعْصاِر الزَّمانِ... بِرَغمِهِ صَفْصَافَتِي سَتظلُّ حُلمًا مُوِرقَا.
أو يتأخر كما في قوله [xxii]:
قِطارٌ يجِئُ
وَآخَرَ يمْضِي كَطيفٍ عَبَر.
وذلك لما تمتاز به الرتبة في اللغة العربية من مرونة ، وما يمتلكه الشاعر من حق التقديم والتأخير، ما لم يكن لذلك التغيير في التركيب أثر على المعنى المقصود.
ومن أشكال هذه الصورة أن يتعدد الخبر في الجملة، وترتبط هذه الظاهرة بميل الشاعر إلى الإطناب، والخبر صفة في المعنى، فكما يمكننا أن نصف الإنسان أو الشيء بأكثر من وصف ، يمكننا أن نخبر –أيضا- بأكثر من خبر ما دام كالصفة، فيكون المبتدأ واحدا ،وأخباره متعددة. وقد تكون هذه الأخبار المتعددة من نوع واحد ، مفردات كلها أو جمل أو أشباه جمل، وقد تختلف، فيأتي منها المفرد ومنها الجملة أو شبه الجملة، ومثال ذلك قوله [xxiii]:
عَيناكِ غَائِصَتان فِي الأُفْقِ المُسَّيجِ بِالظَّلامَ
فِي غَابةِ الحُلِم المُغشَّى بِالدُّخَانِ وبِاللَّهِيبْ.
تَترَقَّباِن بُزُوغَ صُبحِ الغَائِبين.
تَتَطلَّعانِ إِلى قُدُوِم القَاِرِظين مِنَ المَغِيبْ.
فالمبتدأ في هذه الجملة الطويلة هو (عيناك)، وقد تعددت أخباره: (غائصتان) (تترقبان)، (تتطلعان)، وهي أخبار مختلفة النوع ، فالأول منها مفرد، والثاني والثالث جملة، وهي من الأخبار المتعددة لفظا ومعنى، والتي يجوز فيها العطف، إذ يصح أن يقال في هذه الجملة: (عيناك غائصتان في الأفق المسيج بالظلام، وتترقبان بزوغ صبح الغائبين، وتتطلعان إلى قدوم القارظين )، ومن الأخبار المتعددة ما يصلح أن يكون نعتا للخبر الأول، ومنها ما لا يصلح إلا أن يكون خبرا للمبتدأ، وذلك متوقف طبعا على معنى الجملة [xxiv]، وفي هذه القطعة نجد أن جملتي الخبر لا تصلحان إلا للإخبار، إذ لا يمكن اعتبارهما نعتا، لأن ما بعد المعارف من الجمل لا يكون كذلك .
من أشكال هذه الصورة أيضا قوله [xxv]:
هُو الله أَرسَلنِي كَوثرًا مِن رُضَاب
يُروِّي صَحَاِري عُرُوقِك
مِنْ نَبعِه السَّلسَبِيل
يبتدئ الشاعر بضمير الشأن الذي لا يخبر عنه إلا بجملة تفسره، وهو ضمير غير شخصي؛ فلا يدل على متكلم أو مخاطب أو غائب ، وإنما على معنى الشأن، وبنية هذا الظاهر تختص بأن الإشارة فيه إلى متأخر، وهذا ما يخالف به الضمير العادي الذي يشير ويفسر ظاهرا متقدما عليه، ويكون في هذا الظاهر المتقدم إزالة لما فيه من خفاء، بينما تنقطع صلة ضمير الشأن بما تقدم لفظيا، فلا تكون إلا صلة معنوية حيث تكون الإشارة فيه إلى معنى ، والجملة النواة في هذا القول ( هو الله أرسلني) والمبتدأ فيها ضمير الشأن (هو) الذي يشير إلى جملة بعده (الله أرسلني) الواقعة خبرا له، ويتبع الشاعر جملة الخبر (أرسلني) بجملة وصفية يبين بها وظيفة هذا الكوثر المرسل.
