أحلام ......بنفسجية ..سأحققها..!!!!
شكراً لك يا رب...
نطقت بتلك العبارة، وأنا أشعر بإيمان عظيم يملأ قلبي، ويروي عروقي.
قبل دقائق فقط، أنهيت صلاة الفجر، وتلوت آيات من القرآن الكريم، وأدعوا لجدّتي والذين رحلوا من أقاربي وأصدقائي.. مكتفياً بالقول: "أنتم السابقون، ونحن اللاحقون".
اعتدت أن أتوقف عند كل عبارة قرآنية، محاولاً تفسيرها مستخدماً ما جمعته في رأسي من ثروة لغوية.. وثقافة عامة.
أقف عند كل كلمة لحظات طويلة ثم أنتقل بعينيّ إلى الكلمة الأخرى.. ثم أهمس لنفسي قائلاً: إعجاز!! نعم إن هذا القرآن لمعجزة كبيرة.
رعشة خفية تسللت إلى جسدي ...... الذي ينضح بالصحة والعافية بفضل الله.
طويت سجادة الصلاة، وأنا أردد آياتٍ كنت قد حفظتها وثبتت في رأسي لا تبارحه..
البيت غارق في السكون.. تنقل بخطوات لطيفة.. لئلا أوقظ أحداً من أفراد بيتي.
خرجت إلى الشرفة ......
جلست على الكرسي المخصص لي أبي بسنادته الجلدية.. وشعر بتلك الاهتزازات المريحة للأعصاب، فاستسلمت لها بعد أن أغمضت عينيّ.. ثم فتحتهما فأعجبني لون الخيمة البرتقالي.. ثم مدّدت بصري فوقعت عيناي على مشاهد متباينة.. ثم استقر ناظري على الهضاب المتماوجة والمتعانقة باستكانة واطمئنان.
الحمد الله مرة أخرى.. وأصغيت بانتباه وحب كبيرين إلى زقزقات العصافير المختفية في شقوق الجدران، وبين أغصان الأشجار.
أحس أن العالم جميل جداً.. وأن الحياة جديرة بأن تعاش فبدأت ألهج بعبارات الامتنان والشكر لعظمة البارئ.. مما جعلني أبدو صغيراً وضئيلاً.. أمام العظمة الإلهية. شعرت برعشة خفية، فانكمشت في مقعدي.
تحسست جلدي بأصابعي ......، فأدركت في مساماته تلك القشعريرة التي غطت ذراعيّ، وامتدت إلى قلبي.
مددت بصري إلى الحقل المجاور.. وقست بنظراتي مساحة السياج المحيط به.. رأيت الورود الملونة قد تطاولت وعانقت السور فحولته إلى شريط مفوّف ومتجانس يشد بعضه أزر بعض.
نسائم الصباح اللطيفة، لامست وجهي .... رفعت رأسي إلى السماء.. ففوجئت بزرقتها الصافية الخالية من أي شائبة.
شكرت ربي مرة ثانية وثالثة على نعمه التي أنعمها عليه.
وتساءلت: أأسكن أنا في تلك البقعة الجميلة؟
رجع بذاكرتي سنوات.. وتركت للصور حرية التتابع أمام عينيّ خيالي الجامح.
انتقلت نقلة سريعة ومفاجئة، وكأنني عاد إلى نقطة الصفر..
رجعت خلال لحظات إلى فراشي المحشو بالخرق البالية.. والذي كنت أتقاسمه مع أخي.. وفي النهار أطويه فينقلب إلى مقعد مريح، أغطيه بملاءة.. لأستقبل عليه أصدقاء الطفولة.
في هذا الفراش العتيق، عرفت برودة فصل الشتاء، فاحتميت من قسوته بالالتجاء إلى أخي، ومعانقته.. والالتصاق بظهره، وكان الثاني لا يتأفف من أخيه الأصغر بل يتركه على حاله وكأنه يدرك جيداً سرّ تلك الحركات الطفليّة البائسة.
الهواء البارد يتسلل من شقوق النوافذ.. ومن تحت الأبواب ويصل إليّ.
أياماً عصيبة عرفتها في صغري أيضاً، وأنا أدرك ذلك الفرق الشاسع بيني وبين صديقي أحمد.. الذي كان يقطن في البيت المقابل لبيتي.
أمتارٌ معدودة، تفصل بين البيتين.. ومئات الفروق تبرز واضحة بين حياتي وحياة أحمد.
أحمد ينام على سرير نحاسي أصفر.. ويغطي جسده بلحاف سميك وغطاء صوفي.. ويستند برأسه إلى وسادة صنعتها أمه كما حدثه أحمد ذات مرة من ريش النعام.. حين لمستها وجدتها ناعمة كالحرير.
بيت أحمد واسع وعريض.. له فناء كبير تتوسطه بركة ماء تسقسق وتحاور أشجار البيت من ليمون، ونارنج، وبرتقال، وتناجي أزهاره من ياسمين أبيض وأصفر وزنابق ملونة.
كنت أتأمل كل ما تقع عليه عيناي.. محاولاً اكتشاف أسرار هذا الاختلاف.. بعيني طفل ذكي كنت أتطلع إلى تلك الأشياء.. ويبلغ سروري أوجه حين أزور ذلك البيت الجميل..
