"لا تحديدية" "دريدا"؛ التفكيكية من منطلق إسلامي
بقلم : مطيع عبدالسلام عز الدين السروري
يقول فلاسفة أو منظِّرو "ما بعد البِنْيَوِيَّة" - وهي فلسفة ظهرت في ستينيات القرن العشرين الميلادي، وصداها أصبح تقريبًا في كل مجالات وفروع الدراسات الإنسانية والاجتماعية المنظمة الحديثة - يقولون: إن نتيجة إثبات وجود الشيء الكلي، عن طريق استخدام جزء من ذلك الشيء؛ لا يمكن أن تكون نتيجةً يعتمد عليها، لأن المقياس - الذي هو ذلك الجزء - غيرُ منفصل عن الشيء المقاس (الذي هو الشيء الكلي)، سواء تكلمنا عن الكون، (الذي هو عالم مادي كلي - وهو هنا أصلاً غير ممكن إظهاره، كما يفلسفون الأمور)، أو تكلمنا عن اللغة (التي هي في الأساس لا تشير إلى أي شيء خارجها، كما ينظرون أيضًا)؛ فالحديث عن اللغة يقتضي استخدام اللغة نفسها للحديث عنها، وبالتالي لا يوجد انفصال بين المقياس والشيء المقاس؛ انظر: الاقتباس التالي:
"إن كلمة كَوْن "universe" هنا، شيء كلي لا يمكن إظهاره، والسبب أن محاولة الإظهار نفسها، لا بد أن تكون جزءًا من الشيء المراد إظهاره.
ونفس الشيء يحدث عند الحديث عن اللغة "language"؛ فالحديث عن اللغة - في أساسه - يقتضي من الشخص أن يتحدَّث عن شيء كلي، تكون العبارة نفسها المعبرة عن ذلك الشيء الكلي جزءًا منه، طالما كانت لُغَوية..."[1].
ولتسليط مزيد من الضوء على هذه الفكرة - كما يتم التنظير لها من قِبَلهم - أقول
إن الحديث عن اللغة - كما هو في الاقتباس أعلاه - يتم من منطلق أن اللغة عندهم لا تُشِير إلى خارجها "non-referential"، (وهذه هي فلسفة دي سوسور).
وأيضًا، المشكلة مع فلاسفة ومنظِّري "ما بعد البِنْيَوِيَّة"، هو أن الإشارة لشيء كلي - في نظرتهم - غير ممكن إطلاقًا؛ بسبب ما أطلق عليه "جاك دريدا" - فيلسوف التفكيكية - وكما ترجمه عبدالوهاب المسيري - أحد النقاد العرب - بـ "الاخترجلاف": "difference"؛ وهذا "الاخترجلاف"، هو دمج لكلمتين هما اختلاف وتأجيل؛ أي: إن المعنى يختلف ويتأجل في نفس الوقت، حيث من المستحيل معه الوصول إلى تثبيت معنى واحد، أو "مركز واحد"؛ أي: استحالة "التحديد" أو الـ"لا تحديدية undecidability".
والمعنى هنا فلسفي أكثر منه لغويًّا عاديًّا وإن بدا كذلك.
و"الاخترجلاف" - كما قال دريدا - هو ضد الميتافيزيقيا أو "عالم ما وراء المادة" (metaphysics)؛ وهذا "الاخترجلاف" يمكِّن - بحسب فلسفة دريدا، وإن كان يصر على رفض تسميتها بفلسفة؛ لأن تنظيراته أصلاً تعمل على تفكيك الفلسفة الغربية كلها - من تفكيك الميتافيزيقيا، ثم بعد ذلك يجب مسح أو شطب "الاخترجلاف"؛ لأنه لا وجود لمركز أصلاً (أو لمعنى مركزي واحد)، (وإذا لم يتم مسحه أو شطبه، فهذا يعني تشكل مركز آخر؛ أي: معنى مركزي آخر، وهو ما يعمل التفكيك ضده في الأساس)، وما استخدامه لتفكيك الميتافيزيقيا - كما يقول - إلا شيء مؤقت؛ لأنه لا توجد أداة غير ذلك للتفكيك.
باختصار: إن تنظيرات دريدا على وجه الخصوص، تصبُّ كلها في محاولة نفي إمكانية وجود مقابل لما نطلق عليه - نحن المسلمين - "الدنيا"؛ فالمحاولات السابقة مع كلمتي "كَوْن" و"لغة" هي محاولات لتبرير عدم وجود "شيء كلي".