الصورة الثالثة: مبتدأ + خبر (شبه جملة).
ولهذه الصورة أشكالها المختلفة ، وقد وردت في مثل قوله [xxvi] :
سَلامٌ عَلى زُرقَةِ البَحِر فِي نَاظِرَيْها
سَلامٌ عَلى مَغِربِ الشَّمسِ فِي المُقلَتَيْن
سَلامٌ عَلى مَشِرق الليلِ في شَعِرهَا.
سَلامٌ عَلى مَصِرع اللَّيلِ فِي الوَجْنَتينِ.
بدأت كل الجمل بنكرة لأنها تحمل معنى الدعاء ، ولأن الخبر فيها شبه جملة ، ومتى كان المبتدأ محتملا لمعنى الدعاء، والخبر شبه جملة، جاز الابتداء بالنكرة، فالشاعر في هذه الأسطر يدعو بالسلام على زرقة البحر في ناظريها ، ومغرب الشمس في مقلتيها، ومشرق الليل في شعرها، ومصرع الليل في وجنتيها .
وقد يتغير تركيب هذه الصورة بتغير رتبة الركنين العمدة كقوله [xxvii]:
عَلَى جَبِينِي وَصمَةُ العَاِر المُشِينَة.
وهذا شكل آخر من أشكال الجملة الاسمية التي يتقدم فيها الخبر . وتقديم الخبر على المبتدأ إنما يكون لغرض يتعلق بالمعنى كالتخصيص مثلا أو الاهتمام [xxviii]. ويرى الكوفيون أن تقديم الخبر على المبتدأ غير جائز أصلا سواء كان مفردا أو جملة ولأي غرض من الأغراض، فهو مما يلتزم رتبة التأخير في التركيب [xxix]. والصواب أن الخبر مما يمكن أن يغير رتبته إذا لم يكن لذلك مانع ، فيتقدم على مبتدئه، مما يسمح بالتعبير عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة، فالعربية تمنح المتكلم مساحة واسعة للتعبير عن أفكاره، إذ تأخذ الفكرة الواحدة عنده أشكالا مختلفة من التراكيب ، ويبقى المعنى واحدا مع هذه العبارات المختلفة ، لأن التركيب لم يغير بالشكل الذي يمس المعنى العام، وإنما بشكل يجعل فكرة ما أقوى -لدى السامع- من غيرها في العبارات الأخرى، أي أن الجمل المختلفة في ترتيب أركانها تختلف فيما بينها اختلافا صغيرا أو كبيرا، ولكنها تبقى مشتركة في معناها العام، فكل تغيير في الجملة بالتقديم أو التأخير يولد معنى جديدا من حيث العناية بالمقدم مثلا، ويعبر البعض عن ذلك بأن المتغير -في جملة غير نظام الرتبة فيها- ليس المعنى، وإنما هي الدلالة، باعتبار أن المعنى هو الفكرة العامة التي تحكم العبارة، والدلالة هي ما تختص به عبارة من دون العبارات الأخرى المماثلة لها في الكلمات، والمختلفة عنها في الترتيب أو التركيب [xxx].
ومهما يكن من أمر فإن النظام النحوي هو المسؤول أمام اللغة على إبراز معنى واحد تفيده الجملة، فيجعل الارتباط بين مكوناتها وثيقا ، ولا يمنح الشاعر الحرية إلا بالقدر الذي لا يسيء للمعنى، وإلا تصدع بناء الجملة واختل معناها، فالتقديم الذي في قوله (على جبيني وصمة العار) لم يغير المعنى الذي تحمله تغييرا جذريا ، وإنما تغير بحيث أصبحت وصمة العار مختصة بالجبين، لصيقة به، وكأن الشاعر يهمه أن يبلغ أن جبينه مشوه، ليعرف الناس مدى وضوح العار الذي يحمله، أكثر من أن يبلغ عن وصمة العار، ونجد ذلك أيضا في قوله [xxxi]:
قِيــلَ لِـي :
لَكُم دِينُكُم وَلَهَا دِينُها.
