تمثل البلاغة العربية في وقتنا الراهن ذلك المخزون الثقافي والموروث الفكري الهام للثقافة العربية بشكل عام، وبفضلها استطاع ثلة من الباحثين أن يبنوا تمثلاتهم العلمية البناءة لخلق جسر تواصل صريح وصادق بين إسهامات القدماء وإنتاجات المحدثين، ومن ثم كان من سمات البحث المعرفي الحديث هو هذا الصراع المرير الذي استمر ردحا من الزمن بين التراث البلاغي القديم والنماذج اللسانية المعاصرة، مع العلم بأن البلاغة العربية من قبل عاشت إشكالية الحوار أو الصراع بين الشعري والتداولي بعفوية من أول نشأتها إلي عنفوان تضارب مذاهبها .(1)
من هذا المنطلق، فإن تعدد المنطلقات والمصادر ومسارات البحث في الدرس البلاغي العربي، قديمه وحديثه وكذا تنوع المؤثرات والخلفيات، أدي بشكل تلقائي وطبيعي إلي اختلاف الرؤى والتصورات وطرح العديد من التساؤلات المحرجة في هذا المضمار:
ـ هل ـ فعلا ـ العلاقة القائمة بين البلاغة العربية والمقاربات النصية الحديثة علاقة انقطاع أم تقاطع وعن أي بلاغة نتحدث، هل هي بلاغة جملة أم بلاغة نص؟ وهل يستطيع هذا العلم أن يفي برصد ظواهر النصوص لكي ينتقل من بلاغة خاصة إلي بلاغة عامة كلية؟ ثم هل تستجيب البلاغة العربية لكل شروط التنظير حتى نسائلها عن كفايتها الفطرية والمراسية؟
ـ كيف نحين البلاغة العربية حتى تصبح مستجيبة لكل المقاربات الحديثة؟ وكيف تم استثمار أدواتها النظرية في أساليبنا الاقناعية والحجاجية؟ ثم ألا يمكن للدراسة البلاغية أن يكون لها دور في التربية الحجاجية للمواطن؟
لم تكن هذه الأسئلة/ الإشكالات الكبرى وليدة الصدفة، بل نبعت انطلاقا من مساهمات بعض الباحثين والمهتمين بالحقل التراثي في نحوه (2) عقدت بمدينة الدار البيضاء، مما حفزني علي بلورة رؤية خاصة عن هذا الموضوع، واختزال كل مداخلات الأساتذة الاجلاء في توجهين كبيرين:
1 ـ البلاغة العربية والبعد الخطابي التداولي:
من نظرة متأنية وشاملة لمجمل الإنجاز البلاغي في ضوء الأسئلة البلاغية، نقتنع بأن هذا التراث ما زال محاورا يثير الدهشة من جانبين: من حيث الشمول والعمق (3).
فمن حيث العمق، يتبادر إلي الذهن سؤال جوهري قد سبق طرحه وهو: هل البلاغة العربية بلاغة جملة أم بلاغة نص؟
يجيب الدكتور العمري بأن البلاغة العربية لم تكن كما هو شائع بلاغة جملة علي الإطلاق، بل كانت إنجازاتها العميقة قد انتقلت إلي مستوي النص، تنبني المعاني بعضها علي بعض، ويفهم النص بعضه من بعض.. (4).
كيفما كان الأمر، فإن المتتبع للشأن البلاغي ـ كما أوضح ذلك عبد الإله بوغابة ـ يجد بلا مراء فيه عناصر المقاربة التداولية حاضرة في كل الخطابات البلاغية ومن سماتها البارزة، عنصري السياق والمقاوم فضلا عن المقاصد التي يستهدفها المخاطب من الخطاب انطلاقا من مبدأ أن لكل مقام مقال . أما من حيث الشمول فيمكن الحكم بأن البلاغة العربية نظرية شاملة للمعني في كل تجلياتها المختلفة سواء كانت ذات طبيعة تصورية كالتشبيه والاستعارة.. (علم المعاني مثلا)، أو كانت ذات طبيعة أسلوبية نصية كالمحسنات اللفظية (علم البديع).