إن سبب محاولات الـ "ما بعد بِنْيَوِيين" - وعلى رأسهم دريدا - نفيَ وجود "شيء كلي" - كما أراه - هو أنهم إن اعترفوا بوجود "شيء كلي"؛ فإنهم يُصبِحون مضطرِّين أن يبحثوا عن مقابل له، حتى يتضح معناه بِناء على قانون "الاختلاف" - اختلاف التمايز بين الأشياء - وإن كان ذلك الشيء الكلي هو "الدنيا"، فسيُصبِح عليهم الاعتراف بأن مقابل ذلك هو "الآخرة"؛ وهذا شيء لا يمكنهم الاعتراف أو الإيمان به "استكبارًا في أنفسهم"؛ لذلك تجدهم يَسْعَون جاهدين إلى نفي إمكانية وجود "شيء كلي"، كمحتوى لكلمة "كَوْن".
وهنا أقول: إذا تم قصر موضوع المقياس والشيء المقاس على إطار الدنيا هذه فقط لا غير، فستصبح تلك الفلسفة أو التنظيرات صحيحة، وهذا أمر لا نؤمن به نحن المسلمين، الذين نؤمن بالله - سبحانه وتعالى - وبـ "الغيب"، وبأن هناك "آخرة"، وهي معرفة جاءت للناس كافة - بلا استثناء - من خارج إطار هذه الدنيا، عن طريق الوحي على سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولإيضاح معنى "اختلاف التمايز" - كما أفهمه - سأورد مقتطفات لما قاله أبو حامد الغزالي - رحمه الله - ثم أعلِّق عليها شارحًا لها، وأختم الموضوع ببيان الفرق بين المقياسين: "اللاتحديدي" التفكيكي والإسلامي.
يقول الغزالي - رحمه الله -: إن "مَن مالَ إلى العاجلة، وآثَر الحياة الدنيا، وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة، فعليه أن يعرف أولاً أن الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف ثانيًا أن الآخرة أبقى؛ فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفةٌ ثالثة، وهو أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين"[2].
أقول: نلاحظ أن الغزالي كان واعيًا لمسألة المعرفة بالاختلاف - اختلاف تمايز - (حتى وإن لم يصرِّح باللفظ نفسه)؛ فالأساس عنده - كما نلاحظ في الاقتباس أعلاه - هو اختلاف البقاء عن الزوال، "والتضمين هو واختلاف الزوال عن البقاء أيضًا - الشيء الذي يبقى، والشيء الذي يزول - فالذي يبقى يُؤْثَر؛ فالإنسان يعلم هذا في إطار الدنيا نفسها من خلال الأحداث الحياتية، (وهذا - كما أسميه - مستوى حسي معيشي جزئي)؛ فمثلاً: الشيء المصنوع جيدًا، ومن مواد تبقى طويلاً، يفضَّل على الشيء المصنوع من مادة سريعة الزوال (بالمقارنة بالشيء الجيد).
ومن خلال مثل هذه الأحداث - أي: انطلاقًا من هذا المستوى - ينتقل الإنسان (بما أعطاه الله - سبحانه وتعالى - من مقدرة على التفكير والتفكر) للدنيا نفسها كأحد طرفي اختلاف (وذلك بمقارنتها بالآخرة)، (وهذا أيضًا - كما أسميه - مستوى عقائدي مصيري كلي)، وهنا تكون المعرفةُ بالاختلاف أيضًا - اختلاف تمايز: اختلاف الدنيا عن الآخرة، واختلاف الآخرة عن الدنيا؛ أي: إن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر، وهنا - كما يقول الغزالي - الإيثار يكون للأبقى على الذي يزول؛ (أي: على العاجلة)؛ أي: للآخرة على الدنيا.
وأضيف هنا: أن ما يمكن الإنسان من القياس - وهو قياس نسبي على كل حال - في إطار الدنيا، هو اختباره للأشياء بالتجرِبة والعقل:
أولاً: ملاحظته للاختلاف - اختلاف تمايز - بين شيئين أو أكثر عن طريق الحواس.
ثم ثانيًا: اعتماده على مقدرات التفكير عنده التي زوَّده الله - سبحانه وتعالى - بها في أفضلية إحداهما على الآخر.
