لهذه الأبيات التى سيلى سردها قصة غريبة عجيبة..!
لا أجد حرجا من ذكرها ، ذات يوما بعيد قريب ..!
دعانى أحد الأصدقاء .. لحضور مهرجان زله الثقافى للشعر والقصة ، فى دورته الثالثة..
ومع أنى لم أكن من رواد المهرجانات الثقافية إلا الموسيقية منها ، وذلك لعشقى للموسيقى ولا سواها..
فقد أسرنى الشوق لرؤية أبى عندما علمت بأنه من ضيوف المهرجان ، وبعد أن فرقتنا الدنيا لسنين طويلة..
بحكم الظروف الإجتماعية ولإن والدى رحمه الله تعالى كان سفيرا لبلده فى إحدى الدول الأفريقية..
حزمت حقيبتى الصغيرة واستقلت أول سيارة اجرة من مدينتى البيضاء الى بنغازى ، ووجدت صديقى الشاعر
المشاكس "سالم العالم" بإنتضارى .. سلام كالشتائم أو شتائم كالسلام ..!
وبعد أن رفض بشدة أن يضيفنى فى بيته .. بدون أن أدرى سبب ..؟
قلت فى نفسى لعل ملابسى الرثة لم ترق له .. أو أن ...وتعرفون كيد النساء ..أو أن.....؟؟؟
لا أدرى..؟
على كل حال ركبنا سيارتة ال "كميرى" الزرقاء بعد أن ألقى على محاضرة عصماء..! فى مضرة التدخين..
وأنطلقت "التيوتا" تمخر بنا عباب الصحراء الليبية الشاسعة إلى زله ..وبعد أن طال الصمت , ورقصت أطياف
أشباح الصحارى المرعبة..عاكسة صورها الممسوخة على زجاج السيارة معتمدة فى ذلك على ضوء بعض النجوم
الخافتة..وعلى غياب القمر..سألنى بغروره المعتاد :- هل تعرف الشاعر الزلاوى الكبير محمد الدنقلى..؟
أجبت بالنفى .. فقال بلهجة بنغازية متعجرفة :- إنه صديقى.. أسمع أسمع..ضاغطا على زر المسجل..إنسكبت إلى اذنى
الضمأى قطرات موسيقية خافته..وصوت الدنقلى المميز يقول: زله زعم..زله زعم.."بالشدة على اللام فى تكرار زلة الثانية"
زله زعم ..زله زعم ..
والله زلال..؟
مازال حاير دونها ..
نا خاطرى مازال .!
ثم إلى قصيدة آخرى :-دللينى وهمسى فى مسمعى بشويش همسات الغلاء..وخبرينى من أنا.. وعلمينى كيف نحيا عمرنا .؟
مجموع فى لحظة صفا..ولملمينى لملمينى وانثرينى فى الهواء..
لملمينى كيف محار الشواطىء.. واصنعى منى مرايا..لما تحلى فى عيونك.. علقيها علحيطان وعلزوايا..
ولما ما تحلى ..فعيونك..حطميها حوليها لشظايا.. واصنعى منى آى شىء.. مشط.. مكحلة..فيلم مبتور النهاية....ألخ...
سألته بغرابة وقلت : ما هذا..؟
كعادته وبنبرة متعالية قال: هذه مدرسة الشعر المحكى ياجاهل !!!
وبعد ليلة سوداء كالحة الألفاظ وكذا المشاعر..لا أدرى كيف وجد فيها النوم طريقه إلى عيناى المنتفختان..
افقت على صفعات مخففة وصوت سالم يقول: خالد..خالد..خالد.."نوض نوض"..لقد وصلنا..
سحبت حقيبتى من السيارة ..بعد أن قفزت منها ..وبلهفة أشعلت سيجارة من سيجارة وتنفست الصعداء..
لا أدرى أكانت نومة اهل الكهف التى نمت ؟
وفى المساء أبتدأت مراسم إفتتاح المهرجان..كلمة رئيس المهرجان ثم كلمة مساعد الرئيس ثم كلمة...؟!
وتوالى فحول الشعر المحكى، والشعر الغنائى،والفصيح و...؟ على المنبر كلا يدلى بدلوه ..وتعالت الهتافات
وأشتدت التصفيقات..وعم الهرج والمرج..ووسط هذا الصخب العارم..إلتقطت عيناى رجلا مزقنى الشوق
وأضنانى لرؤيته..طبعا تعرفونه جيدا إنه سبب ما تتحملون من ثرثرتى.."لطفى عبداللطيف"
وكما لحن عبدالوهاب وغنت نجاة الصغيرة..خبئت رأسى عنده وكأننى طفل’ أعادوه إلى أبويه..!
ياالله ، يالها من مشاعر...!
لا أريد الإطالة عليكم ... فما أنا بقاص ..ولم أكتب فى حياتى قصة ..ولا حتى فكرت إلى لحظة نزول سبابتى على هذا الحر"ف"
ولا تعرف سببابتى وأخوتها إلا ترجمة أحاسيسى ومشاعرى على الأوتار..والغوص فى بحر الصبا والراست والحجاز والبيات
والنهاوند والسيكاه والكرد والعجم والبستانى كار والقار جغار وال........؟ وكثيرا من الثلاث مائة والخمسة وستون مقام موسيقى عربى
لايستعمل منها حاليا ، ما يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ..بححج جوفاء كفراغ أصحبها من إنها شبابية أو عصرية أو...؟ لاأدرى
فهذا منحى آخر لن أجرفكم إليه الأن.
