الرقمية ومستقبل الظاهرة الأدبية
يعرف الأدب منذ لقائه بالمعلوميات، سنة 1959، تحولا جذريا جعله يدخل مع التجارب الأكثر تطورا، كمولدات النصوص التخييلية والشعرية والنصوص التشعبية التخييلية أو الخيال التشعبي التي لا تستحيل قراءتها خطيا فحسب، بل وكذلك يستحيل وجودها خارج جهاز الحاسوب. أقول: جعلته يدخل في قطيعة كاملة مع الكتابات التي ظللنا إلى اليوم نصنفها في خانة هذا الفن التعبيري. لأول مرة في تاريخ الفنون قاطبة، يجد المبدع والمتلقي نفسيهما أمام إكراه ضرورة التوفر على جهاز بكفاءات واحدة، بل وأحيانا ضرورة التوفر على برامج واحدة، كما في حالة النصوص المبدعة ببرامج مثل الفلاش أو الشويتش وغيرهما، بمعنى أن أداة الإنتاج صارت تصلح أيضا، بل وضرورية للقراءة. هل يتطلب منا تأمل لوحة تشكيلية أن نتوفر على إطار وقماش وصباغة وفرشاة؟ أو يتطلب منا سماع معزوفة موسيقية أن نتوفر على مجموع الآلات المستدخمة في تلحين هذه الأغنية؟
أبرز مظاهر هذه القطيعة استحالة كتابة وتلقي النصوص الإبداعية الجديدة في السند الورقي لسببين:
الأول: غياب الخطية عبر توظيف الروابط التشعبية؛
الثانية: تحول اللغة – التي ظلت إلى هذه الحقبة – مكونا وحيدا للأدب (لنتذكر تعريفه المدرسي الشائع: «الأدب فن من الفنون الجميلة أداته التعبيرية هي اللغة») إلى مجرد عنصر في مُركب يتألف، إضافة إلى الكلام، من الصوت والصورة، بل وكذلك الحركة. ومعنى ذلك أن المعلوميات جددت صلة الأدب بإحدى حقبه التاريخية المنقرضة في الكثير من الشعوب، والتي باتت تُسمى اليوم بمرحلة «الآداب الشفاهية»، لكنها أيضا أتاحت له أيضا احتضان (الاندماج في؟) فنين آخرين: الفن البصري الذي توجد بداخله أقسام فرعية (نحت، فوتوغرافيا، رسم) وفن الحركة الذي يتفرع هو الآخر إلى شعب كالمسرح والسينما والفيديو كليب.
أمام هذا التحول كان لابد من طرح مجموعة من الأسئلة في مقدمتها طبيعة هذه النصوص الجديدة:
هل هي نصوص أدبية، بالمعنى الشائع للأدب، أم أنها جنس جديد؟ في حالة اعتبارها تدخل ضمن حقل الأدب، نكون أمام إبداع – أصل يُسخر المعلوميات في خدمته، بمعنى أن هذا العلم الجديد لا يشكل سوى أداة في خدمة الأدب، والحال أنه لا يمد الأدب بأدوات التحقق فحسب، بل ويُنتج نصوصا أدبية تضاهي في جمالها وتركيبها النصوص التي يبدعها الأدباء على نحو ما نجد في مولدات النصوص التي يبرمجها جان بيير بالب وغيره.
أم هي «أدب معلوماتي» على نحو ما تسميه المدرسة الفرنسية، على الأقل، التي باشرت التجربة منذ حوالي نصف قرن وتسعى اليوم جادة، بطريقة في العمل بلغت من الجماعية ما جعلها ليست تجربة فريدة في تاريخ النقد الفني فحسب، بل وكذلك شبه مضمونة الثمار على الأقل في الإنجاز النصي الذي تنكب على دراسته ومناقشته، إلى إيجاد منهج نقدي لمقاربة هذا النوع من النصوص. يتعلق الأمر بمجموعة بريدية يتكون أعضاؤها من أكبر عدد من النقاد والمبدعين الرقميين الفرنسيين، يعرض فيها هؤلاء أعمالهم، قبل إطلاقها للتصفح العمومي، على أنظار الأوائل زملائهم في المجموعة، فتبدى إزاءها ملاحظات كما تتعرض لانتقادات، ومن رحم هذه النقاشات يشق المنهج طريقه نحو التشكل.
