ضيق متعب يشد أضلاع صدري إلى الداخل.. خيبة كبيرة أحسها دوامة عنيفة انداح فيها بيأس، والعينان الآسرتان في وجه أختي تلوح فيهما سخرية حادة..
هناك لم أكن هكذا.. وأحلامي كانت تقطع كل المفازات وتتحدى جبالاً وتلالاً وسهوباً، وتظل في إطلالة عالية كصهيل الجواد المتمرد وقد حطم عناد قمة..
أشعر اليوم أنني انتهيت من حيث كان علي أن أبدأ.. إنني عاجز تماماً عن قلب مفهوم بدايتي ونهايتي في مدينتي هذه الكبيرة التي أضاعتني.. أنا لست بطلاً فيها..لست شيئا
هناك ربما يقولون عني أنني بطل، ولكن للبطولة هنا مفهوماً آخر، لا أصلح له وفي رأسي هذه الأفكار التي تومض بشدة..
مدينتي بدأت تخيفني.. تثير الملل في نفسي.. تشعرني بضياع كبير لا أجد منفذاً للتخلص منه، لم تكن هكذا قبل أن أعزم على المغادرة إلى هناك.. كانت في نظري عجوزاً فاتنة،
لم أكن أعرف حقيقتها قبلاً.. كنت ألتقي بعض أناسها وأنا في طريقي إلى العمل ..أجدهم في أحد الأماكن أو ألقاهم مجتمعين في المقهى يقتلون الوقت في الثرثرة، كان يظهر لي تصرفهم
هذا تسلية ما بعدها تسلية....لم أكن أبدا لأجلس معهم ..في ذلك الفراغ الآثم ..
أخطأت في تدليل نفسي.. هذا ما أدركته الآن، وكذلك أمي، وأختي ، والمدينة التي أثارت فيّ هذا الملل تُذكّرني ببداية سابقة مضادة في المفهوم والمسار الذي سلكته.. كان ذلك بداية وعيي حقيقة المدينة وحقيقة الحياة وسيتضح ذلك أكثر في اليوم الذي أغادر فيه مدينتي إلى الخطوط الأمامية على الحدود
البداية.. يوم وقف والدي الكهل بقامة منتصبة في المحطة قبل أن أصعد إلى القطار، يشد على يدي ويقول: هذه الأرض قد رعتك يا ولدي حتى أصبحت هذا الرجل الذي يقف أمامي، لقد كان لي قبلك شرف أداء خدمة العلم، وكنت دائماً أعرف واجبي، وعليك أنت أن تعرف واجبك في حياتك الجديدة.
وسار القطار.. وأنزويت في مكاني أفكر في كلمات أبي.. كان قبلاً يدللني بكلمات رقيقة، لكن لم يجعلني أبدا في وجودي أحمل معنى سعي لا مبالٍ انطلق فيه متواكلاً ..حملته بنفسي أنا ظلمتها وغررتها...!، كنت أتوقع أن يعانقني ويقبلني بحنان ويبكي ويقول: حاول أن تعود نفسك على حياة الجندية يا ولدي.. إنها حياة قاسية ولكنها ستنتهي..
لكنه لم يفعل شيئاً من هذا.. لقد قال كلماته تلك وربّت كتفي بهمة شاب معتد بقوته..
شعرت باعتزاز كبير.. شعرت بدماء حارة تتدفق في عروقي ورأسي، وبقلبي يكبر ويكبر حتى خيّل إلي لحظتها أن في وسعي أن أوقف القطار بسبابة يدي.
في المعسكر.. قالوا في الأيام الأولى أنني جندي جبان.. إهانة قاسية كأنها ضربة مطرقة هائلة ارتج لها كياني، وزاغت عيناي فبدت أمامهما الرؤى باهتة مهزوزة.. وانزويت في (البلوكوس) افتش عن الجبن في ذاتي، فلا أجد له ظلاً سوى انطوائي على نفسي، واجتراري ذكريات المدينة، والجامعة ، العمل القريب ، ، وشلة الرفاق،وأصدقائي في منتدى التخاطب وتلك النصوص التي أكتبها دائما..
ووجدتني حبيس ذاتي.. حبيس هذه الذكريات التي ما تنفك عني فإذا أنا أدور معها.. وادور.. وأدور.. جندي جبان!!.
أنا لم أخض التدريب بعد.. ولم يعجم عود شجاعتي، فلماذا الإهانة؟ حاولت جاهداً أن أقنع رفاقي بأنني لست جباناً، وأن تهمتهم باطلة، ولكني عبثاً كنت أحاول.. وأدركت الفرق بين حياتي في المدينة وحياتي في الخطوط الأمامية..
في المدينة كان الناس يردّون بتزييف الحقائق.. باجتراح موهوم يبدونه بانتقال أمام الكاذبين والحاسدين، فيصدق الناس بعضهم بعضا.. صديقي كانت يفعل هذا.. كانت يقول للمدير في العمل عندما يسأله كم يقدر له من العمر: لا أظنك تتجاوز الثلاثين... فتشيع ابتسامة رضى عريضة على وجهه طيلة الجلسة، حتى إذا انصرف، وثرى على مراءاة صديقي، ربّت خدي بيده وهو يقول: أنت لا تعرف الحياة بعد.. يجب أن تساير الناس حتى تستطيع أن تعيش بين الناس.
وأظل في انطوائي، أحتل ركناً منزوياً في البلوكوس وأنا سادر مع ذكرياتي في المدينة، أجترها مع جرعات الشاي الأسود الثقيل، وتلك الكلمة (جبان) تصطرع في نفسي بعنف وأنا أنظر إلى وجوه رفاقي الجدد: سعيد، وفاتح، واسماعيل، وسليم القصير ذي السحنة الصفراء والأسنان الكبيرة وهو يضج في المكان..