فقد تقدم الخبر (شبه الجملة) على المبتدأين (دينكم) و(دينها)، لاختصاص الدين في قوله (لكم دينكم) بالمخاطبين دون غيرهم، واختصاصه في قوله (لها دينها) بها وحدها، فمن قال إن التقديم أو التأخير لا يكونان لغرض ما فقد وهم ، لأن التغيير الشكلي للجملة يؤدي إلى تغير المضمون فيها، ولو كان ذلك بزيادة حرف واحد على التركيب الأصلي، وهذا واضح جلي في الشواهد التي تقدم ذكرها، فمن دون شك أن قوله ( وصمة العار على جبيني ) أو (دينكم لكم ودينها لها) يختلف ولو قليلا عن قوله ( على جبيني وصمة العار)، وقوله( لكم دينكم ولها دينها).
والزيادة عنصر من عناصر التحويل –إضافة إلى التقديم- تؤدي دورا رئيسيا في تحديد الدلالة المقصودة من الجملـة ،فما الزيـادة في اللفظ إلا زيادة في المعنى. ومثال الزيادة التي لا يستغنى عنها في الكلام قوله [xxxii]:
زَمنِي فِي مَنأَى عَن كُلِّ الأَزْمَان.
فالجملة اسمية، المبتدأ فيها (زمني) والخبر(في منأى) لكن المعنى غير تام بالخبر وحده إلا إذا ألحق بالجملة قوله (عن كل الأزمان) ، فهو متمم يؤدي الاستغناء عنه إلى بتر المعنى وتركه ناقصا لا يحسن السكوت عليه، أما الزيادة التي يمكن الاستغناء عنها، وما زيادتها إلا لحاجة إلى معنى لا يكون بدونها ففي قوله [xxxiii]:
سَلامٌ عَلَى مَا تَحْتِويه
سَلامٌ عَلَى الكَوِن إذْ يَحتَِو يهَا
سَلامُ عَلَى جَنَّةِ الخُلدِ فِي العَالَمِين.
ففي هذه القطعة الشعرية نجد الجملة (سلام على الكون إذ يحتويها) متبوعة بمتمم تمثل في عبارة (إذ يحتويها)،وتجريد الجملة منه لا يغير المعنى العام لها ، ولكنه يغيره عما قصد إليه الشاعر، وهو أن يبعث تحية لهذا الكون، لا لأنه الكون، أو لأنه يحبه، ولكن لأنه يحتوي من يحب، وبهذا اختلفت دلالة القول السابق عن دلالة قولنا (سلام على الكون)، ومثل هذا أيضا موجود في قوله (سلام على جنة الخلد في العالمين )، فالمبتدأ (سلام ) وخبره (على جنة الخلد) وما زيد من شبه جملة( في العالمين) لم يكن من أجل الزيادة في ذاتها، وإنما من أجل إعطاء معنى ما كان ليكون لو قيل : سلام على جنة الخلد.
وإذا كانت رتبة المتمم فيما سبق بعد المبتدأ والخبر، فإنها في قوله [xxxiv]:
والبقيَّةُ – لوْ تَبقَّى مِنْ دَمِي – لِلآخَِرين
توسطت أداة الشرط وجملته ، والشرط أسلوب لغوي ينبني بالتحليل على جزءين مرتبطين ، الأول منهما منزل منزلة السبب، والثاني منزل منزلة المسبب، لأنه معلق على وجوده [xxxv]. ففي هذه الجملة التي يمنح فيها الشاعر بقية دمه للآخرين جزءان؛ الثاني منهما معلق على الأول في وجوده وتحققه، على الرغم من أنها تخالف التركيب الأصلي للجملة الشرطية، بأن اعترض الشرط فيها جملة الجواب، والأصل في ذلك أن يقول: لوتبقى من دمي شيء، فالبقية للآخرين، لكنه قدم البقية على اشتراط البقاء تأكيدًا على منحه هذا الباقي للآخرين.
