لغو ما بعد الحداثة! حنا مينه
الكتابة المعلبة مثل الكتابة السرية, التي تكلمت عليها في مقال ما بعد. ففي زمن الطلسمة, والالغاز, والتحليق الهبائي, الذي يلصقه اصحابه, تجنيا, بالنزعة الصوفية, والحزازير, والفوازير والكلمات المتقاطعة, رائحة ما, اقرب الى رائحة الوجبات الجاهزة التي عنوانها الهمبرغر, والتي هي احدى ممهدات الكتابة الجاهزة, المعلبة, التي لا شأن لكتابها بفهمنا نحن القراء, ما داموا هم انفسهم قلما فهموا هذا الذي يكتبونه, ويسمونه كتابة ما بعد الحداثة.
تقول الشاعرة غالية خوجة, وهي من انصار الشعر الحداثي, بمعناه الاغترابي عن الواقع, وعن اليومي, وعن هموم الناس, في مقابلة اجابت فيها على اسئلة الحداثة قائلة: "لتكون الحداثة حداثة, فان عليها ان تتحرك في فضاء شمولي, فيه تتصادم اشراقات الحاضر, مع اشراقات الماضي, مع اشراقات الآتي, وبذلك تنجز الحداثة اناها المتعالية, الكاشفة والمكشوفة, والتي لا تستقر حتى في الديمومة.. لماذا؟ لانها لا ترغب في الثبات الا في المقامات الجمالية.. انها تتحرر الى فضاءاتها اللانهائىة, راغبة بالانصهار مع اللغة المتعالية, وانا المطلق".
ان الشاعرة غالية من الكاتبات اللواتي نعتز بهن, ومن منطلق هذا الاعزاز رغبت ان افهم ماذا تريد ان تقول في تعريفها للحداثة فلم اوفق, فصدام الاشراقات الابداعية, في الازمنة الثلاثة, امر مفهوم, لكن ما علاقته بالأنا المتعالية, الكاشفة والمكشوفة, والتي لا تستقر حتى في الديمومة!؟" ولماذا لا ترغب هذه الاشراقات في الثبات الا في المقامات الجمالية؟ وما هو تعريف المقامات الجمالية واين تتجلى؟ ثم لماذا الحداثة, ولو كانت تجنح الى الصوفية, تبتعد عن دنيا الناس, برغم "انها تتحرر الى فضاءاتها اللانهائية, راغبة بالانصهار مع اللغة المتعالية, وانا المطلق"؟ لقد سمعنا بتغيير اللغة, وباختراع لغة ثالثة او رابعة, وبتفجير اللغة, الا اننا لم نسمع ابدا باللغة المتعالية, الا ان يكون هذا التعالي على حساب الفهم والتفهيم وهما الغاية من كل كتابة, في كل مدارسها التي عرفها التاريخ الادبي المعروف.
ثم ان المبهم, حتى في ابهامه, لا يدعي هذه اللغة المتعالية, المرتبطة بأنا المطلق, ولا يحو م, في ضياعه المفترض, في الفضاءات اللانهائىة, لانه ليس ثمة فضاءات لانهائىة, فالارض كروية, والانطلاق من احد طرفيها, يعيد المنطلق الى الطرف الذي انطلق منه, ويبقى الرمز, في اللانهائى, من شأن الزمن, ففي الزمن وحده لا نجد نهاية, اما اللغة فانها وسيلة الى غاية, وهذه الغاية, مهما كانت الطريقة التي نستخدمها فيها, فانها غاية بذاتها, لا تكون مع اللغة المتعالية, ولا تتأدى بها, وهذه الشطحات البعيدة عن الايماءات الصوفية, في اقصى مداها, هي شطحات لغو لا شطحات تصوف.
يتساءل آلان تورين, في كتابه "نقد الحداثة" عن ثقافة ما بعد الحداثة قائلا: "أليست هذه الثقافة عاجزة عن الابداع؟ أليست مقصورة على ان تعكس ابداعات الثقافات الاخرى, تلك التي تحسب نفسها حاملة للحقيقة وحدها؟" بلى! هذا هو مؤدى ثقافة لا تبدع, لانها, في حياتها الحديثة, كما كان يقول بودلير, لا ترى, في زيها وفنها, ذلك الحضور الابدي في اللحظة الراهنة, والحقيقة نفسها ليست حقيقة كاملة, بعد ان اثبتت متغيرات عالمنا الراهن, ان الحقيقة نسبية, وفي نسبيتها لا تحملها اية ثقافة وحدها, بل هي ملك كل الثقافات, بما تنطوي عليه هذه الثقافات من الانساق الفكرية.