فى اليوم التالى أفقت مبكرا وذهبت الى مكان الإفطار ..فقد كنت مع أبى على موعد..تناولنا الخبز والحليب والتمر الجنوبى الليبى المميز
سويا..وأذكر أنه سألنى إن كان بصحبتى العود..؟
لإن ليالى المهرجانات فى بلادى لا تكتمل إلابه ، تبسمت عيناه من الجواب...وراح يدندن بصوته الجميل دور شرقى قديم ، أنا هويت ..
وأنتهيت .. وليه بقا لوم العزول...الخ
فى المساء دعانى أبى لزيارة معرض الكتاب بأحد أجنحة المهرجان، وأثناء تصفحنا للكتب المعروضة .. وجدت بينها ديوان يحمل أسمه
بعنوان"قليل من التعرى" فقلت له : من وراى يا بابا..تبسم وقال سأشتريه لك ..
خرجنا من المعرض وعلى كلا منا أن يذهب لغرفته الخاصه ، ليتحمم ويستعد للأمسية الشعرية ..ومن بعدها الحفل الفنى الساهر..
فقلت له: اعطينى الديوان.. فقال ليس قبل أن أكتب عليه إهداء لك..
ذهبت إلى الغرفة للإستعداد للسهرة .. فوجدت سالم متكئا وبجانبه الدنقلى يشنف أذنيه بأخر وأروع ما جادت به قريحته.. ومعهم
الشاعر صالح عباس والشاعر محمد الربيعى والشاعر ....؟" ومش ناقص إلا إمرؤ القيس ، يعنى راح الدش واللبس فى ستين داهية"
.......فى صباح يوم الختام ....سألت عن والدى فقيل لى بأن مجموعة ضيوف طرابلس ووالدى منهم اضطرو للسفر ..مما لم يمكننى
من رؤية والدى وتوديعه...وسافر والدى ونسى بأن يهدينى الديوان..وسافرت بصحبة سالم إلى بنغازى ..وكعادته تركنى على قارعة الطريق
وراغ منى كالثعلب .. فقلت فى نفسى ..ليس عليه لوم ..! إلى أن تأكدت شكوكى بعد الزواج فى السنة الاحقة للمهرجان..وعرفت مغبة أن
يأتى الرجل بيته بصحبة ضيف غير مرغوب فيه، وخصوصا بعد أن تجاوز المدة المسموح بها أو المتفق عليها..؟ وبدون إذن مسبق...
...بعدها بعام زارنى والدى رحمه الله ، قادما من طرابلس حيث يعيش، إلى حيث بلدتى الصغيرة الجبلية الخضراء فى وسط شرق ليبيا
..والتى ترتفع على مستوى سطح البحر بى ستمائة وثمانون مترا، وهى إلى جانب كونها أسطورة ..! فى جمال طبيعتها وطقسها الصيفيى المعتدل
فإنها حاضنة لأثار إغريقية ضاربة فى جذور التاريخ ، بأربعة الأف سنة، ولكن للأسف لم يكن الديوان المراد إهداءه إلى بصحبته ، ونسيت ذلك
فى ضوضاء الفرح.. ومعاناة العريس الليبى ..وكثرة الأعباء..وإرهاق الطلبات الا متناهية ..خصوصا إذا كان العريس معتمدا على سلفة إجتماعية !
فتشعر وكأنك فى زورقا ..بسعة فردا وحدا..وفى عرض المحيط ..والرياح تصفر وتزغرد ..دافعتا بك إلى "برمودا" والمحصلة أن أختفى الديوان ؟
...بعد أن خرجت’ من طقوس حرب الزواج المرعبة ..بعاداتها وتقاليدها الليبية العريقة ..لم ألتقى أبى .. وبعد أن رزقنى المولى عز وجل بأول
مولود لى ..أبنة كلقمر ..إخترنا لها من الأسماء "نور الهدى" ورفض العاملون بالسجل المدنى الطرف الثانى من الأسم ..ولم أعد أذكر بأى الحجج
كان ذلك..؟..بعدها بعامين ..وتحديدا عام الفين وستة ميلادى، تلقيت هاتف بينما كنت أقود سيارتى وبصحبة زوجتى وأبنتى نور الهدى..مفاده بأن
والدى مريض بمستشفى "السبيعة" بطرابلس إثر نزيف دماغى.
فى اليوم التالى سافرت ألى طرابلس للأطمأنان عليه .. مكثت معه بالمستشفى أطول مدة فى حياتى ..قرابة إسبوعين ، إلى أن وفاه الله سبحانه وتعالى
ولهذه الأيام قصص وروايات تروى .. ليس الأن مجالها.. وبينما كنت أنتظر ووصول بعض الأجراءات الإدراية من مدينة مصراتة، حيث أصل العائلة
والسجل المدنى ، وكان إنتظارى فى شارع الرشيد بطرابلس وعلى آذان صلاة العشاء لجامع "بورقيبه" تلقيت مسج تليفونى ..فتحت المسج فإذا به بأسم والدى
"لطفى" رحمه الله وطيب ثراه ، ومن تليفونه بعد أن أحتفظت به أرملته الفاضله ، وقررت أن تبعث لى أبيات شعرية كان قد كتبها المرحوم كإهداء لى على
الديوان "قليل من التعرى" يقول فيها رحمه الله :-
فى الشعر بعضى ..
وبعضى أنا منك جس الوتر..
وفيما تولى إلى الله وجهك..
عندى أثر..
أحبك كونى أبا ..
ثم كونى بشر ..
ولكننى أرتجى أن تذوق المحبة ..
خارج ما تحتويه الصور..
فى لغة شفتاها الذى ..
هو آت وما قد غبر..
@@"خالد"@@