كم كرهت هؤلاء في اول عهدي بالمعسكر.. شعرت بخيوط النقمة تتدافع من كياني ليلتف كل منها على واحد منهم، وكان الخيط الذي يلتف حول سليم أغلظ الخيوط، وأشدها قسوة، وأقدر على عصر رقبته.
-. جبان.. جبان..
وصحت به: لماذا يا سليم.. لماذا تهينني؟
-. جبان.. جبان.. جبان...
لم اكن أتصور أن لكفي كل هذه القوة إلا عندما رأيته يتداعى على نفسه ويسقط.. ولولا أن أنقذه مني العريف ناصر في اللحظة الأخيرة لاجهزت عليه..
قال الملازم آمر السرية: لماذا ضربت رفيقك؟.
-. ....
_. قلت لك لماذا ضربته؟.
-. لأنه أهانني..
-. ماذا قال لك؟.
-. قال أنني جبان
-. ولكنك أخطأت في تصرفك.. سأرفع تقريراً بسجنك ثلاثة أيام مع طلب الزيادة، وحاول أن تكون ملتزماً مثل رفاقك.. أنت تتهرب من التدريب، وتتمارض، ولا تحاول أن تتسلق التل معهم، وتدعي دائماً أن حذاءك غير مريح، وتلح في طلب الإجازات لزيارة اهلك.. هذه الأمور كلها، وأن كانت لا تدل على الجبن الحقيقي إلا أنها ليست من صفات الجندي.. هل فهمت؟. اذهب الآن وحاول ألا تثبت لي ما ينعتك به رفاقك...
وأصبحت بطلاً..
قال لي كل من في القطاع: (( أنت بطل )).. كان أولهم سليم.. وعبثاً حاولت أن أقنع رؤسائي ورفاقي بأنني لست بطلاً، وبأن ما قمت به يستطيع أن يفعله أي واحد منهم.. لقد أسكتوني غير مقتنعين.. وقال الملازم وأكد على ذلك النقيب : لا شك أن كل اخوانك الجنود بواسل شجعان، ولكن للبطولة معنى مختلفاً في الميدان.
كان آمر السرية قد قال لنا في اجتماع مفاجئ: أمامنا عمل خطير يجب أن يتم.. يجب أن يتطوع أحدكم لتمشيط الغابة ..
(( كانت الغابة عقدة مواصلات العدو تلك الجماعات الضالة أخزاهم الله))..
وفي صباح اليوم التالي كانت مهمتي حديث الخطوط على طولها..
وأصبحت سعيداً.. كدت أخرج من جلدي فرحا عندما أثنى علي الملازم وقرأ على الجنود ثناء القيادة أيضاً..
وبعدها تكامل ايماني بالقيم الحقة، وكفرت بفلسفة صديقي، وألف ألف واحدة من أمثالهما.. الحقيقة وحدها أقنعتني بأنها فوق التهم الباطلة..
كنت آنذاك أكثر سعادة، وفي عروقي كنت أستشعر استمراراً حاراً لتوثب دافق، كنت أشعر بنفسي أكاد الأمس حدود المطلق من السعادة عندما أتمدد بثياب الميدان على العشب، وجهي إلى الأرض، أمرغه في قطرات الندى الباردة اللامعة على السوق الصغيرة، وذهني صافٍ خالٍ من خواطر المدينة التي عدت أحياها اليوم واقعاً متعباً يجعلها تتسلق جبهتي بضنك، ثم تتساقط كالعقارب
مدينتي كلها، العجوز الفاتنة.. أصبحت أمامي عجوزاً مريضة، وأنوارها التي كانت تبهرني في الأمسيات الدافئة، أصبحت بدورها كومة من عيون عفاريت وقحة تتراقص بجنون فوق الواجهات، أو تجثم ببلادة على أعمدة طويلة. وشلة الأصدقاء.. ندماء الجامعة.. أصبحت لا أذكرهم.. أصبحت غريباً بين أولائك الأفراد.. بدأت أحس بسكاكين تمزقني في قهقهاتهم الجوفاء وهي تنفجر في وجهي حمقاء بلا رجولة، كلهم بدوا أمامي ضائعين في ثيابهم وفي أشيائهم الأخرى الصغيرة..
لماذا يضيعون عن الحقيقة؟. لماذا لا يتخلون عن فلسفة صديقي؟.
يقول صديقي وهو الذي كان يفاضل لمدة ساعة بين أنواع السجارة: إسمع يا بطل.. لولا أن أبي دفع لي بدل الخدمة نقوداً لسبقتك إلى هذه البطولة، ولكن حظك أقوى من حظي..
وأسأل نفسي: هل أنا مريض؟. ألم أعد أصلح للحياة الاجتماعية بين الناس؟.
وأتذكر قول صديقي: ((يجب أن تساير الناس لكي تستطيع أن تعيش بين الناس ))..
ولكن.. لماذا لا يسايرني الناس بدل أن أسايرهم؟. أنا عرفت الحقيقة وهم غافلون عنها، فلماذا اشد نفسي إلى الأرض بكلمة انهزامية: مسايرة؟.
يا مدينتي.. سأرحل.. إلى هناك.. لا أريد أن أؤمن بعد اليوم أن الشمس يمكن أن تكون باردة في خط الإستواء.....وسأكتب خواطري من داخل تلك الثكنة ...وأبثها إلى أصدقائي في منتدى التخاطب....سأكتب دوما أن الدنيا فيها أصدقاء جدد..