وصلت مقر المديرية متأخرا، حوالي العاشرة صباحا، إذ لم أسافر إلى العاصمة إلا صبيحة نفس اليوم. فوجدت الزوار كثر، لأنها العطلة، ولأن ملفات رجال ونساء التعليم كلها تحتاج "الدفـع".. تقدمت من النافذة المخصصة لأخذ الأرقام، وأعطاني المكلف رقم 193. تقدمت بصعوبة وسط الحشد، ملأت الاستمارة، وجلت بعيناي لعلهما تقعان على ملالي غيري أو أحد المعارف.. كانت أغلب الوجوه شاحبة بدت عليها علامات العياء، والأجسام نحيفة أنهكها السفر الطويل عبر زمن التعليم القاسي.. القليلون فقط من قد يقال عنهم وسيمون، والقليلات من بإمكانك وصفهن بالجميلات.. لأنهم أناس يعانون مع التعيين والتعنت والتسويف والترقية وضغط الدروس والشغب والاستعداء وكثرة الخصوم.. أغلب الحاضرين كانوا ينظرون ببلاهة بينة ويبحثون بأعينهم عن شيء ما، ربما عن خلاص قادم.. رؤوس شابت وشاخت، وجباه خط بها الدهر أساريره الفاضحة.. مازال العديدون يتقاطرون كأنهم مدعوون إلى حفل ما.. تيه حول الخانات الواجب ملأها، أسئلة غير ذات معنى تدل على الإرث الثقيل من انعدام الثقة في أي شيء، ومن الخوف من كل شيء.. هاتفتُ جمال، الذي يعمل بالخلية المكلفة بصندوق التجهيز الجماعي، رحب بي وسأل عني، قلت له أني وسط أمواج بحر عرمرم من الزوار بمديرية الموارد البشرية.. أطلق ضحكته المجلجلة المعتادة ودعاني لملاقاته لشرب قهوة وترك مهمة السؤال عن ملفي له.. فلقد كلفته بهذه المهمة مرارا وتكرارا منذ غادرت الرباط.. إذ بمجرد ما انتقلت إلى بني ملال، غضب هذا الملف وأقسم ألا يراوح مكانه إلا بزحف الحلزون أو أقل.. فكرت في الأمر مليا وقررت أن أنتظر دوري؛ فلا يجوز أن آتي إلى هنا ولا أسمع شروحات الجالس وراء ذلك الصندوق العجيب – الحاسوب – بنفسي، ولو أن تلك الشروح لا تغني شيئا.. إنما أردت فقط أن يخبروني شيئا معينا، أن أسمع خبرا ربما جديدا.
المنتظرون لا يستسيغون هذا الحال، فبين الفينة والأخرى أسمع ملاحظات معبرة عن عدم الرضا وغياب الثقة والرغبة في الخروج من المكان بلا تأخر.. المكلف بتنظيم الدخول كهل أسمر بدأت علامات الدهر ترتسم على محياه، إلا أنه حافظ على هدوءه وابتسامته الباهتة، وهو يردد هذه الكلمات: "الأرقام من 180 إلى 200، اللي عندو الزيارة، ماشي المالية ماشي التعويضات العائلية". تساءلت شابة ماذا يعني بالمالية فقال: "المالية إن تم اقتطاع مبلغ من المال وأردت معرفة مكان الثقب".. سادت همهمة عوض الضحكة التي أرادها هذا الرجل المرح.. فلقد تكلم عن الاقتطاع! ألم يخش أن يرجمه أحد أو يسبه؟ ما شأننا والاقتطاع؟ نحن هنا للسؤال عن المتأخرات – أسوة بمؤخر الصداق – وليس من أجل الاقتطاع..
جاء دوري، تقدمت إلى الموظفة، أخذت مني الاستمارة، لاعبت أناملها أزرار الحاسوب وناولتني نسخة من آخر قرار.. لم يكن ذلك مبتغاي، شرحت لها الأمر، لم تفهم كثيرا، وضعت خاتما على طلبي وحولتني على رئيس المصلحة الذي قال إن الملف بالمراقبة المركزية للالتزام بالنفقات.. أجبته أنه نفس الكلام الذي سمعته منذ سنة تقريبا.. قال: "على كل هذا ما في الأمر، أدار الشاشة نحوي وأراني تواريخ الذهاب والإياب من وإلى مصلح التأشير على الالتزامات منذ شهر أبريل من السنة الماضية، وقال إنه سيتكلف بالملف شخصيا.. لما التقيت جمال ضحك من هذه الكلمة ونعت الإدارة بأوصاف تستحقها فعلا.. جمال يكره الإدارة رغم أنه وسط ملفاتها.. غادرت المديرية وأنا أفكر في الأمر.. أتتني فكرة أنه ربما علي تأسيس تنسيقية وطنية أدعو لتأسيسها وأحضرها وأناقش حيثياتها وأصوغ بيان تأسيسها وأعتصم وأدخل في إضراب عن الطعام والكلام معا، كل ذلك وحدي، لربما تمكنت بذلك من تحريك هذا الملف الذي ما إن ينصلح وتفك ألغازه من زاوية إلا وظهرت له عيوب أخرى، كأنه امرأة شمطاء قد شاخت وفقدت بريقها..
بقلم: محمد ﯕـيالي