بناء علي هذه التوجهات، فإن البلاغة العربية بتعبير محمد حدوش تعلمنا كيف نتكلم، بل تعلمنا كيف نقنع وكيف نتخذ القرار.. علما بأن الإقناع هو نشاط حيوي في فضاء اجتماعي واقتصادي مبني علي المنافسة بين الأشخاص والأفكار. ومن جهة أخري فإن امتلاك المتكلم لكل الأدوات الحجاجية والتفاوضية والاقناعية تفترض بالضرورة اللجوء إلي توظيف عدد من الخطابات في الحياة الاجتماعية (الخطاب السياسي، الخطاب الأدبي، الخطاب الاشهاري..).
في هذا الإطار، يبدو أن إعادة تشكيل الذاكرة البلاغية تتطلب بالأساس النبش في مفاهيم الدلالة وأنواعها وأقسامها عند البلاغيين واللسانيين علي حد سواء، كما ابرز ذلك عسو عمو، موضحا من هذه الناحية أن قواعد التوليد الدلالي عند كل من السكاكي وابن علي الجرجاني يمكن اعتمادها في عدد النماذج التطبيقية المحضة، كالقواعد التحويلية التي أقرتها النظرية التشومسكية. وإذا كانت بعض العروض قد حاولت التطرق لقضايا تداولية كبري، فإن عروضا أخري عملت علي الاقتصار علي بعض الظواهر البلاغية، منها الإحالة والاتساق والانجاز.
وقد نحي عبد العزيز بوضاض في هذا المنحي، مستعرضا فيه لمفهوم الإحالة (5) ودورها في بناء الكنايات الخطابية، مبينا أن الوحدات البلاغية في هذا النوع من التراكيب المجازية يتحول من وحدات نصية إلي كيانات خطابية .
من جهته أوضح محمد الفران أن الاتساق يمثل ركيزة من ركائز لسانيات الخطاب، لأن كل النماذج اللغوية الوظيفية أولته اهتماما كبيرا وعالجته من مناح متعددة كما نجد ذلك في نموذج النحو الوظيفي عند هاليداي والنموذج التفاعلي عند فان دايك والنموذج التوليدي التصوري عند بتوفي، وبنظرة أكثر توسعا سعي بنعيسي أزاييط إلي إبراز نظرية الكم الخطابي في البلاغة العربية انطلاقا من ثلاث نقط رئيسية:
أ ـ تقويم نظرية الكم البلاغي (العربية القديمة في ضوء مبدأ كرايس).
ب ـ ترسخ قاعدة الخطاب البلاغي العربي في أبعاده المعرفية والجمالية والاجرائية.
ج ـ محاولة استخلاص جهاز واصف لدينامية الفعل الخطابي البلاغي انطلاقا من ثوابت اللغة ومتغيرات الخطاب.
ثم اتخذ محمد العمري منحي آخر في المعالجة، حيث عمد فيه إلي طرح المسعي الدائم للبلاغة العربية وغير العربية بنزوع نسقي يصبو إلي الاختزال، ثم الانتهاء لوضع معايير مانعة، محاولا صياغة كل المقترحات الجديدة مع وضع خطة شاملة لاستيعاب وبلورة كل الأفكار البلاغية والأسلوبية في إطار علم النص وسيميائيات النص علي حساب السؤال المركزي للأدبية.
ومن جهته قد محمد الحيرش مقاربة تداولية لعلاقة الخطاب بالمقام، مؤكدا علي الموقع الرئيس والجوهري لعنصر المقام في البلاغة العربية. وفي ثنايا مداخلته دافع عن دعوي مفادها أن البلاغة العربية فهمت المقام فهما ديناميا وليس سكونيا كما يزعم بعض الدارسين المحدثين (تمام حسان مثلا)، مبرزا بأن ليس هناك بلاغة عربية واحدة بل بلاغة عربية بصيغة التعدد، ومثل لذلك ببلاغة السكاكي التي ارتقت في دراستها للمقام إلي مستوي الأنموذج العلمي الرصين.