النمط الثاني: (كان أو إحدى أخواتها) + (المبتدأ + الخبر)
ترفع كان وأخواتها المبتدأ ويسمى اسمها، وتنصب الخبر ويسمى خبرها ، وهناك من يقول إنها لا ترفع المبتدأ بل تتركه على الرفع ، وهي ثلاثة أقسام:
-القسم الأول: هو ما يعمل بدون شرط ويشمل: كان وأصبح وظل وأمسى وبات وصار وأضحى وليس.
-القسم الثاني:وهو ما يعمل بشرط أن يتقدمه نفي أو نهي أو دعاء، وهي: مازال، ماانفك، مابرح، مافتئ.
-القسم الثالث: وهو ما يعمل بشرط أن تتقدمه (ما) المصدرية وهو (مادام) فقط.
الصورة الأولى : (القسم الأول) +(المبتدأ + الخبر)
وردت هذه النواسخ في قوله [xxxvi] (بسيط):
كَانتْ وَكُنتُ وَكَـانَ الحُلْـم ثَالِثُنـا وَاليَومَ عُدْنََا وَماعَاَد الهَوَى مَعنَا
كُنَّا نُناجِي الهَوى الصَّوِفيَّ فِي سَكٍَر نُسَائِلُ الوُجْدَ... والنَّجْوَى تُسَائِلُنَا.
نلاحظ أن (كان) في هذين البيتين قد رفعت (الحلم) وهو اسمها ، ونصبت الخبر (ثالثنا) ، فأفاد دخولها على الجملة الاسمية (الحلم ثالثنا) زمن المضي، كما يمكن أن يكون مفيدا للتوكيد [xxxvii]. أما ما استعملت فيه كان على غير ما يجري استعمالها من رفع للاسم ونصب للخبر، فمتمثل في قوله ( كانت وكنت) ، وذلك ما تختص به مع بعض أخواتها، فتستعمل تامة مكتفية بمرفوعها، وفي قوله (كانت وكنت وكان الحلم ثالثنا) قد استعملت (كان ) بالوجهين: ناقصة فنصبت خبرا، وتامة فاستغنت بالاسم بعدها كالأفعال اللازمة.
واستعمل الشاعر كان الناقصة في القصر قائلا [xxxviii] (كامل) :
مَا كُنـتُ إِلاَّ عَاشِقًـا مُتبَتـلاً حَسِبَ الهَوى طيَفًا فَهمَّ مُعانِقَا
مَا كُنتُ إِلاَّ نَاسِكًا حَسِبَ الهَوى حَبْلاَ بِرَبِّهِ مُوصِـلاً فَتسَلَّقَــا.
ليثبت بالاستثناء بعد النفي أنه كان عاشقا وناسكا، وبأنه لم يكن إلا كذلك ، مؤكدا بهذا الاستعمال اللغوي كينونته الماضية. أما (ليس) فقد وردت في قوله [xxxix]:
لَستُ فِي العِيِر أَوْ فِي النَّفِيِر أَيَا سَادَتِي.
و(ليس) فعل، معناه نفي مضمون الجملة في الحال، فإن قلنا : ( لست في العير غدا ) لم يستقم ، ولهذا لم يتصرف، فيكون فيه مستقبل ، وهذا رأي الأكثرين، وبعضهم يقول بأنها نفي لمضمون الجملة عموما، حالا أو مستقبلا، فهي موضوعة لنفي الحال وتنفي غيره بالقرينة. وفي قول شاعرنا نفت ( ليس) مضمون الجملة في الحال. ويرى بعض النحاة أنها كلمة مركبة من (لا) وهي أداة نفي، و (أيس) وهو فعل كينونة قديم ،تخلف عن سائر أفعال الكينونة، وجمد مركبا مع (لا) في النفي، وخصه الاستعمال بأسلوب خاص، وقد استعمل استعمال الأدوات، إذ أنه لا يدل إلا على ما تدل عليه (لا) النافية، لكنه احتفظ بخصائص الفعل الأولى ، من اتصال بتاء التأنيث الساكنة وبضمائر الرفع [xl]كالمثال السابق .
