لم يكن ظهور اللسانيات علماً يُعنىى بدراسة اللغة دراسة علمية فتحاً جديداً على يد سوسير وتلاميذه , بل هو نتاج طبيعي لجملة نتاجات لسانية سابقة له بحقب زمنية متباعدة ومتباينة ؛ لذا يرى (جورج مونان) أن اللسانيات نشأت حوالي القرن الخامس قبل الميلاد عند الهنود (1 ), كما أن من الراسخ في البحث اللغوي أن الإغريق كانت لهم عناية باللغة منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة( 2), كذلك فقد تمكن النحاة العرب من وصف العربية , ووضع قواعدها الصرفية , والنحوية , ووصفوا أصواتها , وشرحوا نظامها الصوتي , وألفوا المعجمات , ولم يقف الجهد اللساني عند هذا , بل إنهم تجاوزا حدود الضبط والتقنيين لأدراك مرتبة التفكير المجرد في شأن الكلام , كما أن للأصوليين جهداً كبير اً لاسيما في تحليل الخطاب , والتمييز بين أنواع مختلفة من الدلالات(3 ) , يقول روبنز (( إن العمل اللغوي عند الصينيين والعرب والهنود قد درس دراسة مستقصاة , ولكن من موقعه في السياق الثقافي والتأريخ الأدبي لتلك الشعوب ))( 4) ؛ لهذا يرى بعض الباحثين أن (( من الأنصاف أن يقال إن ما جاءت به الدراسات اللسانية الحديثة لم يكن طفرة من لا شيء إلى إبداع , وإنما هي إضافة حلقة إلى حلقات متواصلة كان البحث اللغوي العربي قد وضع سلسلتها بشكل محكم وتام . ومن الحق أيضاً – إن أدوات البحث المعاصر ووسائله ومصطلحاته تختلف عن البحث اللغوي المتقدم , ومن هنا كان الاختلاف الجزئي في بعض النتائج , والاختلاف الشكلي في الأسماء , والمصطلحات والعناوين ))(5 ).
وبالإمكان تصنيف الملامح اللسانية في التراث اللغوي العربي بما يلي :
أ- أصوات اللغة العربية , وبرزت عناية العلماء العرب بالمجالات الآتية :
1- الفيزيولوجية –النطقية ( عند النحاة والأطباء العرب كسيبويه(ت180ه) في الكتاب , وابن سينا (ت 428هـ ) في كتابه أسباب حدوث الحروف) .
2- السمعية –الدماغية (عند علماء التجويد أمثال مكي بن أبي طالب القيسي (ت437هـ) الشاطبي (ت 790ه) .
ب- تراكيب اللغة العربية :
وهذا كثير عند النحاة العرب والبلاغيين كالخليل(ت175ه),وعبد القاهر الجرجاني(ت471ه) , والسكاكي ( ت 626ه) .
ت- دلالات اللغة العربية ومعانيها :
وهذه الدراسات واضحة في أعمال البلاغيين العرب الذين كانوا يتحدثون عن معاني اللغة العربية ودلالاتها , وفي مباحث الأصوليين الذين اعتنوا بدلالة الالفاظ .
ث- ارتباط اللغة بالمجتمع :
ومن هذه الدراسات ما ذكره الجاحظ (ت255هـ) في مؤلفاته جميعها , ولاسيما "البيان والتبيين" و"الحيوان" .
ج- ارتباط اللغة بفيزيولوجية الإنسان وبيولوجيته :
وهذا واضح عند المؤلفين العرب الذين بحثوا في قضية الأمراض اللغوية والتطور اللغوي عند الإنسان ولاسيما عند الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"( 6) .
وهناك من ظن أن البحث اللساني لا يمت بصلة إلى الثقافة اللغة العربية ؛ لأنه (( بحث أوجدته ظروف اللغات الأوربية التي تختلف في انتماءاتها وتكوينها وبيئاتها وشعوبها المتكلمة بها وتأريخها عن العربية وظروفها اختلافاً كبيراً , يجعلنا في موقف رافض لكل ما يراد من الباحثين المعاصرين العرب أن يسلكوه , أو يتعاملوا به مع العربية ))( 7), وهو ناظر إليها بفعل ظروف النشأة السياسية والجغرافية والتاريخية , غافلاً عمَّا يجمعها بالنتاجات اللغوية السابقة عنها من حيث الموضوع والمنهج .
ويبدو(( أن الفرق الأساسي بين علم اللغة في التراث العربي وعلم اللغة الحديث ينبع من مكان علم اللغة بين العلوم، كان البحث اللغوي عند العرب أداة لفهم الدين، وقد ارتبط منذ نشأته بالبحث في لغة القرآن الكريم، وظل هذا الارتباط قائمًا في الدوائر العلمية على مدى القرون)) (8 ).
ولا تقف حدود المعرفة العربية عند المفهوم , بل إنها استعملت المصطلح بالدلالة نفسها , ومن الذين ذكروا المصطلح صراحةً :
1- الفارابي (ت339ه) في كتابه إحصاء العلوم إذ رأى أن الدراسات اللغوية العربية تقع جميعها تحت (علوم اللسان )(9 ) .
2- أبو حيان النحوي (ت745ه) أول من أطلق مصطلح ( علوم اللسان العربي ) على علوم اللغة في كتابه الإدراك للسان الأتراك (10 ) .
3- ابن خلدون (ت808 هـ) في مقدمته جعل الفصل السادس بعنوان ( في علوم اللسان العربي )( 11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- محاضرات في اللسانيات : 9 .
( 2) مدخل إلى اللسانيات : 9 .
( 3) نفسه : 9 , ومحاضرات في اللسانيات : 11 .
( 4) نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث : 14 .
5 -الألسنية بين عبد القاهر والمحدثين ( بحث ) : 15 .
( 6) صلة التراث اللغوي العربي باللسانيات : 35 .
7 اللسانيات في الثقافة العربية : 31 .
( 8) علم اللغة العربية : 54 .
( 9) إحصاء العلوم : 47 .
( 10) نفسه : 70 .
( 11) مقدمة ابن خلدون : 3 / 236 .