حكايات الليالي العربية التي لا تنضب وحضورها خارج الزمان والمكان عيسى مخلوف:
تأتي شهرزاد من الشرق حيث تشرق الشمس ومن توق الى المدهش والمستحيل. والحكاية وحدها هي القادرة على اجتراح العالم المتخيل او على الغاء الحدود بين ما هو واقعي وما هو وليد الخيال.. حين بدأت شهرزاد تروي حكاياتها كل ليلة وتفصح عن منابع مخيلتها التي لا تنضب, هذه المخيلة التي استمدت قوتها من المخزون الثقافي للشرق كله, كان الغرب يعيش قرونه الوسطى وتسيطر على ذهنيته فكرة نهاية العالم... ويأتي في الغرب اليوم من يسهر على حكايات "ألف ليلة وليلة" ويتأمل في أقوالها, ويدرس هذا النتاج كأثر كبير من آثار الأدب العالمي والحضارة الانسانية.
وإذا كان أول من جاء على ذكر "الليالي" هو المسعودي ثم ابن النديم فإن اقدم المخطوطات التي وصلتنا من "ألف ليلة وليلة" تعود الى القرن الثالث عشر فقط. وهنا لابد من الاشارة ا لى ان الفرنسي انطوان غالان الذي توفي عام 1715, كان بالنسبة الى "ألف ليلة وليلة" ما كانه العالم الفرنسي شامبليون بالنسبة الى الحضارة الفرعونية. كان هو المكتشف الأول وأول من قدم هذا النص في كتاب وأول من عر ف به الغرب. وقد جاءت طبعة غالان سابقة للطبعة العربية الأولى نفسها التي صدرت في كلكوتا عام 1814 تلتها طبعة ثانية. أما طبعة غالان التي نشرت في فرنسا مطلع القرن الثامن عشر فلقيت نجاحا كبيرا . ومنذ ذلك الحين بدأت تتوالى الترجمات في الغرب ونذكر منها بالفرنسية ترجمة ماردروس وبالانكليزية ترجمات لاين وبورتن وباين وبالالمانية ترجمة ماكس هنينغ وبالاسبانية ترجمة كانسينوس آسنس.
تؤلف هذه الترجمات قراءات متعددة لـ "ألف ليلة وليلة" تتفاوت وتختلف في ما بينها باختلاف المصادر التي اعتمدت عليها وبحسب شخصية المترجم والظروف التي وضع فيها ترجمته. ففي حين قدم غالان نصا أدبيا كلاسيكيا اجرى فيه تعديلات على المخطوط فحذف مثلا بعض القصائد وكتب النص بطريقة تتلاءم وذهنية القارىء الفرنسي في نهاية عهد لويس الرابع عشر, قدم ماردروس ترجمة جريئة اطلق فيها العنان لمخيلته.
واذا كانت ترجمة رينيه خوام الصادرة عن منشورات "فيبوس" أكثر أمانة لمخطوطات "ألف ليلة وليلة" الموجودة في "مكتبة فرنسا الوطنية" في باريس, فإن هذه الأمانة جاءت في احيان كثيرة على حساب الاسلوب الأدبي, وهذا ما حاولت ان تتجنبه الترجمة التي تحمل توقيع كل من الباحث والشاعر الجزائري باللغة الفرنسية جمال الدين بن شيخ والمستعرب اندريه ميكيل وتنطلق هذه الترجمة من علاقة مختلفة باللغة ومن منطق جمالي مختلف.
ونشير الى ان منشورات "غاليمار" الباريسية قد نشرت هذه الترجمة في سلسلة "فوليو" وفي سلسلة "لابلياد" الشهيرة عام 1995 وكان صدورها حدثا ثقافيا بارزا لأن اعداد الترجمة استغرق أكثر من خمس عشرة سنة متواصلة من العمل. ويقول بن شيخ في هذا الصدد: "تركت الترجمات التي صدرت في الغرب لـ "ألف ليلة وليلة" أثرا كبيرا في المخيلة الغربية وفي الأدب العالمي كما لعبت دورا هاما في الحوار الحضاري بين الشرق والغرب".
نشير الى انه بالاضافة الى ترجمات ألف ليلة وليلة صدرت دراسات نقدية عديدة حولها في الغرب منها كتاب بعنوان "الف ليلة وليلة" لجمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل وكلود بريمون وكتاب "ألف ليلة وليلة أو الكلمة ا لمسجونة" لجمال الدين بنشيخ (الكتابان صدرا عن منشورات غاليمار). في هذا الاطار ايضا يجب ألا ننسى دراسة الكاتب الارجنتيني خورخي لويس بورخيس حول ترجمة "الليالي" ولقد صدرت في كتابه "تاريخ الابدية". ويستعرض بورخس في هذا الكتاب مجمل الترجمات الأساسية التي أنجزها مترجمون أوروبيون ويقدم دراسة مقارنة لها ليخلص الى القول إن كل ترجمة هي كتاب قائم بذاته, وهي قراءة محتملة للنتاج يضاف الى قراءات اخرى تجعل من الحكايات المترجمة نصا لانهائيا مفتوحا على تأويلات لا تنتهي. وهذا ما يتناسب, بحسب رأيه, مع روح هذا العمل الأدبي الخالد الذي يحاكي حركة الرمال في الصحراء ولا ينتهي عند حد. ويضيف في هذا الصدد ان عنوان "ألف ليلة وليلة" هو أجمل العناوين في العالم. والليلة الأولى بعد الألف تنفتح على الزمان بأكمله وتفتح باب الحكاية على مصراعيه. والحكاية هنا, وهي شفهية اصلا , بداية القص الأدبي ولها مفعول سحري لأنها تتعرض لأعتى امراض الانسان: السأم, وهي تساعده على التخفيف من عبور الزمن.
هكذا تحولت "ألف ليلة وليلة" اذا الى مادة بحث لا تنضب في الغرب. ولقد بحث جميع الكتاب والدارسون الذين تناولوا حكاياتها في أبعادها التاريخية والجغرافية والنفسية والانسانية, كما رصدوا تأثر الكتاب والروائيين بها خاصة في القرن التاسع عشر. ولا يزال التأثر قائما حتى اليوم ليس فقط في الأدب وانما في مختلف المجالات الابداعية.