وتقديم أخبار (كان وأخواتها) جائز إلا خبر (دام) باتفاق النحاة، وخبر (ليس ) عند جمهور البصريين ، إذ أنهم قاسوها على (عسى) . وإذا نفي الفعل بـ(ما) جاز أن يتوسط الخبر بين أداة النفي والفعل المنفي مطلقا، نحو: ما قائما كان زيد، إلا أن التقديم على (ما) ممتنع عند البصريين والفراء وأجازه بقية الكوفيين ، واختص المنع عند ابن كيسان (ت 299هـ) بغير زال وأخواتها لأن نفيها إيجاب، وعممه الفراء في حروف النفي [xli].
ومهما يكن من أمر فإن في العربية رتبا محفوظة لا تتغير أبدا كجملة الصلة بعد الموصول والفاعل بعد الفعل، وأخرى متغيرة حسب ما يستدعيه الأسلوب ، فللرتبة مرونة تسمح بتقديم أو تأخير أحد أركان الجملة الرئيسة حسب متطلبات المقام ، وكل تغيير فيما يؤدي حتما إلى تغيير في المعنى، وهذه المرونة راجعة إلى اعتماد العربية قرينة الإعراب لبيان وظيفة الكلمة في الجملة، لذلك لم يكن لموقعها القدر الكبير من الأهمية في تحديد وظيفتها، كما هي الحال في اللغات الهندية الأوربية التي يقيد مستعملوها بنظام واحد يعد الخروج عنه خطأ، إذ تمتاز العربية - مقارنة بهذه اللغات- بالحرية في التعبير عن المعنى الواحد بعديد الطرق، حتى أننا نجد الرتب المحفوظة في نظام الجملة العربية قليلة، في حين تكثر الرتب غير المحفوظة، وهذا ما أتاح لأبناء هذه اللغة إمكانات كثيرة ليتصرفوا في فنون التعبير تصرفا واسعا ولا سيما الشعراء منهم والأدباء. والشاعر يوسف وغليسي واحد من الذين استغلوا جوازات اللغة للتعبير عن مختلف الأفكار، فتراه يعتمد التقديم بشكل واسع ، من ذلك قوله [xlii]:
كَـانَ لِـي وَرْدَتَـان
وَردَةٌ طَلَعَتْ مِنْ حَنِيِن الشَّهِيد وَمَاتَتْ
وَأُخْرى أُصِيبَتْ بِفَقِْر الحَنَان.
فقدم خبر الناسخ على اسمه ، وسمح له بذلك كون الخبر شبه جملة والاسم نكرة، وهو يرمي من وراء هذا التقديم تخصيص المبتدأ به دون غيره. وتقديم الخبر على الاسم جائز في اللغة ، أما تقديم الاسم على الناسخ فغير جائز، ومتى حدث ذلك فإن الجملة تخرج من نمط الجملة المنسوخة إلى نمط الجملة الخالية من النسخ. ومثال ذلك قوله [xliii] (هزج) :
لِمَ البَلوَى أَيا رَبِّـي سُؤالٌ ظَلَّ يُعْيِينِـي
تقدم الاسم على الناسـخ ، ولم تعد الجملة بهذا التقديـم منسوخة ، لأن المرفوع في (كان وأخواتها) كالفاعل الذي لا يجوز تقديمه على فعله، وإذا تقدم لم يعد فاعلا، وإنما جاز تقديم الخبر عليها، لأنه كالمفعول، وتقديمه على فعله أو على الفاعل جائز ما لم يمنع من ذلك مانع.
فالجملة (جرح بات يشجيني) من الجمل الاسمية المركبة على الشكل: [ مبتدأ+خبر(جملة) ] وما تقديم الاسم في هذه الجملة إلا للاهتمام بهذا المقدم، ورغبة من الشاعر في التعبير عن قوة آلامه وجراحه. وعدول المتكلم عن الرتب المحفوظة التي تركها النحو يمثل نوعا من الخروج عن اللغة النفعية العادية إلى اللغة الإبداعية [xliv] التي لا ينتجها إلا قادر على الإبداع متمكن من اللغة عارف بأسرارها.