علي هذا المستوي من التحليل، فقد ارتبط سؤال المناسبة المقامية التداولية في أجلي صوره بالبحث عن فعالية علمية إقناعية خطابية من جهة (عند الجاحظ مثلا)، كما ارتبط من جهة أخري بملائمة العبارة للمقاصد ضمن نظرية النظم الاعجازية (أو يمكن ان ندعوه تداولية لسانية في مقابل التداولية الاقناعية النصية)، وارتبط من جهة ثالثة بالبحث عن بلاغة كلاسيكية ذوقية تقوم علي الصحة والمناسبة عند ابن سنان مثلا (6).
وجملة القول، فإنه لن يحول بين الدارس البلاغي الحديث وبين الاهتمام بأسئلة البلاغة العربية واقتحاماتها إلا عدم استيعابها سؤالا وإنجازا (7).
2 ـ نحو مقاربة تواصلية بديلة: نظرية النحو الوظيفي نموذجا
إن المتأمل في نظرية النحو الوظيفي (8) بنماذجها المتعاقبة (ما قبل المعيار ديك 1978 ) والمعيار (ديك 1989 وديك 1997)، يجد بما لا يدع مجالا للشك، أنها النظرية الأكثر استجابة لشروط التنظير والنمذجة (9) مقارنة بمثيلاتها من النظريات اللسانية الأخرى. ومن ثم، فإن النظرية اللسانية لا تعد نظرية إلا في مستوي التفسير لا في مستوي الوصف، وبالتالي لا بد لها من موضوع، والذي يحدده هو النظرية، ونظرية النحو الوظيفي تمثل موضوعها في القدرة التواصلية بنموذجها الممثل لها هو نموذج مستعمل اللغة الطبيعية (10).
وحتى تكون الرؤية منسجمة وموضوع الندوة، جاءت مداخلة الدكتور أحمد المتوكل لتكشف اللثام عن ترابط بديع بين البلاغة العربية ونظرية النحو الوظيفي بحيث أبان فيها أن لمصطلح البلاغة ثلاثة معان:
1. ـ البلاغة ظاهرة: ومثلها في مجموعة ظواهر تقوم إلي جانب الظواهر النحوية والصرفية والصوتية، وهي ظواهر رصدت في أبواب علمي المعاني والبديع.
2. ـ البلاغة مكونا: بمعني أن تكون البلاغة مستوي من مستويات التحليل.
3. ـ البلاغة علما: أي كما يفهمها البلاغيون القدماء، وصنفوها في أبوابه، كعلم البيان والمعاني والبديع.
من هذا المنطلق، عمد إلي تلخيص البلاغة باعتبارها مكونا في ثلاث دفوع أساسية:
أ ـ أن مستعملي اللغة الطبيعية منتجين ومتلقين لا يتواصلون بجمل منفردة وإنما بخطابات.
ب ـ أن لمستعملي اللغة الطبيعية قدرة تواصلية متكاملة، أي مجموعة من الملكات في التواصل المنتج (كالملكة المعرفية، الملكة اللغوية، الملكة الادراكية، الملكة المنطقية والملكة الاجتماعية).
ج ـ أن النظرية اللسانية الأكفي هي تلك النظرية التي ترصد جميع الملكات ولا تقتصر علي الملكة اللغوية لوحدها، ويفضل في هذا الاطار النظرية التي توحد المقاربات الخطابية علي مستوي الجهاز الواصف.
أما من حيث كونها علما، فقد اقترح أن تتخذ ـ حسب تصوره ـ أحد الوضعين التاليين:
أ ـ إما أن تؤرخ (تصبح تاريخا)، وإذاك يمكن اعتبارها حقبة تاريخية من تاريخ الفكر العربي.