ان قولبة الثقافة ليست نبتا سحريا, وليست, كذلك, إعشابا شيطانيا, وانما هي انعكاس لسيرورة قولبة العالم, والتي من الصعب ايقافها في المستقبل المنظور, ولانها نتاج اندفاع هيمنة عالمية, متفردة, قادرة, تسعى لان تجعل العالم مصبوبا في قالبها, وتعمل لان تجعل الثقافة مقبولة على الطريقة التي تريدها, وتخدم الجانب الخبيث من العولمة الناشطة في كل مكان, العولمة المتوحشة التي تتفشى, يوما بعد يوم, كبقعة البترول في حوض من الماء, هو الحوض العالمي بكل اتساعه, وثقافة مقولبة, كهذه التي يطبلون لها ويزمرون, هي ثقافة يراد لها ان تكون ثقافة ما بعد الحداثة, التي تزعم انها تملك كل الحقائق, لكن المستعارة, في اسوأ مضامينها, من الثقافات الاخرى الهادفة للتنوير, او المضادة للمشاريع التحررية, والتي, كما يقول المفكر اللبناني علي حرب, تقلب السؤال, وتغي ر الامكان "لانها نزعة غير عقلانية, او تيار فكري مضاد للعقل كما يرى المفكر هابرماس, في تصديه العنيد للاعقلانية ما بعد الحداثة هذه.
انني لا املك الالمام الكافي للتنظير لصرعة ما بعد الحداثة, وارغب صادقا في ان يصير ذلك مستقبلا, لذلك اكتفي, في هذا الموقف, في تأمل افرازات هذه الثقافة, المتمثلة بجوهرانية ماورائية, اي ان جوهرها هو الماوراء, الغيب, لذلك تقول بوجود ماهيات تتوقف على علاقتها بسواها, والعلاقة هنا اعتبار القبض على حقيقة الواقع وهم, والتشكيك بقدرتنا على مقاربة هذا الواقع, او القبض عليه, او حتى فهمه, وعدم الفهم يؤدي الى التيه, والمراد, في آخر المطاف, ان نوقن اننا جميعا في التائهين, العاجزين عن فهم "تعميات" ما يدبرون لنا, ويحيكون لنا من حبائل الاغراء للوقوع في افخاخهم.
ان الاستاذ علي حرب على حق في قوله ان الحداثيين العرب يحيلون الامكان الوجودي الى عجر فكري, وفي رأيي ان هذا العجز يتمثل في الدعوة الى التحرر من اوهام الماضي والمستقبل, وبمعنى آخر التخلي عن معطيات التراث العربي في جانبها المضيء, لانه وهم, ونبذ معطيات العلم في المستقبل لانها وهم ايضا, وفي هذه الحال تنبت جذورنا, فنكون بغير ماض تراثي, وغير مستقبل علمي, وحتى بغير لغة متواضعة, هي سبيلنا الى شرح تطلعاتنا, والحض على ان نكون في العصر, وان نمتلك زمام تقنياته المعلوماتية.
اننا كعرب, لهم قضاياهم الساخنة والخطيرة, نحتاج, اكثر ما نحتاج, الى الفهم, والى الوضوح, والى رؤية الواقع, وكشف ما ينطوي عليه من اشياء حسنة واخرى سيئة, والفهم يتعارض مع الابهام, والوضوح يجانف المعميات, والرؤية, في نفاذها, ضرورية كي نصل الى الحقائق الموضوعية, ونزعة ما بعد الحداثة, التي يروجون لها, تتعارض مع كل ما سبق, وترخي استار الظلمة على شارات النور في طريقنا الى تحقيق غاياتنا, ولابد, حسب علي حرب, من تغيير السؤال, فهذا, لدى ناقد الحداثة وما بعدها, لا يتمحور حول: من أكون؟ وكيف احافظ على هويتي, او كيف اكون وفيا لذاكرتي, مخلصا لتراثي, وانما هو, أي السؤال: "كيف لي ان اتغير عما انا عليه, بتوسيع مساحة الامكانيات وقلب الاوليات؟ اي صيرورة المرء على غير ما هو عليه, وتلك هي المفارقة, ان نقيم على تخوم الزمن" متحررين من عقلية التأصيل والتأسيس!