وقد استعان الشاعر- إضافة إلى التقديم- بالزيادة في مثل قوله [xlv]:
قَِريبَيـِن فِي البُعِد كُنَّـا
بَعيدَيِن فِي القُربِ صِرْنَا.
فأصل الجملتين (كنا قريبين) و(كنا بعيدين)، ثم تقدم الخبر على الناسخ، لما له في نفس الشاعر من أثر، لكن هذا القرب، وهذا البعد مختصين بحال معينة ووقت محدد، إنه القرب النفسي في البعد الزمني، والبعد النفسي في القرب الزمني، فلما كانت بعيدة عنه كان يشعر بقربها من قلبه، ولكنه أدرك –يوم اقتربت منه- بعدها عنه.
الصورة الثانية: (القسم الثاني)+(المبتدأ+الخبر)
يكاد يخلو شعر وغليسي من أخوات كان العاملة بشرط أن يتقدمها نفي أو نهي، ويخلو تماما من القسم الثالث، وهو الأدوات العاملة بشرط أن تتقدمها (ما) المصدرية. يقول مستعملا الفعل (زال) الذي يعمل بشرط أن يسبق بنفي [xlvi]:
مَاِزلْتُ وَحدِي فِي الظَّلاَم,
وَحِدي أُحدِّقُ فِي الظَّلاَِم.
مَاِزلتُ أَسهَرُ لَيْلَتِي أَِرقًا.
وَفِي قَلْبِـي تَنامُ حَبِيبَتِي.
حيث دخل الفعل (زال) على الجملتين الاسميتين وعمل عمل (كان وأخواتها) لما تقدمه النفي المتمثل في الأداة (ما)، وقد أخذت الجملة معه الترتيب العادي.
النمط الثالث: (إن أو إحدى أخواتها) + (المبتدأ + الخبر)
الصورة الأول:
تتميزهذه الجملة بارتفاع الخبر فيها ونصب الاسم ،وقد وردت في مثل قوله [xlvii] :
إِنَّنِي طَائِرٌ مُثقَلٌ بِالنَّوَى
طَائِرٌ بِالهَجْـِر اكْتَـوَى
رَاحِلٌ مَعَ طُيوِر المُنَـى
ِلأُهَرِّبَ حُبِّي إِلَى مَنْ لاَ يُبِيحُ دَمَ العَاشِقِين
إِنَّني يُوسُفُ، قَادِمُ أُتأبَّطُ عَار العَِزيِز وذِكْرَى أَبِي.
فالملاحظ أن خبر( إن) يتعدد مثلما يتعدد خبر المبتدأ، فكل من الأسماء (طائر مثقل بالنوى) و(طائر بالهجر اكتوى) و(راحل) وقعت خبرا لاسم إن ، ويلجأ الشاعر إلى تعديد الخبر في جملته لتعدد الأوصاف أو الحالات التي يتخذها هذا المبتدأ. كما يلاحظ في هذه الجمل نفسها أن الأداة (إن) قد لحقها نون الوقاية، وهي التي تلحق الأفعال أيضا وتلحق المشبه بها، فنقول (إنني، كأنني، لعلني...) وذلك عندما تتصل باسمها.
وما يميز هذه الحروف أنها تكف عن عملها إذا لحقتها (ما) الكافة والمكفوفة، حيث يصبح دخولها على الجملة الفعلية ممكنا بعد أن كانت مختصة بالدخول على الاسمية فقط، ويستثنى من ذلك ( ليت)، فهي تبقى عاملة حتى بعد أن تلحق بها (ما) الكافة [xlviii]، ومثال هذه الأدوات التي كفت عن عملها قوله [xlix]:
لََكِنَّما بَغدادُ كَالعنقَاءِ، تُبعثُ مِنْ هُنَا أَوْ مِنْ هُنَا.
فالملاحظ أن (لكن) في هذه الجملة قد تقدمت اسما مرفوعا، وهو مبتدأ لا اسم لها، بينما يفترض أن تنصب هذا الاسم ويسمى اسمها، وذلك لأنها كفت عن عملها بإلحاق (ما) بها.