أما ما يمكِّن الإنسانَ من معرفة أن الآخرة هي الطرف المختلف عن الدنيا، فهو القرآن الكريم الذي جعله الله هداية للناس في الدنيا؛ أي: إن مقياس الإنسان للمعرفة في حالة تفضيل الآخرة على الدنيا هو القرآن الكريم (والتضمين - بعد ذلك أيضًا - هو عقل الإنسان، ذلك بما وهبه الله - سبحانه وتعالى - له من مقدرة على ذلك)، وهذا يمكن أيضًا استنتاجه من كلام الغزالي التالي:
"أكثر الناس منعوا الزيادة في العلوم؛ لفقدهم رأس المال، وهو المعارف التي بها تستثمر العلوم، كالذي لا بضاعة له، فإنه لا يقدر على الربح، وقد يَملِك البضاعة، ولكن لا يُحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئًا، فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم، ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها، وإيقاع الازدواج المُفضِي إلى النتاج فيها"[3].
فعند الغزالي - كما نلاحظ - المعرفة (على المستوى الحسي المعيشي الجزئي) رأسُ مال، ولكن أيضًا حسن الاستعمال لها (على المستوى العقائدي المصيري الكلي) مهمٌّ كرأس المال نفسه سواء بسواء:
فمن الناس مَن يحرم رأس المال (ربما بإمكاننا أن نقول: كما هو حال كثير من المسلمين اليوم في بلدانهم على هذا المستوى).
ومنهم مَن يحرم حسن الاستعمال مع وجود رأس المال (وهنا ربما بإمكاننا أن نقول: كما هو حال كثير من الغربيين اليوم في بلدانهم على هذا المستوى)، وكلاهما خاسر في تلك الحالات.
الغزالي هنا كان يفرِّق - كما قال مالك بدري[4] موضحًا كلام الغزالي - بين التفكير المادي والتفكر:
"ويوضح الغزالي في ذلك الفرقَ بين التفكير المادي والتفكر، بقوله: إن الإنسان قد يحرم من العلوم التي تأتي عن طريق التفكر؛ لأنه لا يملك المعارف الأولية التي تساعده على التفكر، فلا يستطيع أعرابي جاهل مثلاً أن يستثمر تفكرًا مفيدًا في موضوع مكونات الذرة من إلكترونات وبروتونات، كذلك لا يستطيع مَن لا يعرف الله أن يتفكر في هذا الموضوع، حتى وإن كان متخصصًا في الفيزياء".
إذًا التفكر عند الغزالي يحتاج معارف أولية - أي رأس مال - بدونها لا يمكن التفكر؛ (أي: لا يمكن الاسترسال في التفكير)، فمَن لا يعرف مكونات الذرة لا يستطيع أن يسترسل في التفكير في هذا الموضوع، ومَن لا يعرف الله لا يمكن أن يتفكر في الله (حتى وإن كان متخصصًا في الفيزياء).
إن مكونات الذرة يمكن أخذ معارفها الأولية - رأس المال - من سنن الله في الكون المادي الموجود (المستوى الحسي المعيشي الجزئي)، ولكن معرفة الله ومعرفة الآخرة - رأس المال الإلهي - لا يمكن معرفتها إلا من خلال الوحي الإلهي (المستوى العقائدي المصيري الكلي)، عندها فقط يمكن للإنسان أن يتفكر في الدنيا والآخرة.
بهذا يمكن القياس (ويمكن للإنسان استخدام مقدرات التفكير لديه) وهذا التفكر - سواء من قِبَل الغزالي، أو من قبل مالك بدري، أو من قبلي - هو ناتج عن المعرفة القرآنية (أي: ناتج عن اعتقادنا في الله - سبحانه وتعالى - وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم -)، التي هي المقياس الذي نقيس به الأمور - كمسلمين - (على المستوى العقائدي المصيري الكلي)، ولا يمكن للمسلم أن يتخلى عن هذه المعرفة، وإلا فهو وغير المسلم سواء.
وهذا المقياس الإسلامي هو مقياس خارج عن إطار الدنيا كلها؛ "لأنه من عند رب العالمين"، ولا يمكن الادِّعاء بأنه "جزء من كل"؛ (أي: من كلٍّ لا يمكن إثباته أصلاً، كما هو عند أولئك الفلاسفة الغربيين)، حتى يمكن التشكيك في صحته، أو حتى يتم القول عنه بأنه "لا تحديدي تفكيكي"؛ والله أعلم.
[1] Edgar & Sedgwick (2002). Cultural Theory: The Key Concepts. Routledge، London، p 207.
[2] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الرابع صفحة 388؛ نقلاً عن كتاب "التفكر من الشهادة إلى الشهود: دراسة نفسية إسلامية"؛ 1415هـ/1995م، مالك البدري.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/1080/44773/#ixzz2H7u41nEq