كل شيء قد وضع في مكانه، كل شيء قد رتب بذوق رهيف.. أصص الأزهار صفت ونظمت حول البحيرة وفي أركان الفناء.. البركة الرخامية ذات القاع الأزرق والنظيف تستقبل وتحتضن مياه النافورة الفضية.
وأكثر ما كان يلفت اهتمامي المطبخ النظيف ذو النوافذ الواسعة المشرعة للنور والهواء.. وكم كان يملؤني الفرح حين كان أتابع بعينيّ حركات أم أحمد وهي تروح وتجيء في مطبخها.. تحضر وجبات الطعام المنوعة.. وكنت أكثر ما يجذبني منها تقشيرها لحبات الثوم.. لكي تضعها بغزارة على "الملوخية" .....
وحين كانت تخرج سميّة من الحمام.. وقد أحاطت شعرها الطويل بغطاء مطرز بالورود.. كنت أسائل نفسي لماذا لا تضع أختي غطاء مطرز الحواشي مثل غطاء سميّة حين تخرج من الحمام؟..
كل ما أراه في بيت أحمد كان يختلف عما أراه في بيتي.
أم أحمد تغسل الثياب في غسالة كهربائية.. ثم تأتي امرأة غريبة فتمسح لها البلاط وتنشر لها الثياب.
أما أمي فكانت تتربع على بلاط المطبخ وأمامها طبق الغسيل.. وإلى جانب هذا الطبق كنت أراقب كفيّها وهما تدعكان القماش حتى ينظف.. هذا المطبخ يتحول فجأة إلى حمّام.. بعد أن يوضع على الوابور وعاء كبير ممتلئ بالماء..
في المساءات، كنت أرى أمي وقد أنهكها التعب متكورة في زاوية من زوايا الغرفة ترفو الجوارب، أو تصلح الثياب.. وحين يحاورها أبي في هدأة الليل كان صوتها يصلني محتجاً غاضباً متذمراً ...
ومع مرور الأيام انتقلت تقطيبة أمي إلى أخواتي الثلاث وكانت تلك التقطيبة تنقلب فجأة إلى صراع حاد.. وإلى شجار عنيف، فتنهال الشتائم على رؤوسهن ثم لا يلبثن أن يقتربن منها محاولات إزالة غضبها بمداعبتهن وكلماتهن الحنون.
وأنا صغير.. كنت أرى كل هذا.. ثم لا أدري لم كانت عيناي تتجهان إلى المنزل المقابل لمنزلي؟! وتنهال عليه أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة.. لا يملك الرد عليها فيصاب بالصداع.
والمشهد الذي ملأ عينيّ وقلبي حسرةً.. هو اضطراري لحمل تلك البراميل الزرقاء ..أو حاويات الزيت الصفراء الصغيرة.. لأملأها بالماء من بيت الجيران.. أو من "الحنفية العامة" القريبة ..متناوباً تلك المهمة مع أخواتي البنات.. هذه المهمة كانت أصعب المهمات.. إذ لا تتوقف حتى يمتلئ المستودع الكبير المبني في زاوية من زوايا المطبخ.
هذه الأمور وأشياء أخرى جعلتني أدرك جيداً أن بوناً شاسعاً، يفصل بيني وبين صديقي أحمد.. الذي صار بيته في نظري مثلاً يحتذى..
علا صوتي الداخلي، مفتشاً عن الخلاص، ورسمت الأهداف البعيدة والقريبة وأنهيتها هدفاً هدفا.. صلباً انطلق في دراستي الجامعية.. نلت الدكتوراه وقد كنت أتلظى على نار الفقر والحاجة.
عشرين ساعة عمل في يومي الطويل.. وتركت الساعات القليلة الباقية للراحة.
ومرت سنوات طويلة تناسيت بها نفسي.. ألفت كتباً كثيرة وأنا في الثلاثين من عمري.
امتلكت كل شيء.. البيت الجميل، والسيارة......والعمل في مكتب فخم....
أنا الآن، أستريح .....
وحيداً أجلس في الشرفة.. وأراقب الأبنية التي غطت المكان.. ثم أرجع لأفصل ظروف ماضيّ.
شكرت الله على الآمال التي تحققت.. الآن لديّ وقت للتأمل.. ربما يهبني الله سنوات قليلة أحياها في هدوء.
بيتي الآن أجمل بكثير من بيت أحمد.. والآن أمي سعيدة لا تشكو من التعب والإرهاق كما كانت تشكوا.. ومطبخنا يعج بما لذّ وطاب.
لم أعرف _رغم تلك المقارنات التي عقدتها مع صديقي أحمد_ معنىً للحسد.. كنت أراقب بحب، وأرسم طريقي بإخلاص.. لأحقق الهدف.. انتفضت من رحلتي الطويلة التي غرقت فيها وكأنها تشابه تلك الورود الملونة الملتصقة بسياج الحقل المجاور والتي تبتسم لي بصمت..
صباح الخير يا ولدي.....قم يابنيّ....
صوت عذب أيقظني من أحلامي.....إنها أمي.... نهضْتُ ..وكأني تأخرت عن مكتبي وعملي..ولكن تذكرت أني لست سوى طالب تخرّج حديثا "ليسانس".. ومزال يبحث عن عمل ...وموعد الخدمة الوطنية قد دنا.....هو حلم جميل ....أليس كذلك ..؟
لكن قد أحقق أحلامي يوما......حتما سأحققها باذن الله......
ليلة:/5/12/2012