مددت بصري إلى البعيد.. إلى حيث تصطدم الهضاب بالأفق المقفر..
إلى تلك النقطة.. التي تلاقت بها الروابي السمر مع زرقة السماء المختفية خلف تلال أشحبها غبار المدينة.
من حاضري المضطرب بدأت أناجي ماضيّ.. وقد عصمت عينيّ عن رؤية المستقبل.
المجهول..الذي يختفي خلف هذا الأفق المتعرج، الذي رسمته التلال الصاعدة والهابطة دون أي نظام.
مشاعر متضاربة ومتفاوتة في الشدة، تركها في صدري هذا اليوم الشتوي المعربد.
الغيوم السوداء، تبشر بليلة ممطرة.. والجبال الجرداء تستجدي منابع الغيث أن تأتي.
غرقت وحدي في لحظات الدفء.. وأنستني الراحة التي أنعم بها للحظات،أنستني هموم الحياة.
الريح الحرون، هزت أشرعة النوافذ، ولسعت وجوه المارة بفيض برودتها.
تساءلت باسترخاء: أيستطيع الإنسان أن يحيا بمعزل عن الآخرين؟؟ ولكن تعبي الأصم أسكتني، وكبّل حركاتي تاركاً سؤالي بلا جواب. الأيام الطويلة التي عشتها، فتحت عيناي على أمور كثيرة لم أتبينها من قبل.
ازدادت الرياح شدة، فطردت السحاب، بعد أن نهشته وشتتته ومزقت خيوطه.. فتلاشى دون أن يخلف وراءه شيئاً من المطر.
غضبت وأنا أرى العاصفة تقضي على كل شيء.. تدمر وتخرب، وتترك الأرض ظامئة.
الدفء الحنون، أعادني من جديد إلى سكينتي.. فاكتفيت بمراقبة الكون من خلال النافذة العريضة الممتدة أمام ناظري.
منذ مدة طويلة.. لم أعد الأحداث تعنيني، وكأنني مسافر في قطار سريع.. أطل عبر النافذة إلى المشاهد المتتابعة بسرعة عجيبة.. يصعب معها تحليل ما أرى.. وسرعة القطار تجعلني أرى الأشياء متشابهة.. متعاقبة.. مكرورة.. لا يحمل أحدها، ما يثير الدهشة، أو يرضي الظمأ إلى شيء جديد..
أسعدني دور المراقبة المحايدة.. أمثله على مسرح الحياة..
أرى، وألمح، وألاحظ.. ولكنني لا أحاول أن أتعمق في الأمور لأصل إلى مغزى الوجود.
فأنا آخذ ما يأتي- كما هو عليه دون الدخول في التفاصيل، كمن يرى الحياة معروضة على شاشة "تلفاز" لا يملك جهازه.. بل يراقب ما يجري من خلال نافذة كبيرة، تفصل بينه وبين جيرانه.
ارتحت لهذا الدور المسلي.. فبدوت مستسلما تملؤني الغبطة وقد عقدت مصالحة مؤقتة بيني وبين العالم.
لن يدفع بي حب الاستطلاع من جديد إلى استجلاء مضامين الأحداث.
سنوات طويلة مشحونة بالأحداث الغريبة عشتها وكانت كافية لرفع الأسوار بيني وبين العالم الخارجي..
لذا.. أصرّ على أن أضيف في كل صباح سوراً جديداً.. حتى غدوت بعيدا عما يحدث في المجتمع، ولكن.. هل حققت سعادتي؟
تركت هذا السؤال معلقاً في الفراغ.. لا يلقى جواباً.. فالجواب بحاجة إلى إعمال الذهن.. وأنا حريص على ترك رأسي في حالة عطالة. فلماذا أفقد دماغي الفوسفور المختزن فيه؟
نعم.. سأوفر هذا الفوسفور إلى الأوقات العصيبة.. وربما لن تأتي تلك الأوقات أبداً..
وحين حاول الشك أن يتسلل إلى روحي.. أمسكت بيدي سوطاً، وهويت به على جسدي الشوكي، فطردته قبل أن يتسلل إلى سريري.. أستمرّ في مقاومته، فاغتلت القلق.. فغرفتي لا تتسع لتلك المشاعر السلبية.
امتلأ رأسي بالاستسلام والاطمئنان.. واحتفظت بظل ابتسامة على شفتيّ.
ولكن سؤالاً خبيثا فاجأني..
هل أصبحت قدريا إلى هذا الحد؟؟
وجاء الجواب على هذا السؤال سريعاً لا يحتاج لأي عناء:
-نعم.. صرت قدريا.. أدركت تلك الحقيقة قبل سنوات، وأحسست أني تأخرت في معرفة هذه الحقيقة.. التي انجلت أمامي بوضوح، حين تأملت حياتي الماضية فوجدت -ولسوء الحظ- أني لم أختر شيئاً من هذه الحياة.
كنت أجد نفسي في كل مرة أمام مفارق الطرق.. وفي كل مرة كنت أشعر بأيد خفية تسحبني صاغرة، وتمضي بي إلى حيث تشاء..
همست لنفسي من جديد: يا ترى.. لو رجعت إلى نقطة الصفر.. ماذا كنت سأختار؟؟
وجاءني الجواب لا لبس فيه ولا غموض..
سأرفض كلّ ما مرّ بي.. نعم سأرفضه بكل ما فيه.. بنيت حياتي على أوهام كاذبة.. كأجنة خارج الأرحام.. من اللاحقيقة صنعت حياةً، وها أنذا.. أعانق الوحدة والاغتراب..
هاجمتني قوة جديدة.. انتزعت نفسي من أحضان غطائي الدافئ.
قست بقدميّ الحافيتين ممرات البيت جيئة وذهاباً.. هزتني ثورة غضب واحتجاج.. أشعلت كل ما سكن في روحي من مواجع.
لم أجد أمامي مخرجاً سوى ارتداء معطفي "الأحمر القاني".. بسرعة جنونية، غادرت المنزل، وقد غطيت عنقي بشال سميك.. حملت معي مظلتي السوداء.. وهرولت في الدرب وأنا أحمل همومي، ونوبات جنوني إلى حيث يتواجد الآخرون.......قصدت الشاطئ وقفت على صخرة تعانق بحرا ...ممتدّ...في زرقة كلها أمل ....تلك الصخرة..أيضا تحكي همومها للبحر أنها تحكي همومها في سكينة عجيبة ....والبحر ينصت بعجب...ثم يمدّ موجه كيدٍ حانية ..وينعش الصخرة بقطرة الحياة التي تذهب بحرقة الهموم..وقفت أنظر وأعجب...انتبه لي البحر حرك موجه برفق ..فأصاب حذائي ..وطرفا من سروالي ...كأنه قال لي تكلم ...احكي...القي همومك في صدري ....فأنا أوسع ممّا تضن .....تبسمت ...وتنهدت بسعادة ...أحسست برعشة الحياة...اختلطت مع النسيم البارد في هذا اليوم...وضعت يديّ في جيبي ..ووقفت أنظر إلى الأفق البعيد...والصخور تلمع تحت أشعة الشمس الضعيفة...وكأنها تبتسم للحياة ..وتحيّني...وتنادى بنغمة الموج: ابتسم أنت أيضا...دائما تشرق الشمس ..مثل اليوم ...