ب ـ وإما أن تسترجع، بمعني أن تصبح البلاغة العربية مرجعا، وبالتالي يمكن تفعيلها، وهو ما سماه بـ التفعيل الدامج .
وقد زكي هذا الطرح، عرض عز الدين البوشيخي الذي كان يروم من خلاله إلي مطارحة وتقديم تصور تحليلي واضح لنموذج مستعمل اللغة الطبيعية وذلك بالعمل علي نمذجة القدرة التواصلية التي تمكن المخلوقات البشرية من التواصل فيما بينها لغويا، مع إشارته إلي مكونات هذا النموذج وقوالبه وكيفية التفاعل فيما بين هذه القوالب. لكن ونحن نتحدث عن نموذج مستعمل اللغة الطبيعية وإنشاء الخطاب، فالأشكال الذي يظل عالقا هو: كيف تتعالق هذه الطاقات المكونة للنموذج ـ فيما بينها؟ وما هي اللغة التي تتواصل بها؟
في هذا الاطار، استطاع عز الدين البوشيخي أن يختزل هذه الأسئلة في ثلاث إشكالات كبري عميقة: إشكالية البنية، وإشكال العلاقات، وأشكال التمثيل، وقد اختار ديك(ديك 1989) أن يعالج هذا الأشكال بالمقاربة القالبية علي النحو التالي:
ـ أن تتصور كل طاقة في صورة قالب.
ـ كل قالب يتمتع باستقلاله الذاتي، ويتجلي ذلك في: بنيته، مبادئ عمله، تطوره.
ـ كل قالب يتفاعل مع القوالب الأخرى .
في حين راهنت مداخلة د. محمد جدير علي فكرة توسيع الجهاز الواصف في نظرية النحو الوظيفي والانتقال به من نموذج جملي إلي نموذج قادر علي رصد الظواهر اللغوية في أبعادها الخطابية، وحتى يتم التمكن من وضع نحو وظيفي للخطاب ثم اقتراح عدد من المقاربات، كرون (1997)، بولكستاين (1998)، فيت (1998)، والمقاربة الموسعة القالبية هنخفلد (2003)، والمتوكل (2003).
وعملا منه علي تمحيص ورود وكفاية هذه المقاربات، عمد إلي بحث نقطتين جوهريتين:
أ ـ معالجة بعض الظواهر اللغوية، كالاستفهام والوظائف التداولية وتفاعلها مع الوظائف التركيبية والدلالية والقوة الانجازية وربطها بسياقها وظروفها المقامية.
ب ـ فحص قدرة هذه المقاربات علي توفير تأويل دلالي لعمل إبداعي برمته كالعمل الروائي البوليسي الذي يشكل متنا لدراسة رواية ضحايا الفجر لمليودي حمدوشي.
ومن العروض التي عملت علي مقاربة النماذج اللسانية الحديثة، عرض نعيمة الزهري الذي يتجه إلي بحث عملية التواصل بشقيها: الإنتاج والتأويل، مؤكدة علي أن النظرية اللسانية التي تروم بلوغ الكفاية التفسيرية عليها وصف هذه العملية في تعقيدها وحركيتها، وأعقبت ذلك بالوقوف عند عملية إنتاج الخطاب كما سطرها عبد القاهر الجرجاني من خلال نظرية النظم من جهة، وكذا عملية إنتاج الخطاب وتأويله كما وردت في نظرية النحو الوظيفي من جهة أخري، مبرزة أوجه الاختلاف والائتلاف بين التصورين.
يمكن القول إجمالا، إن هذه الندوة قد شكلت بالفعل لبنة أساسية ومحطة مهمة وبارزة لكل الباحثين والدارسين للفت الانتباه والاهتمام أكثر بتراثنا البلاغي العربي، والارتقاء به إلي مصاف المقاربات اللسانية الحديثة. والأمل معقود علي عقد أيام دراسية أخري وندوات لتسليط المزيد من الأضواء علي هذه المحطات.
القدس العربي
2006/04/11