والأصل في جملة المبتدأ أو الخبر المسبوقة بـ(إن) أو إحدى أخواتها أن تجيئ على الترتيب الأصلي، فلا يصح أن يتقدم الخبر على الاسم، فيتوسط بينه وبين الناسخ ولا يصح تقدمه على الناسخ أيضا ، ولم يجز ذلك لأن هذه الحروف فروع على الفعل في العمل، مشبهة به، فكان عملها فرعيا أيضا، والعمل الفرعي للفعل أن يتقدم منصوبه على مرفوعه ، والأصل فيه تقدم المرفوع على المنصوب [l]. وهذا ما افترق فيه باب (كان) عن باب (إن) ، إذ يجوز تقديم الخبر على الاسم وعلى (كان) ، ولا يجوز تقديمه على (إن) واسمها، ويستثنى من ذلك الخبـر شبه الجملة فإن تقدمه على إن واسمها جائز.
الصورة الثانية: (لا النافية للجنس) +(المبتدأ+الخبر):
لا النافية للجنس من الحروف التي تدخل على الجملة الاسمية، فتعمل عمل إن فتنصب الاسم وترفع الخبر لكنه يفيد نفي الحكم عن جنس اسمها، بحيث لا تترك مجالا لاحتمال معان أخرى، ويسمونها أيضا لا التبرئة، و النافية للجنس على سبيل الاستغراق، لأن نفيها يستغرق جنس اسمها كله، وهي تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، وذلك لازم، لأنها جعلت مع الاسم الذي تعمل فيه النصب بمنزلة اسم واحد، نحو (خمسة عشر)، وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجرى مجراه، فهي لا تعمل إلا في نكـرة في موضع ابتداء، ولما خالفت حال أخواتهـا في ذلـك خولف بلفظها، كما خولف بخمسة عشر [li]، وقد وردت في قوله [lii] (بسيط) :
مُسافِرٌ فِي غَماِم الرُّوِح...أَمخُره مُشـرَّدٌ لاَجِئٌ... لاَ قلْـبَ يُؤِْوينِي.
وَهرانُ أَنْهَكنِي التِّرحالُ...هَأنا ذَا أَطِوي الصَّحاِري.. وَلاَ ظِلٌ يُواِريني.
فقد نفى بقوله ( لا قلب يؤويني) أن يكون له أي قلب يأويه، أما في قوله ( لاظل يواريني) فنلاحظ أن ما بعد (لا) مرفوع، وإذا كان الاسم بعدها مرفوعا يحتمل أن تكون نافية للجنس، وأن تكون نافية للوحدة ،والذي يحدد ذلك هو سياق الكلام، وما من شك في أن الشاعر قصد بها النافية للجنس، لأنه ينفي الظل على إطلاقه، فضلا عن أن ما قبلها من نفي للجنس تأكيد لمعناها، إضافة إلى قوله (أطوي الصحاري).
خاتمة:
ختاما لهذه الدراسة نقول إن للشاعر وغليسي لغة قوية وأسلوبا فصيحا ، وقدرة واضحة على الملاءمة بين مختلف المعاني والأوزان الشعرية ، ويتضح ذلك جليا من خلال تركيب الجملة التي التزمت قواعد اللغة ، فلم تخرج عن الأنساق اللغوية المألوفة إلا بما يضمن للعبارة التميز والإبداع ، واعتماده على مختلف أساليب اللغة لتقوية المعاني وتمتين العبارة ، كالإيجاز والإطناب...
فضلا عن أن شعره يعج بالظواهر اللغوية المختلفة التي تزيد التركيب تميزا ورصانة ، وتزيد المعنى قوة وجمالا، كالتقديم في أقسام الجملة المختلفة ، والحذف أيضا ، حيث يكتفي الشاعر في عدة مواضع بذكر الأهم وترك ما لا يهم ، أو ترك المهم في بعض الأحيان ، من أجل الإثارة ولفت انتباه المتلقي إلى ما حذف.
________________________________________
دحماني بختة