المتسوّل يعيش في كل البلدان المختلفة ..وفي بعض البلدان المتقدّمة أحيانا _ولو أن التقدم صناعة _وضعا اجتماعيا خاصا ..من المؤكد أنه لا يليق بالإنسان في القرن الواحد والعشرين ،لأن الإنسان ناضل قرونا عديدة ..من أجل أي يجعل ..من الكرامة مكسبا من مكاسب تطوره ..لكنّه حين بلغ هذه القمة في القرن الواحد والعشرين .._وقد تكون مقدمة لقمم أخرى في قرن الألفين _أذهلته اكتشافاته المتواصلة ...والمدمرة بشكل خاص ..فنسي إنسانيته ونسي معها كرامة الآخرين ..وما الانسانية إلا كرامة ..أليس كذلك؟وهل هناك من هو أتعس من إنسان يعيش في دنياه بلا كرامة ..؟
قد يظن بعضكم أن التسوّل هو مصدر هذه الفلسفة ...المتسولة ..إن عنّ لكم أن تسمّوها فعلا فلسفة ..غير أنّي في الواقع لا أريد أن أتفلسف ..فالحديث عن واقع ما يعيشه الانسان في موقع ما ،والواقع موقع ،لا يتطلب أيّ أنواع من الفلسفة ...غير عرض الواقع ووصفه على حقيقته ..!أم تراكم تعتبرون أنّ عرض الواقع_لجهلكم بواقع المتسوّل _ فلسفة؟وعلى كل حال فإني في موقعي أفكر في أشياء ..ما قرب منها من متناولي ومتناولي أهلي وما بعد .. أفكر في هذه الأشياء على المدى البعيد بدون فلسفة..!فأنا في الواقع لست متسولا ..فلم يسبق لي أن شعرت بحاجة إلى التسوّل في أي فترة من فترات حياتي السابقة ...فقد كنت دائما _ والحمد لله _مخلوقا مرزوقا _ ومن ثمّ كثيرا ما شعرت أن اللقمة تكاد تصل إلى فمي ...نعم لست متسولا ..ولست بحاجة إلى التسول ..فلي دار جميلة وكبيرة تحيط بها من جميع الجهات حديقة واسعة .. روضة من رياض الجنة ..!وفيها ما فيها من الزهور والورود الزبانق و..والحور ..ولي متجر كبير ..بفضله استطعت أن أوفر كل ما أرغب فيه ..على اختلاف رغباتي وكثرتها ....ولي في الحقيقة من أراحني من المتجر...بإرادتي المستقلة طبعا .. وهكذا ..وجدت نفسي مرتاحا ...ولا شك أن أغلبكم يفهم معنى الراحة ، فالراحة في نظري.. سياحة ..قد تنشأ عنها رغبة من الرغبات ..والرغبة تتضمن دائما عملا ما....وقد تضمنت رغبتي فعلا عملا ..وأرجوا ألا تعجبوا من هذا ..فكل حركة عمل بصورة من الصور ..وعملي أني كنت أتنزه في أوقات معيّنة ..وطول مدة النزهة يتوقف على ما أتناوله من صنوف الأطعمة .. فهناك أطعمة لذيذة تطبخ بالخشب والبعر ..!ومن يعرف اليوم هدوء جمر الخشب والبعر ...؟رائع هو مذاق الطعام الذي يأتي من النار الهادئة لكل منهما ..كلاهما بداوة ..ونحن _ إلى ذلك _نأكل سخينا وباردا ، ورطبا ويابسا ..وحلوا وحامضا ..وأحب الأطعمة إلينا الحار منها ..لأنه يناسب طبيعتنا ..!!ومثل هذه الأطعمة تتطلب نزهة طويلة ....وذلك ما حدث لي حقا ...فقد قمت يوما بنزهة طويلة ..وشعرت بتعب رهيب ...وذلك أنّي قطعت مسافة طويلة من أجل أن أعرف ..ما يوجد بهذا السوق أو تلك من مواد وأسعار ...وقد علّمني العصر _على مالي من معلومات محدودة _أن أعرف السعر قبل أن أعرف المادة أو البضاعة ..والمعرفة سؤال في سوق من الأسواق ... والسوق عندنا رغبة ...رغبة هذا السمسار أو ذاك وللسمسار في بلدي تاريخ .
لقد ذهبت لأتنزه إذن .. وطالت نزهتي بعد غداء دسم ...دسم جدا ..!وتعبت كما قلت تعبا رهيبا ..فجلست على الرصيف لأستريح وكانت جلستي عادية..لم يكن فيها _فيما أذكر _ما يشير إلى أنّني رجل متسوّل ..ولكن الناس اعتبروني كذلك !وشرعوا يقدمون لي الديناران والخمسة والعشرون ..لا على الترتيب ...واجتمع لدي مبلغا محترما ..عدت به في المساء إلى البيت ، وحدّثت صاحبي عما كسبته دون أن أمد يدي متسولا !فأعجب هو الآخر بالفكرة الجديدة ..فكرة التسول دون مد اليدّ..فكرة الوصول إلى المال بسهولة قصوى !
وعرف صاحبي الموقع بسرعة ..فخاط لي كيسا يشبه الجراب أعلقه في عنقي وأجعله يتدلّى إلى جانبي تحت سترتي...دائما تحت سترتي...._فالعين حقوق_دّم لي صحنا ..من النوع الذي تباع فيه حلوى قلب اللوز ..وما يدخل الصحن طيب كقلب العجوز !فصرت أختار كلّ يوم رصيفا .. أجلس فيه والصحن بجانبي ..لا أدع يومي لغد ..لا أترك عمل اليوم إلى يوم غد..! ذلك أن التسوّل يكثّر كثيري ،ويسمح لي بامتحان إنسانية الناس واكتشاف مدى قدرتهم على الجود والسخاء ...!ولكم أبتهج حين يضع متصدقا عشرين دينارا ..في صحني ويبتعد عني ..ثمّ يقف ليراجع نفسه ..ولعله تذكر الجنة ..أو تصوّر أنه ترك ذنوبه في صحني ، ويعود ليضع خمسين دينارا ليمحو كل الذنوب الباقية ..بالجملة !!
وقد اكتشف أصدقائي.... عملي الجديد ،_ولكلّ منهم سيارته الخاصة يطوف بها شوارع المدينة_ فاحتجوا لذلك ..ولكني استطعت أن أقنعهم بأني أخرج من بيتي مهندما مرجّلا ... معطرا... وأجلس على الرصيف حين أتعب ..واضعا الصحن بجانبي ...لأستريح من نزهتي ..والباقي على الله ...فإذا حدث لك أن مررت يوما من أيامك المثقلة بالذنوب ...بمرتفعات مدينتنا ...فأنا ممن يحب المرتفعات ..ورأيت رجلا جالسا على الرصيف ..فاقترب منه ..فقد تكتشف العطر الذي يفوح منه..وتمدّ يدك إلى جيبك لتساعد بعطائك من لا يمدّ يده في فترة استراحته ...