هذا الاقتراح الثاني الذي يقف على طرف نقيض من الأول، إذ يجعل الأدب فرعا من المعلوميات لا مستفيدا منها ومسخرا لها، يبدو وجيها جدا لأسباب:
- الاجتياح الكبير الذي تمارسه الرقمية اليوم في كافة قطاعات حياتنا، بحيث سيصير وجودنا في مستقبل قريب بهذا القدر أو ذاك وجودا شبكيا وعلائقيا؛
- الاختفاء المرتقب للكتاب – الدفتر، ورقا كان أو رقما، ومعه نمط الإنتاج الذهني الذي ولده هذا السند على امتداد العشرين قرنا الماضية؛ مثلما أتاح الانتقال من الرقعة إلى الدفتر ظهور أشكال جديدة للتفكير وأتاح للخطاب أن يتشكل على نحو مخالف للأزمنة المشافهة، كذلك ستدخلنا الشاشة في دورة جديدة لن يغدو معها الفكر العقلاني الذي انطلق منذ خمسة قرون في أوروبا وهيمن على العالم أجمع؛
- في سياق تحولات كالتي نعيشها تبدو العودة إلى التاريخ دائما مثمرة ليس دائما من منظور كونه يتيح التوقع، ولكن كذلك من منظور أنه شكل على الدوام مسرحا للتطور، فاتساعه يتيح عقد مقارنات بين نقط ومحطات، ومن النقط ما يتماثل، والتماثل يجد تفسيره في جوانب من الطبيعة البشرية إن لم تكن ثابتة، فهي تحتاج إلى مساحات زمنية أكثر شساعة للتحقق، بموجبه تكون مقارنة بُعدنا عن حضارات للمشرق القديم مثل البابلية والآشورية كبعدنا عن الحرب العالمية الأولى أو الثانية؛ بالرجوع إلى هذا التاريخ كانت التحولات تصادف دائما مقاومات، بل كانت تبدو غير مقبولة وغير معقولة في آن؛ في غمرة هيمنة المشافهة والذاكرة، مثلا، ظهرت الكتابة، وكان رد الفعل الرفض القاطع. هل كان ممكنا إقناع رافضي الابتكار الجديد أن ملاحم مثل غلغامش وهوميروس ستدوَّنُ في أوراق البردي؟ الأمر نفسه حصل مع ابتكار مطبعة جتنبرغ في سياق كانت تحظى فيه مهنة الوراقة بسمعة وهيبة... وهذا ما هو بصدد التحقق الآن مع الحلول التدريجي للحاسوب والشاشة والشبكات محل الورق.
يبدو أن في الإنسان أبعادا إن لم تكن ثابتة بالمرة، فهي تتطلب أزمنة طويلة وطويلة جدا كي تتغير أو تمحى نهائيا. من ذلك، مثلا، بعده السحري الذي أتاح تسميته بالإنسان الساحر homo-magus، والديني الذي كان أصلا في تسميته بالإنسان اللاعب homo-ludens، الخ. كان يجب على الاكتشافات العلمية التي برهنت على أن الأرض ليست مسطحة، وإنما كروية، وأنها تدور حول الشمس، وأن هذه الأخيرة لا «تصعد» كل صباح و«تغرب» كل مساء، كان يجب على تلك الاكتشافات أن تلحق تغييرا جدريا بتعابيرنا كأن نقول مثلا: «دارت الأرض من موقع وجودي كذا مرة حول الشمس» لنعبر عن هذه الظاهرة التي لازلنا نسميها «شروق الشمس»، ونقول الأمر نفسه، مع تغيير عدد الدورات (والانحرافات بالزوايا الهندسية)، للتعبير عما نقول له: «غربت الشمس»، ولكن لا شيء تغير إلى اليوم، في أكثر الدول – اللغات تقدما كما في أكثرها «تخلفا». وتظل تمثلات الزمن – الفكري السحري الذي يعتبره بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع أول محطة للعقل البشري، تلته مرحلتا الفكر الديني والفكر العلمي، حاضرة بيننا، بل وفي داخلنا في هذا الزمن الذي ينضاف فيه إلى الإنسان بعدٌ جديد أضاف إليه تسمية جديدة هي «الإنسان الرقمي» homo-numéricus.
ومن هذه الأبعاد بعدا الحكي والشعر. كان الإنسان – ولازال – حاكيا وشاعرا، وكذلك سيظل ربما لأزمنة طويلة.
المصدر :